البحث

التفاصيل

اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك

الرابط المختصر :

اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك

نص الحديث:

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: كانَ مِن دُعَاءِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بكَ مِن زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ."1. وفي رواية: "وفجأة نقمتك"2.

__

تمهيد:

إن هذا الحديث يصلح في أذكار الصباح والمساء، والأوراد والأدعية التي يجب أن نجأر بها إلى مولانا جلّ في عُلاه خصوصًا في أيام الشدة العصيبة، وأوقات الأزمة، وهذا الوباء الذي ابتليت به الإنسانية في عموم هذه المعمورة، فلزم أن نستعيذ بالله ونحتمي بحماه ونلوذ ببابه من كل شر وبلية، وكل مكروه ومصيبة، وكل وباء وجائحة، فكان صلى الله عليه وسلم يعلمنا أن نستعيذ بالله من زوال النعمة التي أسبغها علينا، وتحول هذه العافية التي نخشى فواتها، وأن تفاجئنا النقمة وأن تحلّ محل النعمة، بل ونستعيذ من جميع سخط الله ونعتصم به من مقارفة الأسباب التي تفضي إلى سخطه سبحانه مهما جلّتْ ودقّت.

بين يدي الحديث:

- إن هذا الحديث الذي كان محطة لهذه الإشراقات صحيح؛ فقد أخرجه الإمام مسلم بن حجاج القشيري، في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب أكثر أهل الجنة الفقراء، وأكثر أهل النار النساء، وبيان الفتنة بالنساء، برقم (2739)، كما رواه الجلة من المحدثين كأبي داود، والسيوطي في الجامع الصغير، وفي صحيح الجامع للألباني وغيرهم.

- وإن هذا الحديث كما في الترجمة التي وُضعت له في صحيح مسلم؛ تمّ إيراده بعناية (في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار)؛ وعليه فهو يدخل في باب الذكر، وأن المؤمن حيٌّ بذكر الله، ميت بغير الذكر، ويدخل في باب الدعاء؛ لأنه عبادة تزدان بالاحتماء بالله وسؤاله الخلاص من كل مكروه عاجل أو آجل، كما يدخل في باب التوبة؛ لأن كل بني آدم خطاء وأن خير الخطائين التوابون، مع استيفاء شروط التوبة من ندم على المعصية في الماضي، وإقلاع عنها في الحاضر، وعزم على عدم العودة إليها في المستقبل، مع رد المظالم إلى أهلها وهو الديوان الذي لا يُترك! ويدخل في باب الاستغفار؛ الذي يعد سمة بارزة للمسلم في يومه وليله، ومجلبة لرزقه ووقائه من المصائب.

- ورد في نص الحديث (اللهم إني أعوذ بك) وأعوذ من الاستعاذة وهي طلب العوذ، يعني أعتصمُ وألتجئ وأحتمي بالله من زوال نعمته، وتحول عافيته. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "اعلم أن لفظ عاذ وما تصرف منها تدل على التحرز والتحصن والنجاة، وحقيقة معناها: الهروب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه، ولهذا يسمى المستعاذ به: مَعاذًا، كما يسمى ملجأ ووَزَرًا"3.

- اعلم –يا أُخيّا- أن النعم جميعها وعلى تنوعها بيد الله، وهو وحده من يصرفها كيف يشاء جل وعلا؛ لذا فلا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه، فإليه الملاذ والفرار؛ ليحمينا ويعصمنا ويرعانا؛ حتى يستقر حالنا على اليقين به، والعافية بنا، ودوام نعمه، وعدم تحول عافيته، وأن يعيذنا سبحانه وإياكم من فجاءة نقمته وجميع الأسباب المفضية لسخطه.

أولًا: التعوذ من زوال النعمة:

(مِن زَوَالِ نِعْمَتِكَ) والنعمة: كل ملائم تحمد عاقبته، أي النعم الظاهرة والباطنة؛ لأنه مفرد مضاف يفيد العموم، والله تعالى يقول: (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) [النحل: 18]؛ ذلك لأن النعمة الواحدة تتفرع عنها نِعَمٌ كثيرة من غير عدٍّ ولا حساب، ولو أخذنا على سبيل المثال لا الحصر نعمة البصر؛ فبها نبصر الألوان، ونتعرف على الأشياء، ونقرأ ونتابع، ونتحرك في المشي، والرياضة، والسياقة، واتخاذ القرار المناسب المتصل بالبصر، فإن نِعَمه –إذًا- سواء الظاهرة منها والباطنة علينا كافة بني الإنسان بعدد الأنفاس واللحظات، منها ما عرفناه ومنها ما لم نعرفه، ولو طالبَنا سبحانه بشكر جميع نعمه لعجزنا عن القيام بذلك؛ ولَبَان وانكشف ضعفنا على عدم الوفاء بحق كل نعمة على حدة! وما أكثر نعم ربنا علينا؛ لأنا نألفها فلا نشعر بقيمتها في ماجريات الحياة وكلٌّ منهمك في شغله، إلا حين نفتقدها؛ هنالك ندرك قيمتها. ولو عاقبنا على التقصير لكان ذلك من عدله، ولكنه سبحانه يغفر لنا حيث أردف الآية فقال: (إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ)؛ ومن أسرار الآية أنه عزّ وجلّ يرضى منا باليسير من الشكر والحمد مع إنعامه الكثير، وإحسانه الغزير. فما أحلمك يا ربنا وأرحمك بنا إذ وسعت علينا النعم، ومع ذلك لم تقطعها عنا بالتقصير والتفريط!

وقوله تعالى: (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) [لقمان: 20]. أي أن الفضل لله أولا وأخيرا؛ لأنه هو الذي يعطي ويمنع، يزيد وينقص، ويتم ويقطع، فقد غمرنا وعمّنا بنعمه التي لا تعد ولا تحصى ظاهرة وباطنة، ما نعلم منها وما لا نعلم، دينية ودنيوية، وأخروية، عامة وخاصة، وقيل الظاهرة الصحة وكمال الخلق، والباطنة المعرفة والعقل. ومشاهدة هذه النعم يزيد في جرعة الإيمان، ويحمل على محبة الله؛ لأن النفس تميل إلى من أحسن إليها، فما بالك بمن خلقك وسواك، وقدرك فهداك، وهو الكريم الذي خلقنا وعدّلنا في أي صورة ما شاء ركبنا، تبارك الله أحسن الخالقين!

ولما أدركنا أن العافية والصحة من النعم التي نسأل الله دوامها، الصحة الجسدية والنفسية والعقلية والروحية، وأن لا يحرمناها؛ فمعناه أن نشكر المعطي، ولا نكفر المحسن، وأن نفرده بالتوحيد والإخلاص ونتوجه إليه صامدين، لأنه أهل لذلك والقادر على إدامة الفضل علينا، فنحن الفقراء إليه وهو الغني الحميد، فبدونه لسنا بشيء، ولا نزن عند الله جناح بعوضة، فيجب توحيد الله توحيد الربوبية، وتوحيد العبادة والألوهية؛ بالخضوع له وطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم، والالتزام بمنهاجه في الأرض، وبرنامجه القائم على التوحيد، والتزكية، والعمران، وحفظ النظام الذي يقوم عليه شرع الله مع تفاعل الخلق، وذلك بتعظيم الخالق والشفقة على الخلق.

ونحن ندعو الله سبحانه أن لا يزيل ما علينا من نعم؛ قال سبحانه: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران: 8]. وهي على كثرتها يمكن اختزالها في نوعين أساسيين:

أولا: النعم الدينية: على غرار: نعمة الطاعة، ونعمة قراءة القرآن، ونعمة قيام الليل، ونعمة الاستقامة، ونعمة الصلاة في وقتها، ونعمة أداء الرواتب القبلية والبعدية، ونعمة بر الوالدين ونعمة صلة الرحم، ونعمة النصيحة وقبولها، ونعمة العدل، ونعمة شيوع الأمن، ونعمة الأذكار والأدعية والأوراد.. إلخ.

ثانيا: والنعم الدنيوية: على غرار نعمة المال، ونعمة الزوجة، ونعمة الأولاد، ونعمة البيت، ونعمة المركب، ونعمة الصحة، ونعمة العافية، ونعمة العقل، ونعمة النسل، ونعمة البيئة الحسنة، ونعمة الجار الطيب، ونعمة الاستقرار والسكينة.

ومعنى التعوذ بالله من زوال النعمة، أن نشكره سبحانه ونُوَفيّ حق الشكر له ثم لعباده، ونرجوه عدم انقطاع النعمة التي حبانا ظاهرة وباطنة، وأن نعصم أنفسنا من الزلل والمعاصي؛ قال الله جل وعلا: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى: 30]. وإن الاستِعاذَة مِن زَوالِ النِّعمِ تَتَضَمَّنُ الحِفْظَ عَنِ الوُقوعِ في المعاصي؛ لِأَنَّها تُزيلُها. قال عبد الله بن المبارك:

رأيتُ الذنوبَ تميتُ القلوبَ ** وقد يورثُ الذُّلَّ إدمانُها

وتركُ الذنوبِ حياةُ القلوبِ ** وخيرٌ لنفسِك عصيانُها

ثم إن المعاصي تتعارض مع النعم؛ بسبب تعطيلها لمحبة الله وطاعته؛ ولله در القائل:

تَعصي الإلهَ وأنت تزعم حبَّه ** هذا وربِّي في القياس شنيعُ

 لو كان حبُّك صادقًا لأطَعْتَهُ ** إن المحبَّ لِمَن يحبُّ مطيعُ

إن المعاصي تجلب البلاء وتورث المصائب في الخلق؛ قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: 41]. كل ذلك وما اعتراه من غضب الرب تعالى وعقوبته هو من أنفسنا وما كسبته أيدينا.

إن العبدَ بسبب المعصية يُحرَم الرزق، وتمحق البركة من أمواله المتبقية؛ قال الله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف: 96]. وَقَالَ: (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) [الجن: 16- 17].

ثم إن المعاصي ترفع كرامة الإنسان وتعرضه للهوان والإهانة؛ قال الله تعالى: (وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) [الحج: 18]. من يهن بهتك الحرمات ترفع عنه ظلة التكريم! فإن العزَّ والكرامة في طاعة الله تعالى؛ قال تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا) [فاطر: 10]. وكل من تخلى عن الله استمد دنيته ممن سواه! فاللهم أعزّنا بطاعتك؛ فإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت!

والمعاصي تجعل المذنب في غفلة يتخلى عنه ربه؛ (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [الحشر: 19]. ومن تخلى عنه ربه انفلت انفلاتا سحيقا!

لأن المعاصي جميعها تزيل النعم قال الشاعر:

إذا كنتَ في نعمةٍ فارعَها ** فإن الذنوبَ تُزيل النِّعَمْ

وحُطْها بطاعة رب العباد ** فربُّ العباد سريع النِّقم

 وإياك والظلمَ مهما استطعتَ ** فظلمُ العبادِ شديدُ الوخَم

وسافِرْ بقلبك بين الورى ** لتبصرَ آثارَ مَن قد ظلَم

 فتلك مساكنُهم بعدهم ** شهودٌ عليهم ولا تُتَّهَم

وما كان شيءٌ عليهم أضرَّ ** مِن الظلمِ وَهْو الذي قد قصَم

فكم تركوا من جنانٍ ومِن ** قصورٍ وأخرى عليهم أطم

صلُوا بالجحيمِ وفات النعيمُ ** وكان الذي نالهم كالحُلُمْ

إن الذنوب سبب في اندراس العلم ونسيانه؛ ولما وجد الإمام مالك قوة حافظة الإمام الشافعي نصحه في وقت مبكر فقال له: "إن اللهَ ألقى على قلبك نورًا، فلا تُطفئه بظُلمة المعصية"4؛ قال عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه: "إني لأحسب أن الرجلَ ينسى العلم قد علِمه بالذنب يعمَله"5؛ قال الإمام الشافعي:

شكوتُ إلى وكيعٍ سوءَ حِفظي ** فأرشَدني إلى ترك المعاصي

 وأخبَرني بأن العلمَ نورٌ ** ونورُ الله لا يُهدى لعاصي

وقد أهلك الله قارون الذي تعجرف في الأرض بأمواله الطائلة التي لم تنفعه أثناء أزمته وقوته وجبروته وطغيانه؛ فأزال سبحانه نعمته التي كان يرفل فيها بكبرياء وعنجهية؛ إذ جاءته العقوبة من حيث لم يحتسب؛ قال الله تعالى: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ) [القصص: 76- 81].

وتأمل قصة صاحب الجنَّتين؛ كيف أزال الله نعمته بين عشية وضحاها؛ بسبب عجرفته وكبريائه؛ قال سبحانه: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا) [الكهف: 32- 43].

وبرغم كبرياء عاد وزهوها أزال الله النعمة التي غمرتهم؛ وأذاقهم الله خزي العقوبة في الدنيا؛ قال سبحانه: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ) [فصلت: 15- 16].

وكذلك فعل الله مع ثمود بسبب عَماهم وطغيانهم أزال ما كانوا فيه من نعمة؛ قال سبحانه: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [فصلت: 17- 18].

وقوم لوط لما انحلت القيم فيهم أنزل الله عليهم العذاب؛ قال جل شأنه: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) [النمل: 54- 58].

ومملكة سبأ التي كانت تنعم في جنات غنّاء فأزال الله نعمتهم؛ بسبب غرورهم كبريائهم؛ قال سبحانه: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) [سبأ: 15- 19].

وفرعون الذي امتلك سلطانا وجبروتا فلم يحمد الله على ما بسط بين يديه ن نعم؛ فصار يضاهي الرب في علو شأنه وربوبيته؛ فعاقبه عقابا جعله عبرة إلى يوم القيامة؛ قال سبحانه: (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ) [الدخان: 17- 29].

ثانيًا: التعوذ من تحول العافية:

قوله: (تحوّل عافيتك): والتحوّل: إبدال الشيء بالشيء كإبدال الصحة بالمرض، والغنى بالفقر، والأمن بالخوف، والقوة بالضعف. و(تحول العافية) يعني تبدل العافية بضدها من عافية إلى مرض وبلاء، والفرق بين الزوال والتحوّل، أن الزوال: ذهاب الشيء من غير بدل.

 والمراد من التعوذ الاحتماء بالله من تغير العافية التي شملك مولاك بها؛ وهي السلامة من الأسقام والبلاء والمصائب والأمراض والجوائح والأوبئة وكل الكوارث الفتاكة. وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من (تحول عافيته)؛ سبحانه؛ لأنه -كما نوّه ابن القيم- إذا كان قد اختصه الله بعافيته، فقد ظفر بخير الدارين، فإن تحولت عنه فقد أصيب بشر الدارين، فإن العافية بها صلاح الدِّين والدنيا6.

وقد تكون العافية في الدين فتتحول إلى اللادينية، ومن التوحيد إلى الشرك والوثنية، ومن الأخلاق إلى الانحلال، ومن الهدى إلى الضلال، ومن السنة إلى الابتداع، ومن الطاعة إلى المعصية، ومن الورع والزهد إلى الوقاحة والتهور والإسراف.

وقد تكون العافية في النفس فتتحول من القوة إلى الضعف، ومن الصحة إلى المرض، ومن السلامة إلى السقم والندامة، ومن السلبية إلى النشاط والإيجابية.

وقد تكون العافية في العقل فتتحول من التأني إلى الاستعجال، ومن الرزانة إلى النزقية، ومن حسن التدبير إلى المغامرة والتغرير، ومن التخطيط إلى العشوائية، ومن الاستراتيجية إلى الفوضى.

وقد تكون العافية في النسل فتتحول من الزواج إلى الشذوذ، ومن التماسك الأسري إلى التفكك، ومن الوصل إلى التقاطع، ومن الألفة واللحمة إلى التشتت والتشظي، ومن السكينة والمودة والرحمة إلى النزاع والنكد، ومن التأبيد والاستدامة إلى التأقيت والانقطاع.

وقد تكون العافية في المال فتتحول من غنى إلى فقر، ومن يد عليا إلى يد سفلى، ومن عزة إلى ذلة، ومن عصب الحياة إلى تسول مقيت، ومن توكل إلى تواكل، ومن زينة الحياة الدنيا إلى أرذلها، ومن ملكية إلى محق البركة، ومن التعامل المشروع إلى التفلت الممنوع.

وقد تكون العافية في المجتمع والأمة فتتحول من الأمن إلى الخوف، ومن التحرر إلى الاحتلال، ومن الاستقلال إلى التبعية، ومن الحضارة إلى الغثائية، ومن الوحدة إلى التجزئة، ومن العدل إلى الظلم، ومن الشورى إلى الاستبداد، ومن النهضة والتنمية إلى التخلف والانحطاط.

لا توجد بعد الإسلام نعمة أفضل من العافية؛ لذلك نسأل الله دوامها وعدم حرماننا منها؛ عن رفاعة بن رافع، قال: قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه على المنبر ثم بكى، فقال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الأول على المنبر ثم بكى فقال: "سَلُوا اﻟﻠَّﻪَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ، فَإنَّ أَحَدًا لَمْ يُعْط بَعْد الْيَقِينِ خَيرًا مِنَ الْعَافِيَةِ"7. قال ابن القيم رحمه الله: "فجمع بين عافيتي الدين والدنيا، ولا يتم صلاح العبد في الدارين إلا باليقين والعافية، فاليقين يدفع عنه عقوبات الآخرة، والعافية تدفع عنه أمراض الدنيا في قلبه وبدنه، فجمع أمر الآخرة في كلمة، وأمر الدنيا كله في كلمة"8.

فالعافية تساوي الدنيا وما فيها؛ قال صلى الله عليه وسلم: "مَن أصبحَ منكم آمنًا في سربِهِ، مُعافًى في جسدِهِ عندَهُ قوتُ يومِهِ، فَكَأنَّما حيزت لَهُ الدُّنيا"9. وفي رواية "عنده طعام يومه"10.

ومعناه أن يسأل الله دوام العافية كما في حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول: "اللَّهمَّ إنِّي أسألُكَ العفوَ والعافيةَ، في الدُّنيا والآخرةِ، اللَّهمَّ إنِّي أسألُكَ العفوَ والعافيةَ، في دِيني ودُنيايَ، وأهلي ومالي، اللَّهمَّ استُرْ عَوراتي، وآمِنْ رَوعاتِي، اللَّهمَّ احفَظْني من بينِ يديَّ، ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، ومن فَوقِي، وأعوذُ بعظمتِكَ أن أُغْتَالَ مِن تحتي"11.

وكذا في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في أذكار الصباح والمساء؛ عن أبي بكرة نفيع بن الحارث قال: "إنِّي أسْمَعُكَ تَدْعُو كُلَّ غَداةٍ: اللَّهمَّ عافِني في بَدَنِي، اللَّهمَّ عافِنِي في سَمْعي، اللَّهمَّ عافِنِي في بَصَري، لا إلهَ إلَّا أنتَ، تُعِيدُها ثَلاثًا حينَ تُصْبِحُ، وَثَلاثًا حينَ تُمْسي، وَتَقولُ: اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ مِنَ الكُفرِ وَالفَقرِ، اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ مِن عَذابِ القَبرِ، لا إلهَ إلَّا أنتَ، تُعيدُها حين تُصْبِحُ ثَلاثًا، وَثَلاثًا حين تُمْسي. قالَ: نَعَمْ يا بُنَيَّ، إنِّي سَمِعْتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَدْعو بِهِنَّ، فأُحِبُّ أنْ أستَنَّ بِسُنَّتِهِ. قالَ: وقالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: دَعَواتُ المَكروبِ: اللَّهمَّ رَحمَتَكَ أرْجو، فلا تَكِلْني إلى نَفْسي طَرْفةَ عَيْنٍ، أصْلِحْ لي شَأْني كُلَّهُ، لا إلهَ إلَّا أنتَ"12.

عن ابن مسعود رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ: أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي؛ إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجًا"13.

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: كُنْتُ أَسْمَعُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ وَالحَزَنِ، وَالعَجْزِ وَالكَسَلِ، وَالبُخْلِ وَالجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ"14.

قال تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الأنفال: 24]، وأن من طبيعة القلوب التقلب من حال إلى حال، ونخشى من تحول عافيتها إلى مرضها ووبائها؛ ما يلزمنا بالاعتصام بالحي الذي لا يموت، ومن بيده قلوب العباد؛ أن يثبتنا على عافية القلوب والأبدان؛ لذلك جاء قبل الآيات قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) [الأنفال: 24] للدلالة على أن حياة الإنسان تتجسد في مدى استجابته لله وللرسول، وأن الموت والثبور في غير ذلك، والعجيب أن الله سبحانه قال: (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ۘ وَالْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) [الأنعام: 36]، فالذين يستجيبون أحرياء بالحياة وفي مقابلهم (وَالْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ). عن عائشة أم المؤمنين أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان يُكثِرُ أنْ يقولَ: "يا مُقَلِّبَ القُلوبِ ثَبِّتْ قَلْبي على دِينِكَ وطاعَتِكَ"، فقيل له: يا رسولَ اللهِ -قال عَفَّانُ: فقالَتْ له عائِشةُ-: إنَّكَ تُكثِرُ أنْ تقولَ: يا مُقَلِّبَ القُلوبِ ثَبِّتْ قَلْبي على دِينِكَ وطاعَتِكَ، قال: وما يُؤَمِّنِّي؟ وإنَّما قُلوبُ العِبادِ بَينَ إصْبَعَيِ الرَّحمنِ، إنَّه إذا أرادَ أنْ يَقلِبَ قَلبَ عَبدٍ قَلَبَه، قال عَفَّانُ: بَينَ إصْبَعَينِ مِن أصابِعِ اللهِ عزَّ وجلّ"َ15.

ثالثًا: التعوذ من فُجاءة النقمة:

قوله: (فجاءة نقمتك): ولا سيما إذا لم يَكُنْ هُناكَ زَمانٌ يُستَدْرَكُ فيها! والفجأة: هي البغتة، والنقمة: العقوبة، وما لا تحمد عقباه؛ فتأخذنا على حين غرّة، من غير أن يسبق إلى علمنا القاصر منه شيء، دون أن نستعد للنقمة والوباء والعدوى والمرض والفقر والبأس والضراء. والسر في أن النبي صلى الله عليه وسلم "استعاذ من فجاءة نقمة الله تعالى؛ لأنه إذا انتقم من العبد فقد أحلّ به من البلاء ما لا يقدر على دفعه، ولا يُستدفع بسائر المخلوقين، وإن اجتمعوا جميعًا"16.

وما أخطر الوضع الآمن حين ينقلب إلى انفلات وبلابل وقلاقل؛ قال تعالى: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) [الأعراف: 97- 99]

ومن الفجاءة "موت الفجاءة" كما في حديث عبيد بن خالد السلمي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "موتُ الفُجَاءةِ أخذةُ أسفٍ"17، وقد كره العلماء هذه الفجاءة؛ نظرا لأنه سيقبل على الله من غير أن يتأهب، وإن كانت حياته كلها استعدادا ليوم الرحيل، وللقاء الله سبحانه، لكن حين يؤتى المرء من قبل الفجاءة مشكلة؛ لأن التعوذ كان منها فدلّ على كراهيتها لدى المؤمن والله المستعان!

عن عبد الله بن عمر قال: أخَذ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ببعضِ جسَدي، فقال: "يا عبدَ اللهِ، كُنْ في الدُّنيا كأنَّكَ غريبٌ، أو كأنَّكَ عابرُ سبيلٍ، وعُدَّ نفسَكَ مِن أهلِ القُبورِ"18. ومن كان هذا حاله كان مستعدًّا؛ فلن تفاجئه الكوارث والمصائب والأوبئة؛ لأنه كان في الدنيا غريبا، عابرا لها، غير عامر أو معمر فيها، وكان قلبه مشرئبًّا لآخرته، وقد صمم أنه من أهلها، وما أسعد هؤلاء الذين لم يفاجأوا بموت ولا مرض ولا فجاءة نقمة؛ لأن من كان مع الله كان الله معه!

وكانَ ابنُ عُمَرَ، يقولُ: إذَا أمْسَيْتَ فلا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وإذَا أصْبَحْتَ فلا تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وخُذْ مِن صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، ومِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ19. وذلك لأننا لا ندري متى يفاجئنا الموت، فلا بد أن نكون مستعدين طيلة حياتنا، وأن نظل على أهبة من مغادرة هذه الدنيا وفي شوق من لقاء ربنا.

رابعًا: التعوذ من جميع السخط:

(وجميع سخطك): وفي النص الحِرصُ على الِابْتِعادِ عَن مَواضعِ سُخطِه سُبحانَه وتَعالى. والسخط: الكراهية للشيء، وعدم الرضا به، قوله: (وجميع سخطك): أي ألتجئ وأعتصم إليك أن تعيذني يا من بيده مفاتيح السماوات والأرض: من جميع الأسباب الموجبة لسخطك جلّ شأنك؛ فإنّ من سخطت عليه –وأيم الله- فقد خاب وخسر، ولو كان في أدنى شيء، وبأيسر سبب؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (وجميع سخطك)، فهي استعاذة مطلقة تشمل جميع أسباب سخطه سبحانه وتعالى قليلا كان أو كثيرا، من الأقوال والأفعال والأعمال، علما أن تحري هذا الدعاء وتحري التحرز من جميع سخط الله، والإلحاح على الله في التعوذ والاعتصام؛ فإنه –لا محالة- يفضي إلى مقام الرضا والتسليم بما قدر الله وقضى؛ لأنه –حقيقة- إذا انتفت الأسباب المقتضية للسخط والجالبة له؛ حصلت –يقينًا- أضدادها وهو الرضى!

والسر في أنه صلى الله عليه وسلم "استعاذ من جميع سخطه؛ لأنه سبحانه إذا سخط على العبد فقد هلك وخسر، ولو كان السخط في أدنى شيء وبأيسر سبب؛ ولهذا قال الصادق المصدوق وجميع سخطك وجاء بهذه العبارة شاملة لكل سخط"20.

ﻭﺃﻋﻈﻢ ﺳﺨﻄﻪ ﺃﻥ ﻳﺄﺗﻲ ﺍﻟﻌﺒﺪ ﻣﺎ ﺣﺮﻡ ﺍﻟﻠﻪ ينتهك الحرمات ويشق جدار الطاعة ويعبث بأحواله التي كان عليه أن تنتظم وفق منهاج الله الناظم في تعبيد الخلق له، وبيان مصدر السعادة في الدارين، وأن دونها خرط القتاد!

عن بلال بن الحارث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، فَيَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ، مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَت، فَيَكْتُبُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ"21. وطبقا للحديث فإن اللسان إذا أطلق من غير رقابة ولا محاسبة؛ فإنه يؤدي إلى سخط الله، ويوقع العبد في المهالك؛ كان بعض السلف يقول: "لساني سبع إذا أرسلته أكلني"، فالاستعاذة –إذًا- من جميع السخط تكون مع الأخذ بالأسباب منها صون اللسان عما لا يليق دينا وخلقا!

قالت عائشة أم المؤمنين: "فقَدْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ لَيْلَةً مِنَ الفِرَاشِ فَالْتَمَسْتُهُ فَوَقَعَتْ يَدِي علَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وهو في المَسْجِدِ وهُما مَنْصُوبَتَانِ وهو يقولُ: اللَّهُمَّ أعُوذُ برِضَاكَ مِن سَخَطِكَ، وبِمُعَافَاتِكَ مِن عُقُوبَتِكَ، وأَعُوذُ بكَ مِنْكَ لا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أنْتَ كما أثْنَيْتَ علَى نَفْسِكَ"22.

قال النووي، قال الخطابي: "في هذا معنى لطيف، وذلك أنه استعاذ بالله تعالى وسأله أن يجيره برضاه من سخطه، وبمعافاته من عقوبته، والرضاء والسخط ضدان متقابلان، وكذلك المعافاة والعقوبة، فلما صار إلى ذكر ما لا ضد له وهو الله عز وجل، استعاذ به منه لا غير، ومعناه الاستغفار من التقصير في بلوغ الواجب من حق عبادته والثناء عليه"23.

وكتبه: د. أبو نوفل حسن يشو –لطف الله به وبكم-

قسم الفقه والأصول بكلية الشريعة/ جامعة قطر

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

الدوحة

____

الهوامش

1- أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب أكثر أهل الجنة الفقراء، وأكثر أهل النار النساء، وبيان الفتنة بالنساء برقم (2739)، وأبو داود برقم (1545).

2- صحيح الجامع برقم (1291).

3- انظر بدائع الفوائد: 2/ 200.

4- تهذيب الأسماء للنووي: 1/ 47.

5- جامع بيان العلم لابن عبد البر: 1/ 675، رقم (1195).

6- انظر زاد المعاد: 4/ 197.

7- أخرجه الترمذي برقم (3558)، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي: 3/ 180 برقم (2821).

8- زاد المعاد: 4/ 197.

9- أخرجه الترمذي (2346) واللفظ له، وابن ماجه (4141)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي.

10- أخرجه البخاري في الأدب المفرد برقم (300).

11- أخرجه أبو داود برقم (5074)، والنسائي برقم (5530)، وابن ماجه برقم (3871)، وأحمد برقم (4785).

12- أخرجه أبو داود برقم (5090)، وأحمد برقم (20430)، والنسائي في السنن الكبرى برقم (9766).

13- أخرجه أحمد برقم (3704)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (199).

14- أخرجه البخاري برقم (2893).

15- أخرجه النسائي في السنن الكبرى برقم (7737)، وأحمد برقم (26133)، و(13696)، والترمذي برقم (2140)، وابن ماجه برقم (3834).

16- تحفة الذاكرين للشوكاني:421.

17- أخرجه أبو داود برقم (3110)، وأحمد برقم (15496)، وقال شعيب الأرناووط في تخريج شرح السنة: إسناده صحيح. انظر شرح السنة: 5/ 298.

18- أخرجه البخاري برقم (6416)، والترمذي برقم (2333)، وابن ماجه برقم (4114)، وأحمد برقم (4764).

19- أخرجه البخاري برقم (6416).

20- تحفة الذاكرين للشوكاني:421.

21- أخرجه الترمذي برقم (2319)، وقال: حديث حسن صحيح.

22- أخرجه مسلم برقم (486)، وأبو داود برقم (879)، والترمذي برقم (3493)، والنسائي برقم (169)، وابن ماجه برقم (3841)، وأحمد برقم (25655).

23- انظر شرح النووي على صحيح مسلم: 4/ 427.


: الأوسمة



التالي
النية الطيبة المُجمَّعة المتنوِّعة
السابق
أخلاق ذو القرنين القيادية

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع