البحث

التفاصيل

العالم العامل والداعية الكبير الدكتور محمد أبو فارس رحمه الله

الرابط المختصر :

عرفته منذ انتسابي لدعوة الإخوان كمحاضر بارع، وخطيب مفوه في المهرجانات واللقاءات الإخوانية، ثم تعرفت عليه عن قرب عندما أصبحت عضواً في مجلس الشورى، وكان ثمة توافق بيني وبينه في التوجهات والنظرة للأمور الدعوية والتنظيمية والسياسية، وحصل انسجام بيني وبينه في كثير من المواقف؛ مما جعلني أكون الأقرب إليه، وفوق كل ما سبق كان يجمعنا الحب في الله، والأخوة الصادقة والعمل المشترك.


لقد ترك «أبو ساجدة» رحمه الله برحيله فراغاً واسعاً من بعده، فلقد كان رحمه الله رمزاً إسلامياً على مستوى العالم العربي، وقياديا كبيرا على مستوى الإرشاد العالمي، وكان قامة باسقة في البذل والعطاء حيث بلغت مؤلفاته التي أثرت المكتبة الإسلامية قريب المئة مُؤَلف وفي كل مناحي الثقافة الإسلامية الشاملة والمتعددة.


ومما عرف عن المرحوم الهمة العالية التي لا يدانيها كثير من الإخوان، والصبر والجلد على العطاء والخير في كل مناحي الحياة، والالتزام الكامل دعوياً وتنظيمياً، والوقوف عند الحق ومع الحق مهما كان الثمن، وكان عنيداً في الحق وملتزماً به، واذا ما أخذ القرار بشكل شوري تراجع عن رأيه المخالف وانصاع للأمر بكل نفس رضية، صلب في الحق لا يداهن ولا يهادن ولا يواري ولا يجامل أبداً على مبادئ الدين وثوابته وأساسياته، جريء في منتهى الجرأة ولا يخشى في الله لومة لائم.


  وبقدر ما هو صلب وعنيف مع الأعداء بقدر ما هو سمح وسهل وهين ولين مع إخوانه، جدُّ كريم ومعطاء يتحسس أحوال إخوانه وإذا ما وقعوا في ظرف صعب هَبَّ لنجدتهم بيدٍ سخية دون منةٍ أو تشهيرٍ، ويحب صدقة السر ويتأثر حد البكاء من خشية الله، فلقد ذكر لي الأخ سعود أبو محفوظ أنه رافقه في رحلة في بداية الثمانينات من القرن الماضي ثم جاء إليه الشباب يذكرون له عذابات أهلنا في فلسطين وإجرام العدو الصهيوني ضدهم، قال فبكى رحمه الله حرقة عليهم ومن قلة الحيلة لنصرتهم، وجعلته يفكر جاداً كيف الطريق للوقوف في وجه هذا العدو المتغطرس، وانقدحت في ذهنه وذهن مجموعة من قيادات الإخوان لتنظيم بلاد الشام الذي يضم الأردن وفلسطين العمل على إطلاق العمل العسكري في وجه اليهود، وبعد مداولات ونقاشات ومقترحات خرجت فكرة حماس(حركة المقاومة الإسلامية) باسمها ومسماها من قيادة بلاد الشام.


  وقد ورد في الحديث أن في كل قرن سابقين (والسابقون السابقون* أولئك المقربون* في جنات النعيم* ثلة من الأولين وقليل من الآخرين) «الواقعة10-14»


 ولقد كان أبو ساجدة رحمه الله من القلة القليلة من السابقين في الخير في كل مجال من مجالات العطاء والبذل والمواقف الجريئة.


ولقد كان رحمه الله من الرجال الرجال النوادر عندما يصبح الرجال عملة نادرة وصعبة، وعندما يلوذ الكثير بالصمت ويؤثرون السلامة، فلقد كان ينطق بالحق كالبركان ويزمجر به ولا يلوي على شيء من الدنيا ومتاعها بكلِ هَمةٍ إرضاءً لله ومحاسبة الفساد ووضع حد لمن يقف خلفه، ولقد كان يقف أمام الزعماء كالجبال الشامخة يطالب بكل جرأة بتطبيق شرع الله على هذا الشعب المسلم وفي هذه الأرض المباركة، ويشدد على تطبيق الحكم بما أنزل الله مذكراً إياهم أنه سيحاججهم بما قال أمام الله سبحانه وتعالى، ولقد لقي من وراء ذلك الأذى والعَنَت والحرمان بل والسجن والفصل من مجلس النواب.


وكان رحمه الله يركز على معاني عقدية في كل مناسبة، أن الرزق والأجل بيد الله سبحانه وتعالى لتلاميذه ولإخوانه وذكر لي د. همام سعيد أنه عندما قدم د. أبو ساجدة طلباً للالتحاق بكلية الشريعة في الجامعة الأردنية وهو عند عميد الكلية ثم جاء دكتور آخر وقدم طلباً للتدريس، وأخذ يستجدي العميد لكي يقبله وأنه بحاجة للعمل والرزق، وبالغ في الاستجداء فنهره أبو ساجدة رحمه الله، وقال له كن رجلاً مسلماً واثقاً بأن الرزق بيد الله وحده وليس بيد هذا العميد الفقير إلى الله، وأمام هذا الموقف العقدي نسي أو تناسى بل تجاهل أبو ساجدة حاجته للعميد لأنه كان يعتمد على رب العميد موقناً أن الرزق والأجل بيد الله سبحانه وتعالى.


أما عن صلابته في المواقف أمام الأجهزة الرسمية وتحمله للمسؤولية الكاملة في سبيل أن يخلي قيادة الجماعة والجماعة من أي مسؤولية، فقد ذكر لي د. همام سعيد أن المرحوم كان مسؤولا عن طلاب الجامعات الأردنية، وعندما حدث إشكال في جامعة اليرموك في عقد الثمانينات من القرن الماضي طلبت منه قيادة الإخوان أن يطلب من الطلاب إعلان الإضراب في جامعة اليرموك احتجاجا على أوضاع سلبية في الجامعة، وناقش القيادة أن مصلحتنا عدم الإضراب ولكن مع إصرار القيادة على رأيها انصاع إلى الأمر ولما حدثت الإشكالات في الجامعة بعد أن استباحتها الأجهزة الرسمية والأمنية وقتل ثلاثة طلاب، واعتقل وسُجِنَ مَن سُجن، وسُجن أبو ساجدة وظل المسؤول في المخابرات يناقشه أن يقول أن هذا قرار المكتب التنفيذي ويخلي سبيله، وهو يصر أن هذا القرار هو قراره شخصياً، وعندما قال ستتحمل دماء ثلاثة من الشباب وستسجن أو تعدم أصر على رأيه متحملاً كامل المسؤولية حتى لا يوقع قيادة الجماعة بأي مسؤولية، رغم أنه كان مخالفاً لرأي القيادة، وهذا يدلل على التزامه وجرأته وقوة بأسه وتضحيته الكبيرة التي يندر أن يقفها أحد مثله.


  فالمواقف التاريخية لهذا العملاق لا تنتهي ولا تتسع لها هذه العجالة، ولكن لا يمكن أن نتجاوز عن موقفين هامين لأبي ساجدة كان لهما أبلغ الأثر في مسيرة دعوة الإخوان، الأولى عندما انطلقت حركة المقاومة الوطنية «فتح» وكان معظم المؤسسين من الإخوان في الخليج العربي، وبدأت هذه الحركة بمبادئ وطنية علمانية، وحصل بينها وبين الإخوان مساجلات وصراع كبير كان أبو ساجدة من الرجال الإخوانيين الذين ثبتوا في وجهها مع المفاصلة الكاملة، وحفظ عناصر الإخوان من الانحراف والتذويب والانسلاخ من مبادئ الإسلام وثوابت الإخوان.


اما الموقف الثاني فقد كان داخلياً عندما افتتن الإخوان بفكر حسن الترابي الذي غادر مفاهيم جماعة الإخوان ومبادئها، وكان نفر يُروَّجون له داخل صف الجماعة، ووصلت بهم أن يطرحوا حل الجماعة وتحويلها إلى حزب وطني، وقدمت في ذلك أوراق ومقترحات، ولكن كان أبو ساجدة رحمه الله الصخرة الصلبة التي تحطمت عليها كل هذه الحركات المشبوهة التي كادت تودي بالجماعة، ولاقى في سبيل ذلك الأذى والعنت ولكن الفضل الكبير كان بعد الله لأبي ساجدة أن حفظ خط الجماعة الأصيل بثوابتها ومبادئها وخطها الناصع الواضح المبين، وهذه الأعمال والمواقف لأبي ساجدة لا تقدر بثمن وسينال عليها من الله الجزاء الحسن والثواب الجزيل، بإذنه تعالى.


فرحم الله أبا ساجدة رحمة واسعة واسكنه فسيح الجنان ونال الفردوس الأعلى برفقة النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً.


: الأوسمة



التالي
استنارة فكرية حول المرجعية الإسلامية لدى الأحزاب الإسلامية
السابق
التنافس الدولي على البترول والغاز الإفريقي

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع