البحث

التفاصيل

إلى منهج أهل السُّنة من جديد 2

الرابط المختصر :

توقفنا سابقا عند سؤال: لماذا نستعرض إشكاليات السلفية الطائفية وتأثيراتها السلبية على منهج أهل السُّنة المخالف لتطرفها وتشددها, دون أن نعرض لأمثلة أخرى من التوظيف السياسي لجماعات دينية أخرى، وضربنا مثلا بالمجموعات المنعوتة بالمصطلح السائد اليوم بـ"الجامية".

وقد استخدم بعض هذه المجموعات فقه وتحريض السلفية الطائفية لكن في صور متناقضة، وكان الهدف الذي يجمعها هو التحريض على الإسلاميين والإصلاحيين واستباحة حقوقهم من أي سلطة كانت علمانية أو دينية، مع تفاوت بين ممثليها أو المتأثرين بخطابها من جهل أو تطرف إلى غلو فاحش.

وهنا نقطة نظام مهمة غفل عنها بعض الباحثين هي أن الظاهرة الجامية -التي تستخدم اليوم في صور عديدة (مجموعات صوفية أو ليبرالية أو قومية)- ليست مدرسة ولا اتجاها فكريا بل مشروع توظيف سياسي تمارسه الدول في حقب مختلفة بنماذج أخرى، كمشروع أمني وليس كجناح فكري.

ولذلك فهي صوفية أو سلفية أو ليبرالية أو قومية أو حتى إخوانية قد تستخدم عناصر في هذا التوظيف في أي فترة زمنية, فتعامل في التقييم ذاته من حيث آثارها السلبية على الأمة والمحاضن السنية حين تستخدم لخنق الرأي العام والحريات السياسية وحتى الاجتماعية التي تتصادم مع مصلحة السلطة.


لكن تأصيلنا واستعراضنا التاريخي لما فعلته السلفية الطائفية كانا مرتكزين على تمحورها كأيديولوجية ومدرسة ومشروع تمكّن بالفعل من صناعة تطرف مقيم لا عابر يخضع تارة للتوظيف السياسي وتارة للعنف الوحشي، وتارة لغلق مسامات التفكير والتفقه الرشيد وخنق الحياة والحريات الاجتماعية.

ولذلك عانى منها مسار الفكر الإسلامي والحياة الاجتماعية للمسلمين حين تقرر عليهم قطعيات لم يقطع بها الشرع، وتمنع كل اجتهاد يَردُّ عليها وتجعل نصوص شيوخها عمليا مقام الكتاب والسنة وليس اجتهادا من الكتاب والسنة كما تدعي، مع نشرها مخزونا تضليليا وتكفيريا واسعا من غير مقاييس الشرع وضوابطه المعتبرة لدى مدرسة أهل السنة الكبرى.

وعليه كان من المهم أن تبدأ رحلة الرجوع والتمسك بمنهج أهل السنة بهذه المراجعة الدقيقة التي تسقط العصمة لاجتهادات السلفية الطائفية، والتي تسقط الركنين الحيويين من أصول الشرع وسر تخصيص منهج أهل السنة بحيوية التفقه والاجتهاد، وهما ضمان صحة النص بأصول الرواية والإسناد وتخصيصه دون سواه بالعصمة حين يكون قطعي الدلالة والثبوت، والثاني البعث الرشيد للاجتهاد المنضبط لا الفوضوي الذي تختار منه الأمة سُلّم رقيها الزمني وتقدمها دون إفراط ولا تفريط.

ولا بد هنا من التأكيد على حقيقة أخرى، وهي أن التوظيف السياسي موجود قديما لبعض الفتاوى أو العلماء من العهد العباسي، وخلال حركات البعث الفقهي التجديدي والتحرري، وعلى سبيل المثال: في حين كان الإمام المهدي يقود عبر التصوف كما هو حال العديد من حركة المقاومة ضد الاستعمار في السودان كان أحد أبرز شيوخ الطرق الآخرين يمسك بخطام خيل المندوب الاستعماري لبريطانيا العظمى، ولكن ظلت هذه مواقف وشخصيات وليست أيديولوجية تدمغ بالضلال كل من خرج عن اجتهادها من مدرسة أهل السنة.

ولأهمية هذا المسار في المراجعات نحو مدرسة أهل السنة والعودة إليها وإلى قيمها، نعرّج على ظاهرة خطيرة تعززت اليوم بعد استخدام المال والإعلام السياسي أو من خلال خصومات متجذرة بين الحركات الإسلامية وبين بعض المدارس العلمية الشرعية، فانتهى الأمر إلى تقسيم العالم السني إلى مؤيد للربيع ومؤيد لقمعه وإسقاطه، لمبررات تداخل فيها التضليل الإعلامي ورؤية العالِم المحتقنة أو المجتزأة في حدود اجتهاده.

وعليه، فإن وصم كل عالم بالضلال ورفض علمه كليا لأنه تورط في دعم هذا النقض دون أن يحرض على قتل الأبرياء أو سجنهم مسلك غير صحيح وخطير النتائج، ويحتاج اتحاد علماء المسلمين اليوم إلى حملة ينفتح بها على أولئك المختلفين معه، كما أن تقدير حجم الاختلاف لا يعني بالضرورة إسقاطهم أو استباحة أعراضهم أو تكفيرهم كما جرى من بعض المناصرين للربيع العربي وآماله الديمقراطية التي وُئِدت رغم أن تفهم ما وقع على الضحايا من بأس وظلم وتعدٍ كان واسعا، لكن الأمة لا تزال أمام ضرورة لوضع المقولة الراشدة نصب عينيها "الجموا نزوات العواطف بنظرات العقول".

فيجب وضع اعتبار لمدار الجهل بالشيء، وتقدير الوضع العام للثورات والخلاف مع اجتهاداتها السياسية أمام توظيف إعلامي ضخم بالمليارات لتشويهها واستقطاب كل عالم ممكن ضدها عبر أدوات طلبة علم سلموا أنفسهم لأجهزة أو كانوا مؤمنين بهذا الانحراف، فاخترقوا الحركة العلمية لمنع أي إسناد للربيع المحاصر.

كما أن انفجار جماعات العنف الوحشي التي ولّدتها السلفية الطائفية في الشام وفي طرابلس الغرب وفي العراق جعل أولئك العلماء الصادقين في لبس من الثورات غشى على اجتهادهم، فالرفق ودوام التواصل مع المخلصين المتأولين مطلبان أساسيان لمسار المراجعة الأول.

أما المسار الثاني للمراجعة الذي تحتاجه حركة الوعي الإسلامي فهو ضمن منهج أهل السنة -مسار العودة إلى فقه العدالة والحكم الرشيد- وأول ما نحتاج الوقوف عنده هو اعتقاد البعض أن مصادر التشريع وأدواته نحو العدالة هي مصادر تأويلية يعتسفها أنصار الديمقراطية من الإسلاميين، وقد ثبتت عدم مصداقيتها في تجربة المسلمين، والحقيقة أن هذا الخطأ في التصور مركب بين أكثر من طرف خلال جولات الجدل الشرعي أو الفكري.

ولكن أول ما يحتاج إعادة التأسيس عليه التذكير أن العدالة هي مقصد الحكم الرشيد في أصول النص وليس تأويله، وورود ذلك في الكتاب والسنة ثم في السيرة النبوية ثم في تصنيف العلماء لحكم الراشدين الأربعة، وإخراجهم من لم يلتزم بالعدالة وشرّع التوريث من هذا الحكم الراشد، ثم ضمهم للحسن بن علي ومعاوية بن يزيد وعمر بن عبد العزيز للحكم الراشد كمرحلة مهمة وأساسية لتاريخ التشريع الإسلامي يؤكد أن مناط العدالة والشورى هو الأساس لشريعة العدل الإسلامية وبالتالي يؤسس التفصيل والفروع عليها.

وهذا أول دحض تشريعي واضح لمن يزعم أن الاستبداد والتوريث وردا في الفقه الإسلامي الصحيح، وقد يغض النظر عن وصول الحكم للحاكم بالتوريث، فقط حين يحقق مسار العدالة والرفق بالأمة والمساواة بالثروة كما فعل عمر بن عبد العزيز، ونحن هنا لا نقصد استدعاء الماضي المطلق ولكنه ماضٍ له علاقة بتأصيل الفقه الشرعي، وما بعد ذلك من أدوات فمناط الحكم عليها مناط الحكم على الأصل، من حيث صناديق الاقتراع وتنظيم الانتخابات وجعل الشورى في يد ممثلي الأمة لما يختلفون مع الحاكم فيه.

وهي هياكل وسائط ومفاهيم تتطابق مع وسائط الديمقراطية الحديثة، لكن القول إن الديمقراطية باتت عمليا تترجم كل واقعها السياسي بتحقيق تلك العدالة والمساوة في الأمم هو قول خاطئ بدلالة التجارب التي تعيشها البشرية وولوج التطرف العنصري منها، وإن كان ذلك لا يعني إسقاط العهد الحقوقي المتقدم الذي باشره الإصلاح الديمقراطي وعاشت عبره تلك الشعوب، لكن هناك تجارب أخرى تصادم مبدأ التزكية المطلقة للديمقراطية كوصفة محددة يعتبر أصحابها أن لديها أدوات الممانعة الذاتية، وأنها أينما طبقت نجحت.

ولذلك فإن بعض الجدل الفقهي أو الفكري مجرد خلاف في المصطلح، وبعضه جهل من بعض الشرعيين لاعتقادهم أن هذه الوسائط مبتدعة بالكلية ومنحولة على الإسلام، فيما لا يسألون ذواتهم ماذا عن الاستبداد هل هو سنّة؟

وتبقى قضية صلاحيات التشريع وهي محور جدل عاصف تورطت فيه بعض الثورات قبل تحديد معالمه فطاشت بها الصحف وانهار الميدان قبل كمال المشروع التدرجي.

إن الشرع هو النص المنزل من الله على لسان نبيه محل إيمان وتسليم لا يختلف في ذلك فقيه أو عالم، لكن مقاصد الشرع والوصول إلى ما ندب إليه من العدل وإقرار الحقوق والمساواة بين الناس له فقه أيضا وتجربة، ومن ذلك أن تكون الفتوى في زمن محدد أو حالة معينة بعدم الدعوة لتطبيق الشريعة في هذه الآونة ليس جحودا بها ولا إعراضا ولكن لعدم تكامل عناصر البناء لتحقيق مقاصدها.

في حين أن تطبيقها اسما لا تشريعا كما يرضي الله ينتهي إلى قوانين متناقضة وقاصرة تنسب للشرع المطهر وهو منها بريء، في كل الأحوال فإن مدارس التشريع السنية اليوم بحاجة لهذه المراجعة العميقة لتبين أن مصادرها نحو العدالة والحكم الرشيد أصيلة لا مؤولة، وأن تأييدها الوسائط المؤدية لها هو من السنّة ومصالحها المرسلة قبل غيرها.

ويبقى هناك مدار دقيق للفهم الفكري والفلسفي من تجارب الأمم وصعودها وحرياتها السياسية ومدى نجاح النماذج المعاصرة في ذلك، هذا المدار يأتي بعكس مقولة أنصار الديمقراطية بالمطلق كيفما كانت، وأنها قد وصلت للبلاغ النهائي للعدالة والإنقاذ البشري.

إن هذا القول فيه تطرف كبير، كما أن وعي أصول ودلالات الخصوصية الإسلامية وتوجيهها الدستوري والأخلاقي يعطيان مؤشرات واضحة على أن هذا التفوق الإنساني المؤمّل تحمله فكرة الإسلام ونصوصه، حيث تملك تقنيناته الفكرية والفلسفية الدقيقة للقانون والناس منهج التوجيه للضمير مع الآلة الإدارية الديمقراطية والتي لا توجد في بقية الأديان ولا التقنينات الوضعية.

وحينها يحتاج الباحثون إلى صياغة هذا المشروع عبر مصطلح مقارب للأفهام وهو الديمقراطية الإسلامية، ليس لنزع الحقوق باسم الشرع كما يدعي البعض بل لتكريس العدالة والقيم الروحية معا لحياة الإنسان الفاضلة.


: الأوسمة



التالي
الاسلام عقيدة و شريعة
السابق
لن ننسى ..

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع