البحث

التفاصيل

القرضاوي في عامه التسعين فقيه حاذق وسياسي شرعي بارع

الرابط المختصر :

بلغ شيخنا القرضاوي أمس عامه التسعين، أسأل الله أن يطيل عمره وأن يختم بالصالحات أعماله، وبهذه المناسبة أكتب هذا المقال ليس تذكيرا للمحبين بمكانة الشيخ، ولكن أذكره (تنغيصا) للكارهين الذين يصيبهم (الجرب) إذا ذكر اسمه فكيف بالكتابة عنه.....

لا يمكن الحديث عن السياسة الشرعية في العصر الحديث دون الوقوف بتؤدة وطمأنينة عند بعض الأعلام البارزة في هذا الميدان الشائق الشائك، إنها وقفة عرفان وشكران، عرفان بالجهد الذي بذل، وشكران للعطاء الذي قدم.

ويعتبر الفقيه الأصولي عبد الوهاب خلاف رائدا في هذا العلم في العصر الحديث، ويمكن اعتباره صاحب الشرارة الأولى التي أعادت إلى الأذهان كتابات السياسة الشرعية...

أما العلامة القرضاوي فهو وإن كان عاصر الشيخ خلاف إلا أنه لم يكن قرينا له، لكنه سبق خلافا سبقا ملحوظا، بل جمع القرضاوي من عند خلاف وغيره من العلماء والفقهاء والقانونيين، وأتى بجديد في عالم السياسة يذكر فلا ينكر.

إن القرضاوي فيما دبجته أنامله من كتب قاربت المئة الثانية؛ هي في مجملها حديث عن السياسة الشرعية، كلها –تقريبا- في السياسة الشرعية بمفومها العام، وجلها ربما في السياسة الشرعية بمفهومها الخاص.

وإذا أردنا الحصر فإن (50 %) من هذه الكتب هي في صميم السياسة الشرعية، ومن ذلك سلسلة (حتمية الحل الإسلامي) وتضم أربعة كتب، وسلسلة (في ترشيد الصحوة والحركة الإسلامية) وتضم أكثر من خمسة عشر كتابا، وسلسلة (رسائل ترشيد الصحوة) نحوا من عشرين كتابا، فضلا عن سلسلة (نحو وحدة فكرية للعاملين بالإسلام) وهي تكتمل في عشرة كتب، و (محاضرات القرضاوي) وهي نحو عشرين كتابا


وعلى هذا فهو في عصرنا الحاضر يعد من المجددين في علم السياسة الشرعية لا يقل مكانة عن الشافعي في تأصيله الأصولي، ولا عن ابن تيمية في تجديده الفقهي، ولا عن الشاطبي في تجديده المقاصدي ولا عن ابن خلدون في تجديده في علم الاجتماع السياسي، ولا عن البنا في تجديده الفكري الحركي، ولا عن قطب في تجديده الإبداعي في تفسير القرآن وبيانه.

وتتضح أسبقية يوسف القرضاوي في هذا الفن لأمور عدة أهمها:
1. لم ينجرف كما انجرف بعض الكتاب في القديم وفي الحديث لتبرير الواقع، وإقرار ما فيه من انحرافات لم تكن الأمة سببا فيها بقدر ما كان الحكام هم المنشؤون لها.

2. لم يقبل ما عاصره من استبداد سياسي وانحراف اقتصادي، بل كان مع غيره من العلماء السابقين له والمعاصرين له شوكة في حلق هذه السلطات المستبدة، وقد ذاق ما قدره الله له من الحبس والتعذيب والتشريد والمطاردة قديما وحديثا.

3. لم يقف عند تنظيرات الأولين التي ابتدأها أبو يوسف في (الخراج) والماوردي وأبو يعلى في (الأحكام السلطانية)، بل تجاوزها نقدا وضبطا، وتوسيعا وتأصيلا.

4. كانت أدلة الأحكام من كتاب وسنة وإجماع وقياس و.. و.. هي مصادر القرضاوي في الإفتاء لما جدّ من أحكام في عالم السياسة الشرعية.

5. لم يتأثر القرضاوي بالفلسفات الوافدة والأفكار المستوردة، بل كان ناقدا لها، كما في سلسلة (حتمية الحل الإسلامي) وخصوصا (الحلول المستورة وماذا جنت على أمتنا).

6. لم يتردد القرضاوي في قبول ما جدّ من الوسائل والأساليب الوافدة من الغرب جاعلا شعاره الأثر القائل: الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها .

7. استطاع القرضاوي في خوضه لغمار السياسة الشرعية أن يقرأ الواقع قراءة متبصرة، واضعا إحدى عينيه على الشرع والأخرى على العصر، فأنزل النص على الواقع، مسترشدا بما أصل له من أنواع الفقه المختلفة: الموازنات والأولويات والمآلات والسنن والخلاف والمقاصد.

8. استطاع القرضاوي بموسوعيته أن يسبق كل من كتب في السياسة الشرعية في العصر الحديث، ففاق من سبقه كرشيد رضا الذي تناول السياسة الشرعية في جانب الخلافة، وعبد الوهاب خلاف الذي اقتصر على جانب (التنظير والتأصيل)، وحسن البنا الذي كتب في بعض (النظم)، وكذلك سبق من عاصره، فالغزالي (ت 1996م) وهو من المكثرين في هذا الجانب، إلا أن الجانب الدعوي والأسلوب النقدي كانا سمة عامة له، وأما سيد قطب ( ت 1966 م )، فقد كانت كتابته السياسة تدور في فلك تكوين جيل قرآني ينطلق من قاعدة صلبة تعيد الجماعة المسلمة الأولى في أبهى صورها، بعد ما أسماه بـ (المفاصلة الشعورية) لتجسد لاحقا نموذج الخلافة الراشدة ثانية على أرض الواقع، وأما المودودي (ت 1979م) فقد كانت فكرته قائمة على أن النظام السياسي في الإسلام يسبقه وجود مجتمع إسلامي صادق، ومنه تأتي الخلافة الراشدة، هذا المجيء يراه المودودي مجيئا تلقائيا، وهو ما يعبر عنه بـ (منهج الانقلاب الإسلامي). ولم يتحدث واحدا من هؤلاء حديثا تفصيليا –سوى البنا- عن شكل هذه الحكومة، ولا طبيعتها ولا نظامها، ولا مكانة المخالفين فيها.

9. الرؤية النقدية التي عرف بها القرضاوي ظهرت في فكر المدرسة التي ينتمي إليها، فنقد فكر (البنا) و(الغزالي) بل وفكر (الإخوان)، وارتأت الإخوان كحركة أن تنزل على تجديداته تاركة بعض أفكار شيخها ومؤسسها كما في موقفهم من تكوين الأحزاب، ومشاركة المرأة السياسية.

10. وهذا لا يعني أن الشيخ أصاب في كل اجتهادته، بل كان له الآراء التي جانبه فيها الصواب، لكنه وإن لم ينل الأجرين –من وجهة نظري- فلن يحرم أجر اجتهاده.

11. وأخيرا: فهذا يعني أن القرضاوي لم يكن مجرد فقيه منظر، وإنما كان فقيها حاذقا وسياسيا شرعيا بارعا بزّ بكتاباته وممارساته أقرانه، وفاق من سبقوه، وأتبع من يأتوا بعده.

=============================
بقلم الدكتور أكرم كساب
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين


: الأوسمة



التالي
من فنون السياسة الشرعية
السابق
الأولويات السبعة عشر

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع