البحث

التفاصيل

مدينة القدس هي عاصمتنا السياسية والوطنية

الرابط المختصر :

ذكرت في المقال السابق أن المسلمين علموا ما تمثله مدينة القدس المباركة في عقيدتهم ؛ فحرسوها وسيَّجُوها بأرواحهم ورووها بدمائهم ، فما تعرضت يوماً لغزو أو احتلال أو مساس إلاَّ هبَّو لتحريرها ورد العدوان عنها ، لأن التخلي عنها تفريط في العقيدة ، وطعنٌ لهم في عزتهم وكرامتهم ومظهرٌ لهوانهم ، فكانت دوماً من أبرز عوامل وحدة الأمة .


لذا فقد أولاها الخلفاء وقادة الأمة بالرعاية والحراسة والحماية ، وقد كانت البداية بالفتح العمري الذي كرّس إسلاميتها وعزز طابعها الإسلامي ، فلم تُرَق فيها قطرة دم ، واشترط بطرقها الأكبر صفرونيوس أن يسلم مفاتيحها إلى خليفة المسلمين بنفسه وكان لهذا الشرط دلالته ووزنه السياسي والديني ، فاستجاب عمر وخرج فعلاً من المدينة المنورة إليها في رحلة تاريخية ، وتسلم مفاتيحها دون سائر المدن الأخرى التي فتحت في عهده ، وعقد مع أهلها اتفاقية الأمن والسلام المعروفة بالعهدة العمرية ؛ والتي شهد على وثيقتها أربعة من الصحابة رضي الله عنهم ، فمثلت أساساً للعلاقات بين المسلمين والمسيحيين في هذه الأرض المباركة ما زالوا يسيرون على هداها حتى اليوم ، أمَّنهم فيها على معابدهم وعقائدهم ودمائهم وأموالهم ، وتعهد لهم بعد إصرارهم بتنفيذ اشتراطهم عليه بألاَّ يسكنها معهم أحد من اليهود ، وحفظ لهم هوية كنائسهم ولم يحاول الاستيلاء عليها ؛ بل امتنع عن الصلاة فيها لئلا تكون صلاته سبباً في سيطرة المسلمين عليها في أي عهد من بعده ، لكنه لم يجد فيها كنيساً ولا هيكلاً .


إن أهمية هذه المدينة المباركة وقدسيتها ؛ ومكانة المسجد الأقصى العقائدية لدى المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها جعلتها مطمعاً للغزاة . ويمثل الاحتلال الإسرائيلي لها ولأرض فلسطين أبشع صور غزوها على مر التاريخ ، فهو يدنس المقدسات وينتهك الحرمات بمخططات ومؤامرات واضحات ؛ والأدهى من ذلك أن معظمها دخل حيز التنفيذ وأمة الإسلام ذاهلة لاهية أسكتها الضعف والإرهاب وخوف القوة الغاشمة .


شهدت مدينة القدس أياماً عصيبة باحتلال الفرنجة مدة قاربت قرناً من الزمان ، عانى فيها المسلمون المرارة والبلاء والألم ، فتولَّد لديهم الأمل والتلهف لاسترجاعها والجهاد من أجلها ، إضافة إلى التعلق الروحي بها ، وتحولت هذه المدينة ذات الحرمة البالغة إلى رمز الجهاد والتحرير . نزح أهلها تحت ضغط مذابح الفرنجة إلى الشام والتي كان منها ذبح سبعين ألفاً في ساحات المسجد الأقصى المبارك ، استقبل نور الدين المقدسيين في دمشق وقرّب علماءهم ، فثابروا على مساندة الجهاد وشاركوا في جيشه وجيش صلاح الدين ، الذي حررها من الفرنجة في ذكرى الإسراء والمعراج عام 583 للهجرة بعد موقعة حطين . وفي غمرة هذا الانتصار والعزة والتمكين لم ينتقم ، بل استحضر قول الله تعالى { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } النحل 126 وخيّرهم بين العودة من حيث أتوا أو البقاء في ظل رعاية الإسلام وسماحته ؛ مما يؤكد أن المسلمين على مر الأيام هم المؤهلون للسيادة على الأرض وحماية الإنسان والمقدسات .


وفي رمضان عام 658 للهجرة كانت معركة عين جالوت بقيادة المظفر قطز شاهداً آخر على قيام الأمة بفريضة تحرير بيت المقدس وتخليصها من براثن الأعداء ، فقد تصدى كل من الظاهر بيبرس والمظفر قطز للغزو الوحشي التتري الذي اجتاح العالم الإسلامي حتى انهزموا شر هزيمة ، ثم حررت نهائياً على يد الأشرف خليل بن قلاوون .


ظلت مدينة القدس المباركة أرضاً للسلام ما دامت جزءاً من دار الإسلام ، وكانت على مدى التاريخ الإسلامي مركزاً عاش فيها المسلمون والمسيحيون معاً ، لكنها نُكِبَت منذ الفتح الإسلامي - الذي لم يَرْتَقِ أيٌّ من غزاتها أو فاتحوها إلى مستوى عدالته وتسامحه - بكارثتين في تاريخها من أسود أيامها وأحلك لياليها ، كارثة احتلال الفرنجة التي اندثرت ، ونكبة الاحتلال الصهيوني التي ستندثر بإذن الله .


لم يتمكن الفرنجة قديماً ولا الصهاينة حديثاً من إثبات وجودهما في القدس وفلسطين إلاّ بمحاولتهم تدمير الوجود الإسلامي فيها من خلال جرائم التطهير العرقي وبهدم تاريخها العربي وتغيير تراثها الفكري ؛ في محاولات فاشلة للتنصير أو التهويد ، بينما تميَّزت النظرة الإسلامية إلى القدس عقائدياً وتاريخياً بأنها رؤية تسامح وتعايش وسلام بين الجميع ، فهل هدم المسلمون كنيسة فيها أو حاولوا أَسْلَمَتَها !


لم يصنعوا شيئاً من ذلك ، بل ظلت القدس المباركة تفيض بالتسامح الذي رعاه الإسلام ، وبالحريات الدينية التي احترمها للآخر . فبينما حرَّم الفرنجة على المسلمين دخول القدس أو ممارسة شعائرهم التعبدية فيها ، وصادروا الأماكن الإسلامية المقدسة ، وبالأخص المسجد الأقصى المبارك وقبة الصخرة المشرفة ، وحاول الصهاينة وما زالوا يحاولون تهويدها بصورة ممنهجة منظمة منذ احتلال مدينة القدس عام 1967م دون توقف وبكل الوسائل الممكنة ، فإن المسلمين تركوها مفتوحة أمام المسيحيين ، وتولوا حماية مقدساتهم فيها .


وفي التاريخ المنتظر الذي ستنتهي في إثره الحياة الدنيا ، ستكون القدس أرضه ومسرحه :
يبدأ بسيطرة الكفر وانتصاره وانتشاره في آخر الزمان ، فتكون القدس يومها ملاذاً للناس وعصمة ، ففيها خلافة المهدي ، قال صلى الله عليه وسلم في حديثه عن خروج الدجال " فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات ... " قيل يا رسول الله فأين العرب يومئذ ؟ قال " هم يومئذ قليل وجُلُّهم ببيت المقدس ، وإمامهم المهدي رجل صالح منا أهل البيت ... " رواه ابن ماجه ، وفيها ينزل سيدنا عيسى عليه السلام ويصلي بإمامة المهدي في بيت المقدس ، فيتبعه المسلمون ، فإذا خرج الدجال على الناس فإنه { سيظهر على الأرض كلها إلا الحرم وبيت المقدس } رواه أحمد .


وفيها نهاية الدجال حيث { يخرج إليه شرار أهل المدينة حتى يأتي فلسطين بباب لُدٍّ فينزل عيسى عليه السلام فيقتله " رواه أحمد . أما نهاية من شايعه من اليهود فتكون على أيدي المسلمين ، يتوارَوْن وراء الشجر والحجر فينطق كلٌّ منهما دالاً على أعدائهم بلسان الحال أو المقال ، قال صلى الله عليه وسلم { قال لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون ، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلاَّ الغرقد فإنه من شجر اليهود } رواه مسلم .


وفيها مهلك أعظم الأمم إفساداً في الأرض – يأجوج ومأجوج – ، الذين يخرجون على الناس ويسيرون حتى ينتهوا إلى جبل بيت المقدس - كما روى مسلم - ويخرّبون ثروات الأرض ويشربون ماءها ويكونون مصدر تهديد ، حتى إن سيدنا عيسى عليه السلام والمسلمون معه يَتَحَصَّنُون منهم ، فيتضرعون إلى الله بالدعاء ، فتهلك يأجوج ومأجوج .


هذه مكانة القدس في تاريخ الأمة ، وهذه مكانة المسجد الأقصى المبارك مسرى رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وأولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين ، افتدوها بالأرواح ، أما اليوم فما موقف الأمة منهما .


ترى الأمة اليوم وتسمع ما يحل بمدينة القدس المباركة من جرائم التطهير العرقي التي ترتكبها سلطات الاحتلال الإسرائيلية بكل الصوره والأشكال جغرافياً وديموغرافياً وسياسياً وقانونياً بهدف تهويدها بالكامل ، ولكنها لا تحرك ساكناً وكأنها لا تعنيها ولا تمتّ لها بأية صلة ، وترى الأمة اليوم وتسمع ما يحل بالمسجد الأقصى المبارك من انتهاكات لقدسيته وتدنيس لحرمته وتغيير لهويته الإسلامية وتهديد لبنيانه بهدف تقويض أركانه وإقامة الهيكل المزعوم في مكانه ، ولكنها لا تحرك ساكناً أبداً وكأنه لا يعنيها ولا يمثل جزءاً من عقيدتها .


أين منظمة التعاون الإسلامي ! أين لجنة القدس ! أين مؤتمرات القمة الإسلامية التي بحت أصواتنا ونحن ننادي بانعقادها العاجل ! حتى المؤتمرات السابقة التي عقدت هل نفذت قراراتها ! أين المسيرات الشعبية الغاضبة التي تنطلق انتصاراً للقدس والأقصى !


قد نلتمس عذراً لساسة الأمة بعجزهم عن مخالفة القائمين على أركان السياسة العالمية والقوى العظمى ولو ببيانات الشجب والإدانة كالسابق ، ولكن هل من عذر للشعوب التي عهدناها تهب من أجل القدس والأقصى وفلسطين غير مبالية بقمع حكامها ! وإن التمسنا للشعوب عذر قهر الأنظمة فهل من عذر لأبناء شعبنا الفلسطيني الذين يحجم بعضهم عن مشاركة المرابطين والمعتكفين والمدافعين عن القدس والأقصى ! هل من عذر لنا في ترك مدينة القدس وهي عاصمة دولتنا السياسية والوطنية بناء على نص المادة الثالثة من القانون الأساسي الفلسطيني !


من المعلوم قانونياً في عالم السياسة أن العاصمة هي عنوان سيادة الدولة ونظامها ومركز مؤسساتها ، فالعاصمة في اللغة تعني الحامية ، إذن فبقاء العاصمة وثباتها هو عنوان بقاء الدولة وصمودها ، وسقوطها يعني سقوط النظام وانهيار الدولة ، وهذا واضح ومعلوم للجميع سياسياً في الماضي والحاضر ، ففي ثورات الشعوب وفي الاحتلالات وفي حروب التحرير التي تعلمناها في التاريخ القديم والحديث والمعاصر كان التركيز الأكبر على العاصمة ، فهي من أكبر رموز الدولة والسياسة والسلطة ، وسقوطها بيد الأعداء إيذان بسقوط الدولة وانهيار النظام والسيادة والسلطة ، فكيف لا نتحرك لحماية عاصمتنا ! كيف لا نهب للذود عنها ! وهل نستحقها بعد ذلك ! وهل من وزن لدولة بغير عاصمتها !

 الشيخ الدكتور تيسير التميمي/قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس www.tayseer-altamimi.com ، [email protected]

 


: الأوسمة



التالي
نعم؛ أنا نادم!
السابق
خيبر خيبر يا يهود جيش محمد بدأ يعود

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع