البحث

التفاصيل

إطار التكافل الاجتماعي الإسلامي

الرابط المختصر :

عندما نتحدث عن التكافل الاجتماعي في الإسلام، يجب أن نعلم أننا نعالج عضوًا في جسد، وجزءًا من كل؛ فالتشريع الإسلامي بينما يعالج قضايا الحياة المختلفة -اجتماعية كانت أو اقتصادية- فإنه يبقى دائمًا نسيجًا محكمًا لا ينفصل فيه جانب عن الجوانب الأخرى، بل إن التشريعاتِ الإسلامية كلَّها لا تنفصل عن الإسلام (الكل)، وبالتالي لا بدَّ للتشريعات أن تقوم فوق عقيدةٍ نقية، وأن ترتبط بالجوانب الأخلاقية والعبادية.

ولعل هذا الارتباط بين الجزء والكل أهمُّ الفروق بين الإسلام والفلسفات الاجتماعية والاقتصادية الوضعية التي تعالج قضايا الإنسان بطريقة تمزيقيَّة، وقد يدفع هذا إلى تضخيم الجانب الذي تعالجه على حساب الجوانب الأخرى، كما أنه يدفعُها بالتأكيد إلى التعامُل مع الإنسان -في إطاره الشامل- بطريقةٍ خاطئة.

والتكافل الاجتماعي نوعٌ مِن التقْعيد النظري الرحيم للأسس الصالحة لقيام المجتمع البشري المتماسك، الذي لا تقوم العلاقة فيه على أساس القواعد التشريعية فحسْب -حتى مع شمولية هذه القواعد وسموها- بل قد توجب بعض الحالات الارتفاعَ فوق هذه القواعد؛ وذلك مثلما فعل الأنصار مع المهاجرين عندما شارَكوهم في دُورِهم وأموالهم، بل وقد عرَض الأنصار على إخوانهم المهاجرين أن يَقتسِموا معهم هذه الأموالَ والعقارات مناصفةً، فهذا نوع مِن الإيثار والتكافل لم يجعله الشرع فرضًا، وتركه للمستوى الأخلاقي للمسلمين في ظل معاني الرحمة والأخوة الإسلامية.

ومِن العجيب أن الأنصار لم يُعطوا ما أعطَوا استشعارًا منهم بواجب شرعي تُمليه عليهم قواعدُ تشريعية؛ وإنما فعلوه بنوع غريب مِن الحب، ودرجة كبيرة مِن الإيثار، خالية تمامًا مِن مشاعر الأثَرة والشحِّ؛ قال تعالى في تصوير هذه الحالة الفريدة في التاريخ: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].

ومن السياق السابق نعلم أن التعامل مع الجوانب الاجتماعية في الإسلام يقف فوق أرضيةٍ عقدية وفكرية ونفسية وأخلاقية معيَّنة، وأن المسلم يعالج هذه القضايا في إطار مفاهيمِه الإيمانية الكُليَّة؛ فهو لا يقوم بها لأنها أوامرُ قانونية، ولا قضايا مصلحية عامة، يَتبادل فيها الفرد والمجتمع الخدماتِ بطريقة جدلية تبادُلية، وقد تَنتهي هذه العلاقة بمجرَّد الشعور بانقضاء المصلَحة، أو بالتحايل على القانون؛ فالأصلُ العقديُّ والعباديُّ للقضايا الاجتماعية في الإسلام، والمنهج الذي يجعلها جزءًا مِن كلٍّ لا تنفصل عنه - هذا الأصل وهذا المنهج يجعلان للتكافل الاجتماعي في المجتمع المسلم قسماتٍ خاصةً يَنفرِد بها عن كل النظريات الاجتماعية التي ظهرت في القديم والحديث.

ويؤكِّد لنا أن هذه النظريات كانت تنظر إلى التكافل الاجتماعي على أنه مجرَّد تنظيم للعلاقة التي تربط الفرد بالمجتمع، وتمنَع طغيان أحدهما على الآخَر، وتضع الأسُس التي تضمن تَسَانُدَ المجتمع أفرادًا وطبقات، وتتيح للجميع قدرًا متكافئًا مِن الفرص والحقوق، وتُلزم الجميعَ بقدر عالٍ من الواجبات.

• وهذه النظرة -كما نرى- تضع التكافل الاجتماعيَّ -بعيدًا عن الشعور الروحي- مُنْحصرًا في مستوى قانوني ومصلحي بَحْت، بينما تؤكد لنا الحقائق الموضوعية والتجارِبُ الإنسانية أن الإنسان -كفرد، أو كأسرة، أو كمجتمع صغير أو كبير- لا يمكن أن يحافظ على كيانه الرُّوحي والمادي بالقانون أو المصلحة وحدها.

• ومع هذا، فإن التجارب الاجتماعية الحديثة قد سقطت في هذا التصورِ حين غلَّبت النزعةَ المادية عليها، فماتت فيها الروحُ الإنسانية، وذبلت القيَم الدينيَّة، وأصبحت الحياة حلَبةَ سِباق مِن أجل تحقيق مزيد من الترف والرفاهية والاستهلاك، ولولا قوانين الضرائب الصارمة التي يَفرضها القانون والشرطة، لتعرَّضت هذه المُجتمعات لانهيار كامل.

• وفي المقابل نجد الدول الإسلامية -عبر التاريخ الإسلامي- قد تعرَّضت لنكسات كبيرة، وقد عجزَت مؤسَّسات الدول في كثير مِن الظروف عن توفير الحاجات الأساسية للمجتمع من غذاء وكساء ودواء وتعليم، فقامَت الأمة المسلمة بدوافع الإيمان والعقيدة بسدِّ الاحتياجات التي عجزتْ عنها مؤسَّسةُ الدولة.

• ومِن هذا المنطلق نشير إلى الربط العضوي القائم بين مصطلحات "الأمة"، و"المجتمع"، و"التكافل الاجتماعي"، وأخيرًا يأتي مصطلح "الدولة" الذي يقوم بدور خطير، لكنَّ الأمة مع ذلك لا يجوز لها أن تَيْأسَ، ولا أن تترك التكافل الاجتماعي في الحالات التي تَعجِز فيها الدولةُ عن القيام بهذا التكافل، أو الحالات الأخرى التي تَتنكَّر فيها الدولة لرسالتها، وتخدم شرائحَ معيَّنة، وتُهمل الشرائح الاجتماعية الوُسطى والضعيفة.

• وانطلاقًا من هذا الإطار، يضع الإسلام مصطلح "التكافل الاجتماعي" في موقعه الصحيح، وسوف نعالج المفهوم الإسلامي العِلميَّ لهذا المُصطَلح.


: الأوسمة



التالي
مناظرة الرئيس والمرشح
السابق
الأوهام والحقائق في سياسة إيران

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع