البحث

التفاصيل

مناظرة الرئيس والمرشح

الرابط المختصر :

كان ذلك عام ١٣٩٥هجري، ١٩٧٥ميلادي، وكنت طالباً مستجداً في كلية الشريعة، أكاد أحفظ كتاب (شهداء الإسلام في عهد النبوة) وكتاب (الإسلام بين العلماء والحكام)، حين أسمعني صديقي القاضي سليمان المطلق مقطعاً صوتياً التقطه من الإذاعة المصرية لشابٍ مصري واجه الرئيس السادات بكل شجاعة وثبات، وقال: "إزاي سيادتك أبعدت الصادقين أمثال الشيخ محمد الغزالي اللي اتشال من جامع عمرو بن العاص وحين خرج الناس للاحتجاج ضربتهم الشرطة علقة ساخنة، ولم تبق حولك إلا المنافقين اللي بنافقوا سيادتك".. خرج السادات عن هدوئه وبدأ يصرخ: مكانك.. قف مكانك.. ما تتحركشي.. مش شغلك.. كيف تقول مثل هالكلام لأبو العيلة.. وتتكلم عن رجل ما سجن ولا حوكم، وهو يستغل عواطف الناس الدينية، ويحاول إثارة فتنة طائفية في البلد؟.

كانت مفاجأة نادرة لا عهد لنا بها جعلتنا نردد حديث (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر).. كلمة في وجهه وأمام الملأ احتج فيها الطالب بلسانه على ضياع الهوية المصرية ومصادرة الحرية، ولم يخف لوم اللائمين، وما أكثرهم! ولا بطش السلطة وعنفها وما أقربه!

الرئيس السادات رحل في موقفٍ مشابه حين فاجأه المهاجمون في منصته العسكرية وأردوه ثم وضعوا سلاحهم، ولو أن الحاكم اعتبر بالأولى لربما سلم من الثانية،كانت الأولى إرهاصاً بما يعتمل في نفوس النشء الجديد من أسئلة واحتجاجات، وكانت الثانية ثمرة اليأس من الاستماع والحوار الجدي.

الرئيس كان يعلن دولة العلم والايمان ويردد شعارًا لا يطعم المواطن المصري ولا يستجيب لأحلامه الذاتية ولا القومية، ولم يلتفت للفجوة التي تتسع بينه وبين الأجيال الصاعدة.. فخره بأصوله الريفية جعله يتحدث بالروح الأبوية، وكأن الشعب أبناؤه، ولذا عليهم لزوم الأدب والاحترام وعدم رفع الصوت على (أبو العيلة المصرية) الذي يجوع ليشبعوا ويسهر ليناموا!

لم يجد حرجاً أن ينتقد الشيخ محمد الغزالي ويتهمه بالتحريض على الفتنة الطائفية، وقد كان رحمه الله أبعد الناس عنها، وبتوظيف الدين لمصالحه، وهو الذي ضحى وصبر وواجه عدوان السلطة وجحود بعض المخالفين، ونشر كتابه الجميل (الإسلام والاستبداد السياسي)، ولفظ أنفاسه وهو ينافح عن الحق بروح لا تعرف الخنوع وبلغةٍ راقية لا تعرف الإسفاف.

العزاء أن التاريخ ينصف المظلومين فقد رحل الغزالي وعرف الكثيرون حسن نيته وسلامة قصده وشدة غيرته وقوة إيمانه فعلت عندهم مرتبته ولو اختلفوا معه فلم يزل الناس يختلفون.

منذ سمعت تلك المناظرة الصادعة وأنا أتساءل في سري عن مصير ذلك الشاب المغامر، وقد سمعت وقتها أن سيارة عسكرية دهسته، كما سمعت مثل هذه الشائعة عن الشاب الشاعر هاشم الرفاعي صاحب (رسالة في ليلة التنفيذ):

لم تيق إلا ليلة أحيا بها.. وأحس أن ظلامها أكفاني

ستمر يا أبتاه لست أشك في.. هذا.. وتحمل بعدها جثماني...

يبدو أن الرجل لم يصب بأذى، وهذه تحسب للسادات على أي حال.

لماذا تسكت أجهزة الأمن على الشائعات؟ أهو عدم المبالاة برد فعل الناس؟ أم الرغبة في صناعة هيبة وذعرٍ تعتقد أنه يمنع من كثير من العمل؟.. أياً ما كان فهو يصنع تراكماً سلبياً شعبياً يصعب استدراكه.

كانت تلك المناظرة الشجاعة هي مفاجأتي الأولى، أما مفاجأتي الثانية فحدثت بعدها بنحو أربعين سنة، كانت البارحة حين هممت أن أكتب عن القصة وأتساءل عن بطلها فإذا بي (أكتشف) عبر مئات المواقع اليوتيوبية والقوقلية أن الذي فعلها هو الشاب (عبد المنعم أبو الفتوح) الذي لايزال شاباً في مثل سني!

قبل أبو الفتوح يبدو أن (حمدين صباحي) كان قد واجه السادات بما لا يحب، والرجلان ترشحا للرئاسة وحق لنا أن نقول لهم قولاً كريماً: شكراً على سابقتكم الشجاعة، واتقوا الله في شعب مصر فهو أمانة في أعناقكم!


: الأوسمة



التالي
الشَّبَابُ.. أَمَلُ الأُمَّةِ وَمُسْتَقْبَلُهَا
السابق
إطار التكافل الاجتماعي الإسلامي

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع