البحث

التفاصيل

عقيدة الشخصية الاعتبارية

الرابط المختصر :

عقيدة الشخصية الاعتبارية

الشيخ الدكتور محمد بن سالم اليافعي (عضو الاتحاد ومدير فرع قطر)

أصبح الحديث عن الشخصية الاعتبارية في القانون ضرورة علمية وعملية، لذلك نجدها في جميع الكتب القانونية التي تعرف بماهية القانون خاصة كتب المدخل إلى العلوم القانونية، على اعتبار أن قواعد القانون وظيفتها تنظيم العلاقات بين الأشخاص في المجتمع، طبيعيين كانوا أو اعتباريين.

وبما أن الشخصية الاعتبارية، تعتبر في عصرنا الفاعل الأكبر في مختلفة نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتمثل أكبر الأوعية المالية، كالشركات التي تتحكم في الاقتصاد على المستويين المحلي والدولي، والتي تؤول في نهايتها إلى ملكية الأشخاص الطبيعيين، المكلفين بالتكاليف الشرعية، بل يتوارثها الأبناء والأحفاد جيلا بعد جيل؛ لأنها تعمر عادة أكثر من عمر الإنسان الطبيعي.

وإن كان لعلم القانون السبق على الفقه الإسلامي في تأصيل نظرية الشخصية الاعتبارية، وبيان خصائصها ... إلخ، إلا أنه لم يسبق الفقه الإسلامي في تأصيل وجودها ابتداء، فالشريعة الإسلامية -وما سبقها من شرائع سماوية-  قد أسست لقيام الكيانات الإنسانية على مختلف درجاتها ابتداء بالأسرة وانتهاء بالأمة مروراً بالفخائذ والقبائل والشعوب والأمم، وتلك كيانات تمثل أعدادا مختلفة من الناس باعتبارها شخصيات اعتبارية كلبنات بشرية تكونت منها الشعوب والأمم، وأسست الشرائع – خاصة الشريعة الإسلامية- كيانات مستقلة لمجموعة الأموال كبيت المال، وبيت الزكاة، والوقف، ورغم سبق علماء الغرب نظراءهم المسلمين في مجال القانون الذي بين خصائص الشخصية الاعتبارية، فإن هذا لا يعني عدم وجودها أصلاً في الشريعة الإسلامية الغراء.

وحتى نتمكن من معرفة وجود عقدية للشخصية الاعتبارية من عدمها؛ لابد من البحث في التكييف الفقهي للشخصية الاعتبارية في عصرنا، لذلك لا بد من ذكر نبذة مختصرة عن المفهوم القانوني للشخصية الاعتبارية، من حيث تعريفها، ونشأتها، وأنواعها، وخصائصها، حتى نقف على معرفة الواقع القانوني الذي توجد الشخصية الاعتبارية في ظله، وعلى ضوء ما نستخلصه من تكييف؛ نستطيع معرفة عقيدة الشخصية الاعتبارية المسلمة، ويمكننا عندها محاولة استنباط تعرف لعقيدة الشخصية الاعتبارية، لنبني عليه مدى تحملها للتكاليف الشرعية؛ خاصة المالية منها، وبالأخص وجوب زكاة أموال الشخصية الاعتبارية من عدمه.

مفهوم الشخصية الاعتبارية:

 الشخصية الاعتبارية لغة: الشخصية في اللغة تأتي من مادة (ش خ ص)، بمعنى التَّعَيُّن والبروز، يقال: شَخْصُ الإنسان؛ أي: سواده الذي يبدو للناظر من بُعد، وشَخَصَ السهمُ أي: ارتفع، وشَخَصَ إلى فلان، أي: برز وتعيَّن وجوده، (لسان العرب).

الاعتبارية اصطلاحًا: من الاعتبار، من الفعل (اعتبر)، اعتبر الشيء: اختبره وامتحنه، (الِاعْتِبَار) الْفَرْض وَالتَّقْدِير يُقَال أَمر اعتباري مَبْنِيّ على الْفَرْض والكرامة وَمِنْه (فِي الْقَضَاء) رد الِاعْتِبَار (المعجم الوسيط).

تعريف الشخصية الاعتبارية اصطلاحاً: باعتبارها لقبا:

جاء في معجم لغة الفقهاء أن الشخص الاعتباري هو: ما يعامل معاملة الإنسان في الإلزام والالتزام دون أن يكون معين الأشخاص، كالشركات، والوقف ونحوهما.

وعرف فقهاء القانون الشخصية الاعتبارية بتعريفات منها: «الشخص الاعتباري هو مجموعة من الأشخاص أو مجموعة من الأموال يستهدف به تحقيق غرض معين، ويعترف القانون له بالشخصية القانونية، وبالتالي يصبح قابلاً لأن تثبت له الحقوق وتجب عليه الواجبات وينظر إليه مجرداً عن الأشخاص المؤسسة له أو الأموال المكونة له».

كما عرفها الشيخ مصطفى الزرقا: «شخص يتكون من اجتماع أشخاص أو أموال يقدر لها التشريع كيانا قانونيا منتزعا منها مستقلا عنها».

 نشأة الشخصيات الاعتبارية:

تنقسم الشخصيات الاعتبارية من حيث نشأتها إلى نوعين، شخصيات اعتبارية ذات منشأ طبيعي وأخرى ذات منشأ قانوني، ولا تبدأ الشخصية الاعتبارية - في عصرنا - من الناحية القانونية لجماعة أشخاص أو أموال إلا بعد الاعتراف بها من قبل السلطة المختصة في الدولة. وهذا الاعتراف قد يأتي ضمن التنظيم القانوني العام للشروط العامة التي يضعها المشرع، وقد يحتاج إلى صدور قرار لاحق بمنح تلك الشخصية الاعتراف القانوني بها، كالدولة ووحداتها الإدارية، والقبيلة، والوقف، والبلديات والمؤسسات العامة التي يمنحها القانون شخصية حكمية.

 وتعرف الشخصية الاعتبارية ذات المنشأ الطبيعي كونها تنشأ تلقائيا دون تقنين للنشأة ولا تدخل فيها حتى من طرف من سيضفي عليها الصبغة القانونية لاحقا، إن هذه الشخصية تنشأ أولا وبشكل ذاتي ثم بعد ذلك تحصل على الاعتراف القانوني من طرف المشرع.

 ويمكن أن نمثل لهذه الشخصية بالأسرة (العائلة) فهي الخلية الاجتماعية التي تربطها أواصر الدم والاسم العائلي الواحد، فتنمو وتنتشر بشكل طبيعي لتصبح كيانا لا يمكن تجاهله، فيضفي عليها المشرع صفة الشخصية الاعتبارية الاجتماعية، فتسجلها الدولة تحت اسم عائلي أو قبلي واحد يميزها كشخصية اعتبارية ذات طابع اجتماعي ضمن كيان الشعب أو المجتمع.

 وتمتاز الشخصية الاعتبارية ذات المنشأ الطبيعي أنها تبدأ - وقد تنتهي - بدون إرادة مباشرة من لدن المشرع، فعلاقته بها علاقة تنظيم لا علاقة وجود وكينونة.

أما الشخصية الاعتبارية الناشئة ابتداء بحكم القانون، فلا تبدأ إلا بعد الاعتراف بها من قبل السلطة المختصة في الدولة. وهذا الاعتراف قد يأتي ضمن التنظيم القانوني العام للشروط العامة التي يضعها المشرع، فإذا توافرت هذه الشروط ثبتت الشخصية الحكمية بقوة القانون دون الحاجة إلى صدور قرار لاحق بمنح الوجود القانوني لتلك الشخصية، كالوحدات الإدارية والوقف والبلديات والمؤسسات العامة التي يمنحها القانون شخصية حكمية.

وتنقضي الشخصية القانونية للشخص الاعتباري إذا انقضى الأجل المحدد في سند أنشائه، أو إذا تحقق الغرض الذي تأسس من أجله، أو إذا استحال تحقيق الغرض الذي تأسس من أجله، أو إذا لم يباشر نشاطه ضمن مدة محددة في القانون بعد إنشائه، أو إذا تم حله بإرادة الأشخاص المكونين له، إذا صدر حكم قضائي بحله.

 عقيدة الشخصية الاعتبارية:

بما أن الأصل في العقيدة، أنها تتعلق بالأشخاص الطبيعيين، فهم المخاطبين شرعاً بها، فعقيدة الشخص الحقيقي هي التي توظف عملياً في كافة مجالات الحياة؛ وذلك بواسطة الشريعة التي هي المنهج المنبثق عن العقيدة، فالعقيدة هي الأصل الذي تبنى عليه الشريعة، والشريعة هي العقيدة في الحركة والممارسة، ومن ثم فلا وجود للشريعة في الإسلام إلا بوجود العقيدة كما أنه لا تأسيس للشريعة إلا في ظل العقيدة، وبناء على ذلك فعلينا أن نتحفظ على تقسيم الإسلام إلى عقيدة وشريعة – اللهم إلا فصلاً لأغراض الدراسة – فالأصل أن الإسلام كله عقيدة يجب التسليم بها ابتداءً والإيمان بها كليةً، وتأتي ممارسة الشعائر أو تطبيق الأحكام – على سبيل المثال- كأعمال منطلقة من عقيدة إيمانية، حتى تحقق مقاصدها في الواقع المعاش، فالإيمان هو العقيدة، والاستقامة هي اتباع الشريعة، أي توظيف الإيمان في واقع الحياة بجميع جوانبها، فالعقيدة مفهوم عام، يشمل نسق الشريعة بأكملها يبدأ بالمستوى الفردي، وينتهي على مستوى الأمة، التي تعتبر بمجموعها الوعاء الأكبر لحفظ الدين.

والتكييف الفقهي لعقيدة الكيان القانوني الذي يصنعه الإنسان ذاته، كأحد أنشطته في عمارته للأرض واستخلافه فيها، هذا الكيان المسمى (الشخصية الاعتبارية)، التي تتمتع ببعض صفات الشخصية الطبيعية خاصة فيما يخص الذمة المالية، والاسم الخاص، والجنسية.

وبما أن الشخصية الاعتبارية، تعتبر في عصرنا الفاعل الأكبر في مختلفة نواحي الحياة – كما ذكرنا في المقدمة- فلا بد من الحديث عنها بصفة حقيقتها المادية، أي بقيمتها المالية - قلت أو كثرت – هل لها عقيدة أم لا؟ وإن كان لها عقيدة؛ فما تعريفها؟ وإن لم يكن لها عقيدة؛ فما حكم تصرفاتها والحقوق الشرعية للمسلمين في أموالها؟، وهل وجدت الشخصية الاعتبارية في الإسلام، أم أنها كيان جديد لم يعرفه الفقه الإسلامي من قبل؟.

ولمعرفة ذلك كله، سنؤصل شرعياً لوجود الشخصية الاعتبارية في الإسلام، مع استعرض بعض الأدلة على وجود الشخصيات الاعتبارية في الشريعة الإسلامية مع التركيز على الشخصية الاعتبارية ذات الطابع العقدي، ومحاولة استنباط تعريف العقيدة عند الشخصية الاعتبارية في الإسلام.

التأصيل الشرعي لعقيدة الشخصية الاعتبارية في الإسلام:

فطر الله الإنسان خلقة على الألفة الاجتماعية؛ فهو يحب العيش في جماعة، كما يقال إن الإنسان بطبعه اجتماعي، ودين الإسلام هو دين الفطرة، التي فطر الله الناس عليها، لذلك تميزت رسالة الإسلام بعدد من الخصائص التي تميزت بها عن بقية الأديان.

ومن تلك الخصائص، خصيصة الشمول؛ والتي ذكرها الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه (الخصائص العامة في الإسلام)، ومن معاني الشمول في الإسلام أنه لا يدع جانبا من جوانب الحياة الإنسانية إلا كان له فيه موقف، قد يتمثل في الإقرار والتأييد، أو في التصحيح والتعديل، أو في الإتمام والتكميل، أو في التغيير والتبديل، وقد يتدخل بالإرشاد والتوجيه، أو بالتشريع والتقنين، وقد يسلك سبيل الموعظة الحسنة، ويتجلى كمال الإسلام بتلازم وشمول عقيدته وشريعته وأخلاقه، كتجلي وحدة الجسد المتكون من الفؤاد والعقل والجوارح.

فالعقيدة بمثابة القلب وبصيرته، والشريعة بمثابة العقل وحكمته، والأخلاق بمثابة الجوارح وعملها؛ إذ العقيدة هي الإيمانيات والمعتقدات، وهذه اتفق عليها كل الرسل، فما من نبي إلا وقد قال لقومه {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} ومع العقائد كانت الشرائع التي تنظم حياة الناس فتحل لهم ما يحله الله، وتحرم عليهم ما حرمه، وتأمرهم بما يحب الله، وتنهاهم عما يبغضه.

نشأة الشخصيات الاعتبارية العقدية ابتداء:

تنشأ الشخصية الاعتبارية العقدية الربانية ابتداء بنداء رباني، فقد بعث الله للناس رسلاً مبشرين ومنذرين، برسالات سماوية، قد تخاطب البشرية كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [سورة البقرة: 21]، أو تخاطب قوماً بعينهم، كقوله تعالى: { وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ} [سورة هود: 84]، وحي يوحي به الله إلى رسله، ودعوة الناس عامة، أو أقوام خاصة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى.

فالمؤمنون برسالة الله، هم نواة الشخصية الاعتبارية العقدية الجديدة المؤمنة بدين الله المنزل، عندها يخاطبهم الله بالتكاليف الربانية بصفتهم العقدية الإيمانية، كقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة البقرة:183]، فعندما خاطبهم الله بمسمى (الإيمان) الذي ميزهم عن بقية الناس كان هذا بمثابة القانون الرباني بالاعتراف بالشخصية الاعتبارية العقدية للدين المنزل، هذه الشخصية التي أصبحت الأخوة في الدين هي رابطها الأول بين أفرادها كأشخاص طبيعيين، لذلك فشخصيتهم العقدية تعتبر صناعة ربانية، حيث تنشأ للمؤمنين شخصيتهم الاعتبارية الخاصة بنداء رباني، يميز شخصيتهم الاعتبارية عن بقية الناس.

وقد تخرج الشخصية الاعتبارية العقدية الربانية إلى الوجود من بطن شخصية اعتبارية عقدية مشركة، عندما يبعث الله الرسل إلى كيانات عقدية كبرى، كما بعث الله سيدنا موسى وسيدنا هارون إلى فرعون وقومه، قال تعالى مخاطباً سيدنا موسى وأخاه هارون عليهما السلام: {فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ * قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ *وَالسَّلَامُ عَلَىٰ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَىٰ} [سورة طه: 47]، ففي قوله تعالى: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} دلالة واضحة إلى الدعوة إلى إخراج بني إسرائيل من سطوة الشخصية الاعتبارية لدولة فرعون، لتنشأ شخصية اعتبارية عقدية جديدة للمؤمنين بدعوة موسى عليه السلام.

فبعد أن تنشأ الشخصية العقدية النشأة الربانية (الشرعية) تدخل في صراع شديد مع الشخصيات الاعتبارية السابقة لها والتي قد نالت الاعتراف القانوني – حسب القوانين العرفية التي تتعارف عليها البشرية في كل زمان ومكان – فالعادة أن لا تقبل أي شخصية عقدية – خاصة الشخصيات العقدية الشركية – بأي شخصية عقدية جديدة، فالصراع الذي حدث بين من آمنوا بسيدنا موسى وبين فرعون وقومه خير مثال، وكذلك ما حدث بين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وكفار قريش من حروب حتى نصر الله المسلمين على كفار قريش، إلى أن وصلوا إلى صلح الحديبية الذي يعتبر النصر القانوني للشخصية الاعتبارية لدولة المسلمين الأولى.

بعد ذلك تجسدت الشخصية الاعتبارية العقدية للدولة الإسلامية عملياً في أول دستور لها (صحيفة المدينة)، على أسس بناء الشخصية الاعتبارية العقدية التي نظمت العلاقة بين المسلمين أولاً، وبين المسلمين وغيرهم من ساكني المدينة من اليهود وغيرهم ثانياً.

هذه الشخصية الاعتبارية التي تمثل أمة الإسلام، بنيت عليها أحكامُ شرعية، منها على سبيل المثال: قوله النبي صلى الله عليه وسلم: ((المسلمون تتكافأ دماؤهم يسعى بذمتهم أدناهم ويجير عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم يرد مشدهم على مضعفهم ومتسريهم على قاعدهم لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهد))، فالفقرة الثانية من الحديث، اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم، ما يعطيه أحد من المسلمين للمحارب طالب الأمان من ذمة وتأمين، سارياً على جماعتهم وملزماً لهم كما لو صدر منهم جميعاً، فقال الفقهاء لا يجوز بعد ذلك قتل من أومن ولا قتاله بحجة أن معطي الأمان ليس صاحب سلطان، وإن كان للإمام، إذا رأى أن إعطاء الأمان ليس في مصلحة المسلمين السياسية، أن ينقضه يعد إنذاره، ويؤدب معطيه.

مفهوم عقيدة الشخصية الاعتبارية المسلمة واستنباط تعريفها:

بعد توضيح مفهوم الشخصية الاعتبارية وكيفية نشوئها، وإثبات وجود التلازم بين العقيدة والشريعة في الإسلام، وبيان شمول رسالة الإسلام التي احتوت كل مجالات الحياة، وكل ميادين النشاط البشري، فإننا سوف نتطرق في هذه الفقرة إلى مفهوم عقيدة الشخصية الاعتبارية.

وبما أنه لم يقع في يدي شخصياً أي بحث يتحدث عن موضوع عقيدة الشخصية الاعتبارية، فقد بذلت جهدي في البحث والتحري واستفسار عدد كبير من العلماء الذين استطعت مقابلتهم أو مراسلتهم، وعلى رأسهم أصحاب الفضيلة أ.د. أحمد الريسوني، أ.د. على القرة داغي، ولم أظفر بأي بحث أو مقالة، في ماهية عقيدة الشخصية الاعتبارية، لذلك سأستعين بالله تعالى وبتوجيه أصحاب الفضيلة المشرفين على رسالتي هذه، على أن أبين ماهية عقيدة الشخصية الاعتبارية، التي أصبحت المنظم لجميع مناحي حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فقد أصبحت من الأمور المهمة جداً، حيث يترتب عليها حقوق وواجبات مادية ومعنوية تمس حياة الناس، فلا يعقل أن يترك هذا الموضوع دون هداية تشريعية تستنبط من خلال شريعة الإسلام الخاتمة، لعلي أوفق في تحديد مفهوم عقيدة الشخصية الاعتبارية ثم صياغة التعريف المناسب لها.

فقد أصبح واقع الحال يثبت التكاليف الشرعية للشخصيات الاعتبارية المسلمة في شتى مناحي الأنشطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ففي المجال السياسي، نصت معظم دساتير الدول المسلمة على أن دينها هو الإسلام، وأن الشريعة الإسلامية هي مصدر تشريعاتها الأول، وفي المجال الاقتصادي وجدت المصارف الإسلامية، والشركات التجارية الملتزمة بأحكام الشريعة، والتي يطلق عليها (المباحة)، وكذلك في المجال الاجتماعي تشكلت المؤسسات والجمعيات الخيرية التي أصبحت الجهاز المنظم للربط بين أغنياء الأمة وفقرائها.

وهذه الشخصيات الاعتبارية قد أقرتها المجامع الفقهية، كشخصيات اعتبارية مسلمة، ينطبق عليها ما ينطبق على الشخص الطبيعي المسلم من حقوق شرعية وواجبات، لكن للأسف لم يتطرق أحد إلى ماهية عقيدتها، علما أن الأشخاص الاعتباريون ما هم في الحقيقة إلا نتاج تعاون وتضافر العمل الجماعي بين الأشخاص الطبيعيين، حتى وإن أصبحت لتلك الشخصيات الاعتبارية ذمتها المالية المنفصلة عن ذمة أصحابها.

تعريف عقيدة الشخصية الاعتبارية:

بعد تشخيص واقع الشخصيات الاعتبارية المسلمة، وخاصة ما ألزمت به من واجبات شرعية، من خلال فتاوى المجامع الفقهية، كحرمة الربا، ووجوب الزكاة، وغيرها من التكاليف الشرعية، التي لا تجب إلا على الشخصية الاعتبارية المسلمة التي لا تنفك شريعتها عن عقيدتها، يمكننا استخلاص تعريف عقيدة الشخصية الاعتبارية، مع شرح لمصطلحات التعريف كما يلي:

«تنبثق عقيدة الشخصية الاعتبارية من عقيدة وإرادة أصحابها الطبيعيين، باعتبار وجودها وفق تشريعاتهم الملازمة لعقيدتهم».

شرح مصطلحات التعريف:

فقولنا: (تنبثق) أي تظهر وتلوح، لأنها كامنة داخل قلوب من يملكون تلك الشخصية الاعتبارية من البشر، أي أنها ليست وصفاً أو حكماً دخيلاً أو مستجداً يطلق عليها من خارجها، وقد اخترت مصطلح (الانبثاق) ليكون معبراً عن مصدر تلك العقيدة، التي هي منبثقة من عقيدة أصحاب الشخصية الاعتبارية الطبيعيين، يقال: (انبثق الفجر: ظهر، لاح)، (انْبَثَقَ الفجر: طلع، انْبَثَقَتِ الأرض: أخصبت)، (انبثق السيلُ عليهم: أقبل فجْأَة، وانبثق فلانٌ عليهم بالكلام: اندفع)، أي أن الانبثاق يكون من داخل الشيء نفسه، وليس من خارجه.

وقولنا: (من عقيدة أصحابها) هو إثبات لنتيجة التلازم الحتمي بين العقيدة (عقيدة وإرادة أصحاب الشخصية الاعتبارية) وبين الشريعة (آلية عمل الشخصية الاعتبارية نفسها) لكون الشخصية الاعتبارية – بجميع أنواعها- هي إحدى تجليات معاملات الأشخاص الطبيعيين في أنشطتهم الحياتية المختلفة، ومعاملات الأشخاص الطبيعيين المسلمين هي التطبيق الفعلي للشريعة الإسلامية، ولأن الشخصيات الاعتبارية هي في الحقيقة ملك لأشخاص طبيعيين، أو على أبعد تقدير هي ملك لشخصية اعتبارية يملكها في النهاية أشخاص طبيعيون مسلمون، أي أن التكاليف الشرعية التي شرعت على الشخصية الاعتبارية هي في مآلها ترجع إلى الأشخاص الطبعيين ملاك الشخصيات الاعتبارية الذين أوجدوها أصلاً لتحقيق منافعهم في شتى مناحي الحياة.

وقولنا: (إرادة أصحابها) هو تنبيه لما يحدث – وللأسف – أن بعض المسلمين يقومون بإنشاء مؤسسات لا تلتزم بأحكام الشريعة، وتعتبر شخصيات اعتبارية غير مسلمة، لذلك من الواجب على الدولة الوطنية المسلمة – خاصة الدول التي نصت دساتيرها على عدم جواز سن قوانين تخالف أحكام الشريعة – أن تمنع قيام أي كيان قانوني (شخصية اعتبارية) إلا وفق الضوابط الشرعية، ولك لتنسجم التشريعات التي تنتهجها الشخصيات الاعتبارية مع عقيدة الأشخاص الطبيعيين.

وعلى افترض عدم توفر الإرادة بإنشاء تلك الكيانات كشخصيات اعتبارية مسلمة؛ فهذا لا يعني أن ما تملكه تلك الشخصيات من أموال أن ليس فيها زكاة؛ بل يرى الباحث أن الزكاة تجب في أموالها؛ وذلك لأن تلك المؤسسات تعد ن الأموال في ذاتها، وأن ما في ذمتها من أموال؛ تعود حقيقة إلى ملكيتها أصحابها المسلمين، وإذا جاز التشبيه: فالمسلم الذي يستثمر أمواله في مؤسسات (شخصيات اعتبارية) لا تلتزم بالضوابط الشرعية؛ هو كالمسلم الذي يدفع أمواله إلى غير مسلم ليضارب له فيها، فهل يعقل أن نقول: إن أموال المسلم التي هي في شركة مضاربة مع غير المسلمين، ليس فيها زكاة؟!.

وقولنا: (الطبيعيين): أي البشر الحقيقيين، (الشخصيات الطبيعية)، التي تتعلق بها أساساً التكاليف الشرعية، والتي لا تقوم الشخصيات الاعتبارية إلا بواسطتها، فالذي يحاسب يوم القيامة ليست الشخصيات الاعتبارية، وإنما يحاسب الأشخاص الطبيعيون أصحاب تلك الشخصيات الاعتبارية.

فمن الأدلة على انبثاق وتبعية عقيدة الشخصية الاعتبارية لعقيدة أصحابها الطبيعيين ما ورد من أحاديث نبوية تهول من عظم تولي المناصب العامة - تلك المناصب التي تمثل الشخصية الاعتبارية للأمة أو لإحدى الشخصيات الاعتبارية التابعة لها؛ كالولايات والنواحي والأوقاف وغيرها - منها قوله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به))، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما من عبد استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة)).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: اليافعي، محمد، رسالة دكتوراه" الصندوق العالمي للزكاة، أسسه العقدية وآثاره الاقتصادية" جامعة محمد الخامس الرباط 2018م.


: الأوسمة



التالي
كيفَ تقوّي لسانَك باللّغة العربيّة؟!
السابق
الاتحاد يدين بشدة الهجوم الإرهابي ببوركينا فاسو الذي أودى بحياة عدد من المدنيين

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع