البحث

التفاصيل

المعنى التاريخي والقانوني الصحيح لمفهوم "الوضع القائم للمسجد الأقصى المبارك"

المعنى التاريخي والقانوني الصحيح لمفهوم "الوضع القائم للمسجد الأقصى المبارك"

بقلم: د. تيسير رجب التميمي

 

لقد كانت قضية القدس والمسجد الأقصى المبارك وما زالت قضية دينية ووطنية وقومية للفلسطينيين والعرب والمسلمين على السواء ، فهما قضية واحدة لا تتجزأ ، وما زالت القضية الفلسطينية العادلة التي هي قضية الأمة كلها ، فهي مفجّرة الصراع مع الاحتلال الصهيوني لأرضها المقدسة وهي بؤرتها المركزية لأنها تمس بعقيدته ، ولذلك كانت هذه القضية دوماً في الصدارة من اهتمامات الأمة ودافعاً لجهادها في سبيل الله بهدف الحفاظ على هويتها الأصيلة ووضعها القائم ، هذه الهوية العربية الإسلامية التي تحاول إسرائيل وداعموها تغييرها وتغير وضعها القائم بكل ما أوتيت.

كثيراً ما تتردد عبارة "الوضع القائم" بخصوص المسجد الأقصى المبارك ، وللتوضيح فإن ما ينبغي على العالم أجمع معرفته هو حقيقة هذا المفهوم من الناحية التاريخية والقانونية ، فبُعْدُه التاريخي يستند إلى استخدام الفرمانات العثمانية هذه العبارة ، وهي تعني الوضع الذي كان عليه المسجد منذ عدة قرون يوم أن تم تحريره نهائياً من الاحتلال الصليبي في عام 642 للهجرة (1244 – 1245 للميلاد) على يد سلطان مصر نجم الدين أيوب رحمه الله ، وقد استمر الوضع القائم طيلة العهود الإسلامية اللاحقة وحتى وقوعها تحت الاحتلال الصهيوني في يوم 5/6/1967م بأنه مسجد خالص للمسلمين.

أما البُعْدُ القانوني لهذا المفهوم فيستند إلى تقرير بعثة عصبة الأمم المتحدة عام 1930 (لجنة شو) التي قررت [أنّ المسجد الأقصى المبارك بما فيه حائط البراق هو ملك للمسلمين وحدهم ، وأنّ الرصيف الكائن أمام الحائط هو للمسلمين أيضاً]، وأكدت اللجنة أن سماح المسلمين سابقاً لليهود بالصلاة على هذا الرصيف في أوقات محددة يكون على بعد خمسين متراً فقط من حائط البراق إلا أنه [يمنع جلب أي خيمة أو ستار أو ما شابههما من الأدوات إلى المكان لوضعها هناك ولو لمدة محدودة من الزمن] هذا الوضع الذي بدأت سلطات الاحتلال بتغييره شيئاً فشيئاً منذ اليوم الأول للاحتلال متبعة سياسة فرض الأمر الواقع لتحقيق أهدافها الخبيثة في أرض فلسطين بقوة السلاح . وبما أن هذه اللجنة الدولية قد انبثقت عن عصبة الأمم المتحدة فقراراتها هي بمثابة تجسيد للقانون الدولي، يضاف إلى ذلك أن منظمة اليونسكو أكدت على تسمية المسجد الأقصى المبارك واختصاص المسلمين به.

أما قبل هذا الاحتلال الغاشم فقد كانت الضفة الغربية ومدينة القدس المباركة جزءاً من المملكة الأردنية الهاشمية، وتتبع كل مؤسساتها المدنية والدينية للحكومة الأردنية وهيئاتها الرسمية ، فمساجد الضفة الغربية ومساجد مدينة القدس وكل مقدساتها وفي مقدمتها المسجد الأقصى المبارك كانت تحت إدارة وإشراف وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية الأردنية ، ومثلها الكنائس والمقابر والعقارات الوقفية.

وفي الأيام الأولى للاحتلال اجتمع القضاة والمفتون والوزراء والنواب السابقون في عدة جلسات للتشاور فيما بينهم لاختيار مؤسسة تدير شؤون المواطنين تطبيقاً للقاعدة الشرعية التي توجب على أهل الحل والعقد في البلاد الإسلامية التي تقع تحت الاحتلال اختيار هيئة تدير المؤسسات والأجهزة والهيئات القائمة فيها ؛ وبالأخص ما يتعلق منها بالدين والعقيدة وذلك خشية انقطاع صلتها بالأردن فيحلّ بها ما حلَّ بالفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 48 ، فأثمرت هذه المشاورات إنشاء الهيئة الإسلامية العليا بالقدس ، وتولى رئاستها الشيخ عبد الحميد السائح رحمه الله الذي كان يشغل منصب رئيس محكمة الاستئناف الشرعية بالقدس ، فاكتسبت الهيئة التأييد الواسع في فلسطين والعالم الإسلامي.

أخضعت سلطات الاحتلال المؤسسات المدنية العاملة في الأراضي الفلسطينية المحتلة لحكمها العسكري، وحاولت إخضاع المحاكم الشرعية والمساجد وبالأخص المسجد الأقصى المبارك إلى سلطاتها العسكرية ، لكن الهيئة الإسلامية العليا رفضت تدخل سلطات الاحتلال في شؤون القدس ومقدساتها وكل ما يخص المؤسسات الدينية في فلسطين المحتلة ، ووقفت لها بالمرصاد وتصدت لها بكل صمود وثبات حتى أفشلتها ، فقررت سلطات الاحتلال إبعاد رئيس الهيئة الذي كان أيضاً رئيساً لمجلس الأوقاف في القدس وعدداً من أعضائها ، ومع ذلك ظلت الهيئة تدير هذه المؤسسات إلى أن تولى رئاستها الشيخ حلمي المحتسب رحمه الله ، والذي تولى أيضاً إدارة المحاكم الشرعية بصفته القائم بأعمال قاضي القضاة الأردني ، وإدارة المساجد بصفته رئيس مجلس الأوقاف الذي يتبع وزارة الأوقاف الأردنية.

استمرت مساجد مدينة القدس المحتلة وفي مقدمتها المسجد الأقصى المبارك وكافة مساجد الضفة الغربية وبضمنها الحرم الإبراهيمي الشريف في مدينة الخليل إبراهيم عليه السلام تحت الإدارة والإشراف الأردني حتى فك الارتباط الثاني مع الأردن عام 1994 بقيام السلطة الوطنية الفلسطينية ؛ حيث أُتْبِعَتْ المساجد والأوقاف في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة لوزارة الأوقاف والشؤون الدينية الفلسطينية ، وأتبعت المحاكم الشرعية إلى ديوان قاضي القضاة الفلسطيني ، أما في مدينة القدس المحتلة فبقيت المحاكم الشرعية فيها تابعة لدائرة قاضي القضاة في الأردن ، وكذلك بقيت كل المساجد وعلى رأسها المسجد الأقصى المبارك وكل الأوقاف الأخرى تتبع دائرة الأوقاف في القدس التي تتبع هي أصلاً وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الدينية الأردنية ، وما زالت الهيئة الإسلامية العليا بالقدس إلى الآن تؤازرها وتساندها في دورها هذا جنباً إلى جنب لحماية المسجد الأقصى المبارك من كل الأخطار التي تتهدده.

إذن هذا هو المعنى التاريخي والقانوني الصحيح لعبارة الوضع القائم للمسجد الأقصى المبارك والذي تعمل سلطات الاحتلال على تغييره بلا توقف منذ الاحتلال عام 67 وتتبع لذلك سياسة الأمر الواقع بشتى السبل، فبعد انتهاء حرب حزيران/يونيو 1967، قدم موشيه ديان وزير الحرب الإسرائيلي وعداً كاذباً للأوقاف الإسلامية بالمحافظة على الوضع القائم للمسجد الأقصى المبارك كما كان، ولكن سرعان ما بدأت سلطات الاحتلال بخطوات لتغييره:

* فقد قامت بتدمير حارة المغاربة ومنازلها ومساجدها في محيط المسجد الأقصى المبارك لتوسيع ساحة حائط البراق المعروفة زوراً وافتراء بحائط المبكى ، وسوّت الأرض حوله وجعلتها ساحة ضخمة تتسع لعشرات الآلاف ، وأقامت عدداً كبيراً من المرافق في المكان ، وشرعت الجماعات الدينية اليهودية بإقامة الشعائر الدينية في المكان بادعاء أنه يشكّل الحائط الغربي للهيكل.

* استولت سلطات الاحتلال على حائط البراق ذاته، وعلى باب المغاربة ومفاتيحه وعلى معظم أبواب المسجد الأقصى المبارك فيما بعد وأنشأت داخله مغفراً للشرطة.

وتتحكم حالياً بهذه الأبواب فتسمح وتمنع الدخول لمن تشاء وفق حساباتها وأهوائها، فكثيراً ما تمنع أهل الضفة الغربية وقطاع غزة بل وتفرض قيوداً على أهالي القدس والأرض المحتلة عام 48.

* وقامت بحفريات مكثفة وفاشلة تحت المسجد الأقصى المبارك بهدف البحث عن جذور يهودية تحت أرضه ، ويعترف علماء الآثار الإسرائيليون بعدم اكتشاف أي أثر لليهود أو للهيكل تحت المسجد ، إلا أنهم يصرون على مواصلتها بهدف هدمه وإقامة الهيكل المزعوم في مكانه مُتَحَدِّينَ قرارات اليونسكو والأمم المتحدة التي أدانتها باعتبارها تهديداً حقيقياً للتراث الإنساني وبالأخص في حال حدوث هزّة أرضية حقيقية أو مفتعلة .

* وقررت ما تسمى بلدية القدس تحويل ساحات المسجد الأقصى المبارك إلى حدائق عامة ، وهذا القرار يعتبر تمهيداً للسيطرة عليها كما حصل في مغتصبة جبل أبو غنيم وغيرها من الأراضي التي تمت مصادرتها بهذا الأسلوب ، وكذلك محاولتها إصدار قانون لفرض السيادة الإسرائيلية على المسجد.

* ويقوم الجنود ورجال الشرطة الاحتلالية أنفسهم باقتحامات متواصلة وروتينية لباحات المسجد الأقصى المبارك يعتدون خلالها على المصلين ويقومون بإخلاء المعتكفين والمرابطين فيه ، ويقومون في ذات الوقت بدعم وحماية الجماعات والشخصيات السياسية والدينية والبرلمانية اليهودية الذين يقتحمونه يومياً بقرارات حكومية ، وتحاول هذه السلطات الاحتلالية إصدار تشريعات تسمح لليهود باقتحامه وأداء صلواتهم التلمودية فيه وتضرعاتهم الصامتة والجهرية ، وأصبحت هذه الاقتحامات تحمل دلالات ومؤشرات وعلامات التقسيم الزماني والمكاني للمسجد .

* وترفض سلطات الاحتلال الاعتراف بسلطة الأوقاف وبملكية المسلمين التامة للمسجد الأقصى المبارك وباحاته وحيطانه ومحيطه، وتصادر القرارات وتحتفظ بها لنفسها، وتحاول منعها القيام بأعمال الترميم، بل وتمنع حتى الصلاة في بعض المواقع مثل باب الرحمة وغيره.

إن سلطات الاحتلال الإسرائيلي وهي الخارجة عن القرارات الدولية وعن كل الأصول المتبعة في التاريخ والشريعة والقانون على مرأى ومسمع من العالم وأرباب القانون فيه ، هذه السلطات خرقت الوضع القائم منذ احتلال عام 67 كما ذكرتُ آنفاً بما يخالف الشرائع الإلهية والقوانين الدولية ، فالمسجد الأقصى المبارك مسجد خالص للمسلمين ولا حق فيه لليهود ولا لغيرهم من قريب أو بعيد ، وهو جزء من عقيدة الأمة لأنه قبلتها الأولى ومسرى نبيها محمد صلى الله عليه وسلم ، لذا لا يجوز لسلطات الاحتلال التدخل في شؤونه ، يضاف إلى ذلك عدم جواز ازدواجية العبادة في مكان واحد لأتباع الأديان المختلفة كما هو ثابت ومتعارف عليه في العالم ، فهذا الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم فتح القدس رفض الصلاة في كنيسة القيامة وصلى خارجها.

لقد أثبت شعبنا الفلسطيني الصابر المصابر المجاهد المرّة تلو الأخرى أنّه مستعد لبذل كل التضحيات لحماية المسجد الأقصى المبارك وللتمسك بثوابت قضيته الفلسطينية العادلة، وهو على وعي تام بأن حماية مدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك هي حماية لأرض فلسطين المقدسة.

لذا فإنني في الختام أجدد التأكيد على إسلامية المسجد الأقصى المبارك بكل مكوناته ومساحاته داخل السور والبالغة (144) مائة وأربعة وأربعين دونماً بقرار رباني من فوق سبع سماوات هو قوله سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} الإسراء 1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي: عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وقاضي قضاة فلسطين، ورئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً، وأمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس





التالي
الصلابي: يدعو علماء المغرب الكبير إلى الإسهام في وحدة شعوبهم وترسيخ الأخوة وتحقيق السلام والمصالحة الشاملة
السابق
وزع 26 ألف نسخة من القرآن الكريم.. إمام تركي يعرّف بالإسلام بـ 25 لغة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع