البحث

التفاصيل

العراق.. نظرية المؤامرة وتحديات الثورة

الرابط المختصر :


عاش العراق أحداثا متسارعة للغاية لم تستطع مؤسسات الإعلام والبحوث دراسة مسبباتها بدقة، فضلا عن استشراف مستقبلها.

وكان أهم مدار أبرزته هو حقيقة وأهمية الهيكل الذي أُنشئ من خلال الاحتلال الأميركي الإيراني المزدوج للعراق في أبريل/نيسان 2003 بعد سقوط بغداد, وما تبعه من تجذير عجيب لصناعة مسمى ديمقراطي لمنظومات وتراث طائفي غاية في القبح والخرافة تمت رعايتها دوليا وسُلم لها العراق، ومع كل ذلك فشلت في تحقيق أدنى درجات صناعة الدولة وأظهرت شخصيتها ككانتون طائفي مريض فُرض على العراق، فانهار في اختبار علني وفضيحة تاريخية لمؤسسيه.

كما أن الحدث الكبير الذي جرى بعد سقوط الموصل ثم تتالي العمليات إلى ما بعد الموصل -وبغض النظر عن منفذي الزحف العسكري- أظهر بجلاء شامل ودون أي تحفظات موقف المشرع الدولي والهيئات السياسية والإعلامية للاتحاد الأوروبي وعالم المصالح من تل أبيب إلى بكين، كشريك فاعل وقوي في دعم الهيكل الطائفي الذي صممته إيران، اعتبرت هذه المؤسسات أن هذا الهيكل حصان طروادة لمصالح استعمارية تجمعها مع إيران، خوفا من أن تتحول الأحداث إلى حركة تحرر للعراق والمشرق العربي، وتخليص إرادته.

 

وبالتالي كُشف الستار كليا عن أن المشروع الطائفي في العراق والمنطقة الهزيل والمناقض لأبسط قواعد الإنسانية يُدعّم عالميا لأنه ذراع لتلك المصالح، وتحولت قواعد اللعبة الإيرانية من فتوى السيستاني حتى مليشيا أبو الفضل العباس وحسن نصر الله إلى ذراع دولية للناتو وواشنطن في بازار العراق الدامي.

ليتكرر المشهد كما كان في ليلة دمشق وآمال ثورتها الديمقراطية فتُذبح ويُذبح العراق بعمامة الطائفية وقصف الإرادة الأميركية، الذي تحقق في دمشق بطائرات الأسد وفي العراق بمقاتلات البنتاغون التي تهدد بها اليوم وتعلن رسميا عن توافقها مع طهران لحماية الكانتون الطائفي المشترك لمصالحهم، وهو أبعد ما يكون عن ديمقراطية العراق وحريته.

كما أن المشهد أخرج من جديد أزمة الوعي السياسي في الوطن العربي مجتمعيا في ظل إحباطات كبيرة يعيشها بعد النقض الدامي لربيعه، وصعود مشاريع متناثرة تختلط فيها الصورة بين المؤامرة والمقاومة والحدث التلقائي الذي يفرزه صراع الإرادة مع القهر الاجتماعي والطائفي والسياسي كالذي صُبّ على الشعب العراقي وعلى سُنته.

وذلك بعد أن عاش العراق أزمة تفجير منهجية، صنع الاحتلال أرضيتها ورعى توزيعها، وشاركه فكر السلفية الطائفية وذراعه العسكرية في داعش ومثيلاتها، حتى وصل الوضع العام لحالة تعفن انتهت إلى إعلان رسمي لحرب طائفية ببصمة المرجعية الرسمية.

ومن أمثلة هذه الإشكاليات التي تواجه الحالة الثقافية في الوطن العربي وهي تستشرف آفاق الخروج من مضيق الدكتاتورية والاحتلال والجهل المركّب المناقض للفكر الإسلامي الصحيح، قضية رفض إعادة رسم الصورة لأي مشهد وتقييمه بنظرة موضوعية تُفكّكه وتفهم مساراته وتطرح مخاطره بخطاب عقلي وسياسي ناقد لا عاطفي مضطرب.

هذه العاطفية التي عبرت على أحداث الوطن العربي وساهمت في الرفض والإعراض عن التحذيرات السياسية والوعي الفكري وأصول التحرك والعبور بين المضايق لتستوي السفينة على الجودي قبل أن يشتغل ربانها وبحارتها بالحُداء وقد بلغ الخرق مبلغه فيبتلعها البحر ويترك للبحّارة الجدل وعنف الملامة.

هذه التجربة التي عاش آثارها الربيع المصري حين كانت تُقدم النصائح للإخوان بتدريج الانتصار وتحييد الخصوم وبناء جسور الشراكة لتطويق الدولة العميقة المدعومة فلم يستبينوا القول إلاّ ضحى الغد، تكرر شبيها لها في عدم التعامل الجدي مع صعود الاختراق القاعدي باسم داعش أو غيرها حين دعمت من تبرعات شعبية خليجية وشكلت خطورة تفريق الرمز الشعبي للمقاومة في الجيش الحر لسوريا مهما بلغت أخطاؤه التي تظل فرعية، ولا تزال -أي هذه التجربة- تحتاج إلى وعي أكبر من الجمهور بل وقيادات مشاريع التحرر الفكري والسياسي في الوطن العربي.

كما أن إشكالية الخلط بين المؤامرة والفرصة أضاع المسار المطلوب اتخاذه عبر نظرية الحذر وفلسفة العبور من عناصر التفوق وتدريج النصر على مدى زمني واسع للمصلحة الإستراتيجية للشعوب وأمنها العام ضمن هدف تحرره وفكره الذي يختاره، وأمامنا تَكررٌ للمشهد في ليبيا الذي استيقظ الوطن العربي وآمال شعوبه على قراءة تذمر شعبي حقيقي يعصف بجمهور الثورة.

نعم هناك تآمر يستغله أعداء ليبيا لنقض دام جديد، ولكنْ هناك فشل حقيقي سببه عدم احتواء قوى إسلامية وثورية للمشروع الوطني وتحييد فكر داعش في الثورة، كما أن الصراع الذي أداره بعض الإسلاميين لقطع أي فرصة تعاون مع قوى تُنعت بالليبرالية واستخدمت الفتوى لحصارهم ارتد ضد فكرة تأسيس دولة الثورة الدستورية، وهو الفشل الذي يُهدد انتصارهم وانتصار الشعب وحلمه.

وفي الطرف الآخر فإن عصف نظرية المؤامرة من جديد في وعي النخب العربية أو الرأي العام لا يزال مشكلة بحد ذاته، خاصة حين لا يُفرّق بين مؤامرة مفترضة تصنع الحدث ومؤامرة تستثمر في الحدث ومؤامرة توظف الحدث، فيعصف الجدل والنقاش بالأرض وتتبعثر رياح التفكير في تطورات المشهد ليستمر الجدل عن المؤامرة المفترضة، والخصوم يُدبرون في الحدث أو يوظفونه ودائرة الجدل مشتعلة في مراكز القرار المفترضة لمشروع التحرر العربي هنا أو هناك.

ولذلك فإن توازن التفكير اليوم يحتاج إلى عمق النظرة وتنظيم الفكرة واستخلاص التجربة من الأحداث الكبرى التي يعيشها الوطن العربي وخاصة في ربيعه الوردي ونقضه الدامي، وأن يستيقظ العقل العربي من البيات العاطفي، ليس لأن المؤامرة ليست فعلا حقيقيا متناسخا في تاريخ الشعوب والإنسانية ومدخلا لبوابات أجهزة المخابرات العالمية والإقليمية، ولكن لكون الحدث أيضا ينشأ من معطيات واقعية في أحيان كثيرة، والذكاء في حسن توظيفها لأجل الشعب ومشروع حريته بدلا من ملاعنة المؤامرة السابقة في حين انتهى زمنها وتم توظيف الحدث بمؤامرة جديدة لأصحاب المصالح والاستبداد.

 

ومن المهم في هذا الشأن أن تؤمن حركة الفكر العربي المعاصر بكل توجهاتها وتياراتها الصادقة، التي تسعى لتحقيق مشروع تقدم إنساني ودستوري في الوطن العربي وفي صدارتها التيار الإسلامي، بأن الأحداث والوقائع والانتفاضات لا يترتب عنها قيام مشروع إنقاذ شامل بل فقط مرحلة تحرر نسبي يؤسس عليها.

إنها تحتاج استثمارا ذكيا في ظل ترسانة من هياكل الاستبداد وعمقه المتغلغل وقرار العالم النفعي دعم كل هذه الكانتونات المتعددة بأي صيغ سياسية أو دينية، لكونها تضمن تدفق مصالحه وعزل أي قوة توازن قومي من أي تيار يهدد مصالحهم.

إن ما يجري في العراق له أبواب رئيسية لفهمه خاصة في مفصله الأخير في عام 2011 حين بدأ العراق لأول مرة حركة مدنية بقوى شعبية، أعلنت خطابا وطنيا مدنيا يُنظّم العلاقة بين الطائفتين وينتهج وسائط سلمية، فحرصت إيران على قمع هذه الحركة بدعم أميركي واضح، خشية صعود هذه الأفكار لتكوين أرض قواعد شعبية تسترد العراق من محتليه وخاطفيه.

ولقد كانت عناصر هذه الخشية ظاهرة بقوة في خطابات حكومة المالكي، فلجأ إلى فضها أمنيا، ومع دائرة القهر الجديدة وحركة التضامن الوطني التي أحيت فكرة المقاومة المدنية واسترداد هوية العراق والبناء على فكر واضح يطرح الخلاص الدستوري للشعب خارج العملية السياسية للاحتلال، وهو ما أحرج المالكي فطفق يصب عليهم وعلى نسائهم حملات تعذيب وقمع إضافية على ما وقع من تهميش وقتل وقمع وخاصة لسُنة العراق.

في ذلك الوقت كان التنظيم الأم لجذور داعش التي تأسست مع تنظيم التوحيد والجهاد الذي انخرط فيما بعد كفصيل موال للقاعدة ثم انفصل عنها في سوريا بعد صدامه مع فرعها الآخر في جبهة النصرة، يتيه بين الصحراء وبين مناطق سوريا حيث رفضته الحاضنة الشعبية السُنية للمقاومة بعدما تعرضت منه لتنكيل وفرض صورة دولة إسلامية مؤسسة على معتقده المتطرف والمغالي على أبناء هذه المناطق وأخذ البيعة لمجهوليها عُنوة منهم.

في حينها أي منذ انتفاضة 2011 كانت العشائر العربية في العراق قد أسست فرق حماية للمتظاهرين وباشرت أعمالا عسكرية لحمايتهم من قصف قوات المالكي ونيرانه، مستفيدة من أن فصائل المقاومة العراقية -التي هزمت واشنطن في 2006 قبل إشعال الحرب الطائفية- هي من أبناء هذه العشائر، أي أن الأرض الجديدة التي سبقت أحداث الموصل وتحرير سجنائها ونسائها الأبرياء كانت قد تشكلت عبر هذه القوى الوطنية للعشائر.

فقط حينها تسربت مجموعات داعش بالتنسيق مع حزب البعث العربي في شق ضباط من القوات المسلحة العراقية قبل الاحتلال والتي كان يقودها الحزب، لتنسيق عمل عسكري منظم باقتحام مباشر ضمن حسابات تقاطعت بين الحزب وداعش، والمفصل هنا كان في هشاشة الجسم العسكري للكانتون الطائفي الذي انهار لأسباب تنظيمية في صفوف خصمه وإحكام خطة الاندفاع والاقتحام العسكري الذي تجيده داعش، في هذه اللحظة اندفعت جموع الشعب المُحاصر والمختنق في الموصل لمباشرة وإعلان المدينة كعاصمة حرة لمشروع الثورة.

في ذات الوقت فإن ثوار العشائر المتمركزين في صلاح الدين وتكريت وفي الأنبار وغيرها بادروا إلى تشديد الهجوم على قوات المالكي فتحصل من ذلك مناطق ميدانية تعيش حرة من قوات ومليشيات المالكي والاحتلال الذي سامها سوء العذاب على مدى سنوات، إضافة الى اغتنام داعش الفرصة والاندفاع نحو مواقع جديدة تفّر منها قوات المالكي قبل وصول المفارز المهاجمة.


هذا هو المشهد الميداني الذي يحاط اليوم بحراك من قبل العشائر وثوراها وفصائل المقاومة والزعامات الوطنية السياسية والعلماء وخاصة هيئة علماء المسلمين التي قدمت مبادئ خريطة طريق واضحة تؤسس عليها الثورة الجديدة، في مقابل وجود قوات لداعش وتوافق بينها وبين حزب البعث دون أي تصادم بين الجهتين، ومع مراهنة من قبل حزب البعث على قدرته على احتواء داعش ضمن المعركة الوطنية لا خضوعا لفكرها التكفيري، وهو ما لا تسنده القراءة السياسية الدقيقة للمراقب.

ومن هنا يتضح لنا، أكان الحدث بحسب ما يظنه البعض مؤامرة أو كان واقعا انفجر من داخل حركة مقاومة مدنية وعسكرية معا دخلت عليها داعش، أن الواقع السياسي هو أن شعب هذه المناطق شعر بحرية وأمن حاليا، كما أن القوى النضالية والسياسية ومعها مشاعر الشعب العربي تشعر بأن هذا النصر حقق لها أرضا ومخرجا تؤسس عليه مشروع التحرير الوطني للعراق الجديد الذي طرحته المقاومة في 2006 عند إعلان واشنطن سحب قواتها التدريجي.

وعليه فإن التحديات اليوم هي كيف يؤمّن هذا المشروع وكيف يُوظف الحدث بدلا عن ملاعنة المؤامرة، وكيف يُنظم برنامج دقيق ومناور لحصيلة سياسية لهذا الانتصار تَحول دون تحويل أرضها لجغرافية محروقة عبر مشروع البنتاغون المعلن رسميا، وخطة الرئيس أوباما التي تنسق مع الترحيب الإيراني، وكيف يؤمّن هذا التغيير وما هي سيناريوهات مستقبل العراق أمام هذا الاختلال في توازن القوى ووجود قوة شاركت بالميدان (داعش) لا تخضع لمعايير المصالح للشعب العراقي ولا للفكر الإسلامي ولا التنسيق الإستراتيجي المرحلي.

هذه السيناريوهات التي تحتاج إلى شرح مستقل نأمل أن نبسطه في مقالات قادمة لكن الأهم وما يشغل بال كل عربي أن يَسبق المشروع السياسي للثورة الجديدة إقلاع الطائرات من البارجة الأميركية والقواعد في الخليج وإطلاق كُتل المتطوعين الطائفية مع الحرس الثوري، وهي الحرب التي يُعلن العالم المصلحي رعايتها بكل وقاحة.

وشجاعة الشعب العراقي لا تعني أبدا دفعه إلى محارق، وليس المطلوب تخليه عن ثورته، لكن حسن إدارتها ودعمه فيها ليخلق قدرات وبطاقات توازن يفرضها بخطاب سياسي يجعل البعد الإقليمي العربي والتركي ومخاوف الأميركيين تضطر للتعامل معها خوفا من تكرار هزائمهم، فيخضع لسلامته التي يستثمرها الثوار لمشروعهم الحر بأقل الخسائر من أبناء شعبهم، وهذه هي سياسة إدارة المعركة لا المحرقة والصياح العاطفي.


: الأوسمة



التالي
قراءة فى المشهد العراقى
السابق
رمضان بين التخلية والتحلية

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع