البحث

التفاصيل

محطات تربوية من الهجرة النبوية

الرابط المختصر :

المحطة الأولى :
أبناء النسب والتبني بين العهدين المكي والمدني 


من المعلوم أن الهجرة النبوية جعلت للإسلام عهدين يكادان يتساويان :
- عهد الفرد قبل الهجرة , وعهد الجماعة بعدها .
- وعهد الضعف قبل الهجرة , وعهد القوة بعدها .
وخير مثال للفردية قبل الهجرة والجماعية بعدها ما رأيناه من نفقة فردية غير إلزامية من أبي بكر على الفقراء , ومن جود الأرقم بداره على الصحابة , ومن إنفاق خديجة مالها على النبي صلى الله عليه وسلم , ثم كانت جماعية غير إلزامية في السنة الأولى من الهجرة , ثم إلزامية بعد فريضة الزكاة لمن بلغ ماله النصاب .
وأما الضعف قبلها والقوة بعدها , فحال سمية وأسرتها غير خاف على أحد , وهكذا بلال وخباب وزنيرة والرومية وأم شريك .. – رضي الله عنهم أجمعين -  
ثم حال النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته عليهم الرضوان في المدينة المنورة بعد الهجرة , فبالرغم من تعدد الجبهات المناوئة للمسلمين من أهل الكتاب - اليهود في المدينة , والنصارى على أطرافها - ,  وأهل النفاق والشرك المنتشرين في ربوعها , غير أن المسلمين كانوا أقوى منهم .. بسبب قيام دولتهم , وكتابة دستورهم , وإنشاء سوقهم , وتوثيق روابط الإخاء بينهم , وتأكيد العهود مع جيرانهم , وقوة جيشهم , وكثرة أماكن تعبدهم , وانفتاحهم على القبائل المجاورة لهم. وهكذا.


إن الهجرة كما جعلت للإسلام عهدين , فرقت أيضا بين ولدين :
- ابن نسب .
- وابن تبني .
فالعهد المكي عهد خالص كله لأبناء النسب الذين خرجوا من رحم الإسلام , والعهد المدني اختلط فيه أبناء النسب الحقيقي بأبناء التبني الذين خرجوا من رحم اليهود والمشركين ...
إن ابن النسب يشبه أباه وأمه وإخوته – ومن شابه أباه فما ظلم - , فسمته سمتهم , وقسماته قسماتهم , وبريقه بريقهم , وفلتاته فلتاتهم , يتأوه لآلامهم , ويبكي لبكائهم , ويحزن لحزنهم , ويفرح لفرحهم , يجوع لجوعهم , ويشبع لشبعهم , ويعطش لظمئهم , ويرتوي لشربهم .. , رابطة المشاعر والأحاسيس بينه وبينهم عالية .. وهكذا .
والنسب له قرائنه , معلومة أمه ومعلوم أباه , عقد قرانه على كتاب الله وسنة رسوله , وأشهر الفرح واجتمع الناس على الوليمة , وحملت الأم وفاخرت بحملها , وفرح بها والدها وسعدت أمها وتحدث زوجها , ويوم الميلاد كان يوم فرح اختاروا فيه أحب الأسماء لوليدهم الجديد , ثم صنعوا وليمة جمعوا فيها كل أحبابه , والتف من حوله حنان والده ودفئ أقاربه .


أما ابن التبني في كثير من الأحوال لا يعرف أصله , التقطه متبناه ليكفله برعايته ويحوطه بحنانه ومشاعره , يكبر عنده ويسمن في بيته ومحرم عليه نسبته إليه , فاسمه لا يضاف إلى اسمه , وعائلته لا تضاف إلى عائلته , بعد أن يكبر إن كان ذكرا أصبح هذا الذكر أجنبيا على زوجته وبناته وأخواته , وإن كانت أنثى أصبحت أجنبية عليه وعلى إخوته وأولاده .. , ولذلك حرم الإسلام التبني قولا واحدا ,"ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا " (الأحزاب الآية :5).. "وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا "(الأحزاب الآية :37)


إن علامات ابن التبني واضحة , وقرائن ابن النسب معروفة لا تخفي على ذي لب أبدا ..


وبمثل هذه العلامات والصور والقرائن فرقت الهجرة النبوية بين الاثنين , فجعلت العهد المكي كله لأبناء النسب , وأما المدني فاختلط فيه أبناء النسب والحسب بأبناء التبني ..


فأبناء النسب في العهد المكي خرجوا من رحم الإسلام , وتربوا في حضاناته وعاشوا داخل صوبه , صاغتهم الشدائد على عينها صياغة خاصة , عايشوا الوحي في دار الأرقم والشعب فتأدبوا بأدبه , وتحدثوا به , وغاروا عليه , واختلط عرقهم بعرق حبيبهم المصطفى صلى الله عليه وسلم , ودمهم بدمه , وشدائدهم بشدائده , التفوا حوله بعد أن تخلى الناس عنه , وفدوه بأموالهم وأبدانهم عندما أذاه الناس , شبعوا لشبعه , وفرحوا لفرحه , وبكوا لحزنه .., هؤلاء هم أبناء النسب الحقيقي ..


وعندما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبناء النسب الحقيقي عاش فترة في المدينة يؤسس لحياة جديدة بنى فيها السوق , وأسس المسجد , وآخى بين المهاجرين والأنصار , وكتب دستور المدينة ليعرف فيه كل ذي حق حقه من أهلها جميعا مسلمين وأهل كتاب ومشركين.., وأصبح للمسلمين دولة بسطوا سيطرتهم عليها , في تلك الأثناء ظهرت نابتة تبنت الإسلام ظاهرا , وأضمرت له العداوة باطنا , ولاؤها لنسبها الحقيقي , مشاعرها لمن رباها قديما , أنوارهم الإيمانية منطفئة , وظلمات معاصيهم وكفرهم بادية , أخلاقهم لسانية غير واقعية ولا عملية , الإسلام حاضر في الشكل غائب في العمل والسلوك , مصالحهم مقدمة على مصالح الإسلام ... ادعوا وصلا بالإسلام والإسلام لا يقر لهم بذاك , نسوا جميعا أو تناسوا أن التبني في الإسلام حرام .


لقد ظهر لنا أنهم أبناء تبني عندما قسنا أفعالهم بأفعال أبناء النسب في مكة , وساوقنا بين أقوالهم وأقوال المكيين من المسلمين , فظهرت النتائج الواضحة أنهم لا ينتسبون إلى الشجرة التي يتبنوها , ويدعون الانتماء إليها , فشجرتهم الحقيقية حنظل ريحها نتن وطعمها مر , وشجرة المكيين أُترجة طعمها حلو وريحها طيب ..


إن فارقا كبيرا كما بين السماء والأرض بين أبناء النسب وأبناء التبني في الإسلام , وإن مشاهد كثيرة ومواقف متعددة في العهدين تكشف عن المعدنين .. , مثل : زلازل الحياة والولاء والبراء اللذان يرفعانالنسب ويخفضان التبني , وصرخات الدنيا ونداءات أهلها اللذان يكشفان عن زهد أبناء النسب وورعهم , واستجابة ولهاث أبناء التبني .


1- فزلازل الحياة وبراكينها تكشف حقيقة معدن ابن النسب من معدن ابن التبني:
فابن النسب في مكة والمدينة رأى الفرج في شدته , والسعادة في كربته , والربح في خسارته , والغنى في فقره , وعدالة السماء في ظلم البشر له , والصحة الإيمانية في سقم بدنه , رأى أن من لطائف أسرار الله اقتران الفرج مع اشتداد الكرب .., رأى الصبح يطارد ليل الظلم على رؤوس جبال العدل , وبصر من وراء الصحراء رياضا خضراء  , بسمتهم تسبق دمعتهم , وأمنهم يسبق خوفهم , وسكينتهم تسبق فزعهم ..أيقنوا بإيمانهم أن الضال سيهتدي , والعاني سيفك أسره , والظلام سينقشع , فتحولت خسائرهم إلى أرباح ..لأن كواهلهم صلبة , ومناكبهم شداد , وهم عمالقة صبارون ..


فهذه سمية وأسرتها ترى في شدتها الفرج والبشرى بعد قول النبي لها ولأسرتها :" صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة " , فترفع راية بجوار راية قاتلها وترد عليه بذاءته , فيطعنها فيرديها شهيدة تعطر الأرض بدمها , ويتحول دمها إلى وقود لنصر بدر وزاد لفتح مكة .


قال مجاهد : أول من أظهر الإسلام سبعة : رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم ، وأبو بكر وخبّاب وصهيب وبلال وعمار وسمية.


أما الرسول فحماه أبو طالب ، وأما أبو بكر فحماه قومه ، وأخذ الآخرون وألبسوا دروع الحديد ، ثم أجلسوا فى الشمس ، فبلغ منهم الجهد بحرّ الحديد والشمس ، وأتاهم أبو جهل يشتمهم ويوبّخهم ويشتم سمية ثم طعنها بحربة فى ملمس العفة ، وقال الآخرون ما نالوا به منهم ، إلا بلالا فإنهم جعلوا يعذبونه فيقول : أحد أحد حتى ملّوا ، فكتفّوه وجعلوا فى عنقه حبلا من ليف ، ودفعوه إلى صبيانهم يلعبون به ، حتى ملّوه فتركوه.


وقال عمار : كلنا تكلم بالذي أرادوا غير بلال فإن نفسه هانت عليه فتركوه ، وقال خبّاب : لقد أوقدوا لى نارا ما أطفأها إلا ودك (دهن) ظهرى. (تفسير المراغي:14- 148,ط : شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابى الحلبي وأولاده بمصر , وتفسير المنار 2- 252 ,ط: الهيئة المصرية العامة للكتاب 1990م) لقد ثبت كل منهم في ميدانه لأنه يشعر أنه ابن الإسلام الوحيد وكأنه لم ينجب إلا هو , بل ظل حالهم كما هو قبل الهجرة وبعدها " وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (الأحزاب الآية : 22)


أما أبناء التبني في المدينة المنورة فرأوا في الشدة الضيق والنكد , ورأوا في الجهاد الانتحار , وفي النفقة في العسر الفقر .. " وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا(الأحزاب الآية : 12) , " وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (التوبة الآية :86) , " وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (آل عمران الآيات :من 166- 169)


إنهم عبيد ساعاتهم , وأرقاء ظروفهم القاتمة , كما قيل : لا يرون إلا النكد والضيق والتعاسة لأنهم لا ينظرون إلا إلى جدار الغرف , وباب الدار فحسب..


إنهم مهازيل لا يقوون على حمل أثقال الحياة , مرضى لا يقدرون على مجاراة شدائدها , خوارين لا يستطيعون الوصول إلى معاليها .


2- والولاء والبراء يرفعان ابن النسب ويخفضان ابن التبني , لأن ولاء ابن النسب للرحم الذي خرج منه , وولاء ابن التبني للطبع الذي تعوده , وكل إلى طبعه عائد , ففي مكة المكرمة يعلن أبناء النسب ولاءهم لله ولرسوله وللمؤمنين , تنزل عليهم الشديدة تلو أختها وهم ثابتون على مبادئهم , أما ابن التبني الذي ظهر في المدينة المنورة فأظهر ولاءه لمن رباه وأطعمه وسقاه , "الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا () إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ.."النساء الآيتان : 141 , 142, " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ () لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ" (الحشر الآيتان :11 , 12)  , " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ () أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ () اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ "(المجادلة الآيات : 14, 15 , 16) إن ولاء ابن النسب يرتفع مع الشدائد التي تنزل بإخوانه , لأن مواد الشعور والإحساس بينه وبينهم عالية , أما ابن التبني : فإن البراء يرتفع في قلبه ويجري في عروقه مع الشدائد والمحن لأن البلادة شعاره , وموت الضمير قرينه ..


3- وصرخات الدنيا ونداءات أهلها , تُظهر حقيقة المعدنين , فمعدن ابن النسب أصيل , يظهر وينضح مع مساومة أهل الدنيا وأتباعها له مقابل أن يتخلى عن مبادئه , فهو لا يقبل المساومة لأن مبادئه ليست صفقة تتغير بتغير العرض والإقبال , والزمان والمكان , ولأن مبادئه واحدة لا تتجزأ , إنه ثابت على مبادئه مهما كان الثمن المدفوع من وقته أو صحته أو أبنائه أو ماله .. " والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه " وهذا رده على من عرض عليه أن يكون الأمر لهم من بعده صلى الله عليه وسلم , وذلك مقابل حمايته " إن الأمر لله يضعه حيث يشاء " , يقول الله تعالى : "   مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ "(هود الآية :15) أما ابن التبني , فإنه يرى الدين صفقة يتاجر به , إذا ما خسر ألقاه وانتقل إلى غيره , وإذا ربح حمله , فهو يحمل الدين لينافس به لا ليتعاون , ويبتدع لا ليتبع , ويلغي الآخر لا ليعترف به .. وهكذا , وهل شعارهم في المدينة : سمن كلبك يأكلك إلا من هذا القبيل ..


4- والدعوة يحملها ابن التبني على كتفه , ويحملها ابن النسب في قلبه , وشتان بين الاثنين , فالأول يحملها ولربما لا يعرف قيمة ما يحمل , فيطرحها مع أول عثرة قدم لثقلها عليه , أو يحملها على كتفه ويأخذ منها ما يتماشى مع أهوائه , ما يخدم مبدأه يأخذه وما يخالفه يطرحه , أو لا يتلفت إليه , أو ينكره .., وهذا ما رأيناه من بعضهم في المدينة وهم ينكرون الجهاد والصدقة , بل كانوا يلمزون المجاهدين من المؤمنين , والمتصدقين الفقراء من أبناء النسب .., " إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ "(الأنفال الآية :49) , "الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ "(التوبة الآية : 79) أما أبناء النسب فإنهم يحملون الإسلام في قلوبهم , ويجري في دمائهم حتى أصبح جزء من كرات دمهم البيضاء والحمراء , لا يتخلون عنه ولا يطرحونه , يأخذونه بشموليته , يقبلونه بشدائده ويسره , فهذا علي كرم الله وجهه يبيت في بيت النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة وهو يعلم أن الأعداء لربما انقضوا على البيت فقتلوا من بداخله , وهذا أبو بكر يوظف أسرته وماله ووقته لخدمة الدعوة , بل يخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أن الأعداء لربما لحقوا بهم في الطريق فآذوه ونالوا منه , ولأن الإسلام يجري في عروقهم , ويحملونه في قلوبهم لم يبالوا بشدائد الزمان ولا بمساومة الأعداء .., وهكذا كانت سمية وزنيرة وأم شريك والنهدية , وبلال وخباب وياسر وعمار وصهيب والأرقم وسلمان ومصعب ... - رضي الله عنهم أجمعين - 


5- أما عن معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لأبناء التبني في العهد المدني الذين تبنوا الإسلام ظاهرا وأنكروه باطنا , فعاملهم معاملة حسنة , ورفق بهم مع إعلامهم أنه يعرفهم ويعرف مؤامراتهم , "إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ () ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ () فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ () ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ () أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ () وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ () وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (محمد الآيات من : 25 :31) ولم يرضى بقتلهم أو نفيهم " نحسن عشرته ما بقي بيننا " , وقال لمن أراد أن يخبره عن مجموعة منهم " لا تخرقن على أحد سترا , من جاءنا استغفرنا له " , وقال لمن نادى بقتالهم" أتريدون أن يقال : أن محمدا يقتل أصحابه " .. فعل ذلك لأن الآخر الذي كفر بالإسلام وأظهر له العداوة والبغضاء , يرى ابن التبني مسلما , فكان لا بد من معاملتهم كأنهم مسلمين , وترك باطنهم لله رب العالمين كما حدث في غزوة العسرة وغيرها ..


6- علتنا اليوم .. تكمن في :
1-  أن عدد أبناء التبني أكثر من عدد أبناء النسب , بخلاف الصدر الأول من الإسلام الذي كثُر فيه أبناء النسب , وقل فيه أبناء التبني .. , ولذلك وجب على القائمين على المصافي الدعوية أن ينتبهوا جيدا حتى لا يفلت ابن تبني فيلحق بالمحراب الدعوي , وأن يضعوا الضوابط اللازمة , وأن يرسموا الأطر القوية , ويوضحوا الصفات الدعوية لمن يرغب في الالتحاق بالساحات الدعوية وميادينها .. 


2- كان الوحي يكشف للنبي صلى الله عليه وسلم عن مؤامراتهم ودسائسهم أولا بأول , ولحظة بلحظة , يتآمرون مع اليهود فيكشف الوحي عن مؤامراتهم , يتفقون من المشركين فيخبر عن صفقتهم , يكيدون للنبي - صلى الله عليه وسلم - , والصحابة الكرام - رضي الله عنهم - , فيخبر الوحي عن كيدهم  , أما اليوم فما بقي سوى علاماتهم التي تركها لنا الوحي , ولذلك وجب التنقيب عن علاماتهم وصفاتهم وتلقينها للأجيال حتى يحذروها .


3- لنعلم أنه لن تنتصر دعوة وفيها أبناء تبني فيجب الحذر والحيطة , وتخليص الدعوات الإصلاحية منهم , إنهم يفرون عندما يجد الجد , ويهربون عندما تحمر الحدق , ويجبنون عندما تنتفخ الأوداج , "فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (البقرة الآية :246) , يتقون ببيوتهم لا بسيوفهم ," وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا " (الأحزاب الآية :13) وأعلنوها في أحد : علام نقتل أنفسنا , ولذلك نقول لإخواننا في المحاريب الدعوية , والساحات الفكرية , والدعوات الإصلاحية افطنوا لهم , ونحوهم جانبا لأنهم "لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ "(التوبة الآية :47) لا تفرحوا باختلاطهم بكم , وتكثيرهم لسوادكم وأعدادكم ف " كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (البقرة الآية :249)


نسأل الله أن يجعلنا أبناء نسب للإسلام , نحمله في قلوبنا في الدنيا , ويشفع لنا بين يدي خالقنا يوم القيامة ...


: الأوسمة



التالي
عروبة الحضارة وإسلاميتها
السابق
الفقهاء ضمير الأمة الحي

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع