البحث

التفاصيل

وسق الرومى وحرية الاعتقاد

الرابط المختصر :

 
روى أبو عبيد القاسم بن سلام فى كتاب الأموال عن أبي هلال الطائي عن وسق الرومي ( نصرانى ) قال: كنت مملوكًا لعمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــ وكان يقول لي أسلم فإنك إن أسلمت استعنت بك على أمانة المسلمين، فإنه لا ينبغي لي أن أستعين على أمانتهم من ليس منهم. قال: فأبيت. فقال: ﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ البقرة 256 قال: فلما حضرته الوفاة أعتقني، وقال: اذهب حيث شئت.


وشهد أبو هلال الطائي الراوى فقال: رأيت الذي أعتقه عمر وكان نصرانيًا.


إن عمر يمثل أعلى حالة للقوة والسلطان في الدولة، والمملوك النصراني يمثل أدنى حالة للضعف في الدولة، ومع ذلك يرفض الغلام اعتناق الإسلام في وضوح وقوة غير هياب ولا وجل، بل آمنًا مطمئنًا، ويؤيده الخليفة العادل في تقرير حق اعتقاده بما يحفظه من الدستور الأول ﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ .


بل أعظم من ذلك أن يظل المملوك على نصرانيته كما شهد بذلك أبو هلال الطائي ــ الراوي عنه ــ ولم يؤثر موقفه هذا في اختيار معتقده في نفسية عمر تجاهه، ولم يوغر مسلكه ذلك صدرعمر نحوه، ولم ينقم عليه عمر لمخالفته إياه ، وفي ذلك أعظم المثل في التعامل مع الآخر واحترام عقائد المخالفين، وتقرير حرياتهم، وأعظم من ذلك أن يعتقه عمر بعد هذا كله ويطلق سراحه ويقول له: اذهب حيث شئت. أرأيتم في تاريخ الأولين والآخرين مثل ذلك؟ أرأيتم كيف يخاطب عبد سيده .. بل سيد دولة المسلمين بأسرها؟


والذي نطمئن إليه هو أنه إن لم يكن قد استقر لدى هذا المملوك من خلال رؤيته ومعايشته في المجتمع المسلم أن هذا الحق مكفول له ولغيره، لا يستطيع أحد مهما بلغت مكانته أو عظم قدره حتى لو كان رئيس الدولة أن يسلبه إياه أو يغلبه على أمره أو ينقصه شيئًا من حقه، إن لم يكن قد استقر لديه ذلك لما جرؤ على أن يخاطب سيده ورئيس الدولة بهذه اللهجة الحاسمة رافضًا الدخول في دينه والإجابة لما دعاه إليه حتى ولو من باب المجاملة أو الرهبة أو النفاق لسيده، مما يدل دلالة قاطعة على أنه كان يتمتع بحقه وحريته في الاعتقاد إلى أبعد مدى متصور.


ومسلك عمر ترجمة عملية أمينة من أعلى سلطة فى الدولة للتوجيه القرآنى والهدى النبوى ، فنصوص القرآن الكريم تقطع بنفى الإكراه على المعتقد  ففي القرآن المكي ــ أى الذى نزل بمكة ــ يقول تعالى :﴿أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ يونس 99، وفي القرآن المدني ــ أى الذى نزل بالمدينة ــ  يقول سبحانه: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ البقرة 256 .


ويبرز حق الاعتقاد وحرية التدين في حياة صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم  منذ فجر تأسيس الدولة الإسلامية الأولى حيث يقرر حق الناس فيما يعتقدون وفيما يدينون به ، فقد أبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يكره أحد الأنصار بعد إسلامه ولدين من أولاده على ترك دينهم واعتناق الإسلام ، وكانا قد تنصرا ، ففي قوله تعالى : ﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ أورد شيخ المفسرين الطبرى عن ابن عباس قوله: نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له: الحصين كان له ابنان نصرانيان وكان هو رجلًا مسلمًا، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله فيه ذلك .


وقد روى أبو عبيد القاسم بن سلام بسنده عن عروة بن الزبير قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن: "إنه من كان على يهودية أو نصرانية فإنه لا يفتن عنها" .


وقد قرر فقهاء المسلمين فيما استنبطوه من نصوص قرآنية ونبوية ومن أعمال الرسول وصحابته قاعدة تقول: "أمرنا بتركهم – غير المسلمين - وما يدينون".وبهذه القاعدة المجمع عليها من فقهاء المسلمين حمى الإسلام حرية العقيدة للمخالفين له في ظل دولته .

ولم يحدثنا التاريخ قط عن حالة واحدة حدث فيها أن اشترط المسلمون على الآخرين في المعارك الحربية أن يدخلوا في دين الإسلام ويتركوا معتقداتهم لإنهاء المعركة وقت شوكة المسلمين .

لقد كان الإرشاد القرآني لرسول الله صلى الله عليه وسلم لكيفية الدعوة إلى الله - بالحكمة والموعظة الحسنة  والجدال بالتى هى أحسن - تقريرا بيِّنا  لحرية المعتقد ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ ( ).
وكانت مهمة الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم واضحة لا لبس فيها ولا غموض حددها القرآن بقوله :﴿ إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغ  ﴾ الشورى 48   ﴿ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ النور 54 ، إنها مهمة لا تعدو التوضيح والبيان ، واستخدام الوسائل المعينة في عرض دين الله للناس .

فلا ترغيب ولا ترهيب وإنما فقط البلاغ والتوضيح باللسان والبيان والأعمال والسلوك  ، حتى وإن امتلكت الدولة الإسلامية القدرة على التأثير في المخالفين، وإن استحوذت على الإمكانات ووسائل التوجيه بأسرها فإنها غير مطالبة شرعا بأكثر من التذكير كما قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم  :﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ  ، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ﴾ الغاشية 21 ، 22.


 ويدورالتذكير والبلاغ بعيدا عن أى شبهة إكراه أو تغرير أو إغراء بالمال أو المنصب أوالمسكن أو المطعم أوالمشرب أوالدواء ، على عكس ما يحدث من كثير من المنصرين مع فقراء إفريقيا حيث يستغلون حاجتهم وفقرهم ويشترطون عليهم ترك دينهم وتغيير أسمائهم لكى تصلهم العطايا والمساعدات ، وشعارهم فى ذلك : اخلع عنك ثوب الإسلام نخلع عنك ثوب الجوع ، فضلا عن القتل على الهوية فى بعض الدول .

واستنادًا إلى هذا الرصيد الحضاري والإيماني والأخلاقي لحرية الاعتقاد في الإسلام جاء حق الحرية الدينية في البيان العالمي لحقوق الإنسان في الإسلام (أن لكل شخص حرية الاعتقاد وحرية العبادة وفقًا لمعتقده "لكم دينكم ولي دين" الكافرون 6.


كما قررت الفقرة (هـ) من حق حرية التفكير والاعتقاد في البيان العالمي لحقوق الإنسان أن (احترام مشاعر المخالفين في الدين من خلق المسلم، فلا يجوز لأحد أن يسخر من معتقدات غيره ولا أن يستعدي المجتمع عليه "ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوًا بغير علم، كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم"الأنعام 108 .


: الأوسمة



التالي
المخاض العسير والاختيار المستنير
السابق
عصر الردة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع