البحث

التفاصيل

فلسطين أرض وقف إسلامي تجب حمايتها والدفاع عنها

فلسطين أرض وقف إسلامي تجب حمايتها والدفاع عنها

بقلم: د. تيسير رجب التميمي

 

في شهر آب من كل عام تصادف ذكرى جريمة صهيونية غادرة هي إحراق المسجد الأقصى المبارك ، ولكن قبل ذلك لا بد من الحديث عن الوضع القائم في مدينة القدس وفي المسجد الأقصى المبارك ، وعن منشأ هذا المفهوم ومحاولات سلطات الاحتلال الإسرائيلية الغاشمة تغييره بكل ما أوتيت ، ولا بد من الحديث عن موقف الأمة جمعاء من القدس والمسجد الأقصى المبارك، وعن مكانتهما في عقيدة المسلمين وتاريخهم.

فهذه المدينة العزيزة الغالية على قلوبهم هي عاصمتهم الروحية الثالثة بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة ، ومسجدها الأقصى المبارك هو درة مقدساتهم بعد المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف ، وهي مدينتهم الحبيبة التي تعيش في ضمائرهم وقلوبهم ، وقد علموا حقاً ويقيناً أنها ليست للفلسطينيين وحدهم ، وإنما هي لكل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، يفتدونها بأرواحهم لأنها جزء من عقيدتهم، ففيها مسرى رسول ربهم وحبيبهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بدليل قوله سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَى ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَى ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ} الإسراء1، وفيها قبلتهم الأولى في صلاتهم التي فرضت ليلة الإسراء والمعراج، بدليل قول الصحابي البراء بن عازب رضي الله عنه: {صلينا مع النبيِّ نحو بيت المقدسِ ستةَ عشرَ شهرًا، أو سبعةَ عشرَ شهرًا وصُرف إلى القبلةِ} رواه البخاري، وهي الأرض التي وصفها الله سبحانه وتعالى وما حولها في عدة آيات قرآنية بأنها أرض مباركة منها قوله تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} الأنبياء71، وهي أيضاً الأرض التي كانت مهداً للنبوات ومبعثاً لعديدٍ من الرسل الذين مشت خُطاهم في أرجائها المباركة واستنشقوا أنفاسهم من أجوائها الطاهرة ، فكل شبر فيها يحمل بصمات نبيّ وأصداء ملاك ، وفيها نشأ كثير من الصالحين والأخيار، ودفن في باطنها كثير من الصحابة الأخيار والقادة المجاهدين الأبرار،،

لكل ذلك كانت مدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك في قلوب وأرواح وضمائر المسلمين جميعاً، ولكل ذلك دافعت الأمة عنهما على مدى تاريخها الطويل، فحينما كانت تتعرض هذه الأرض المباركة للاحتلال أو الغزو كان أبناء الأمة في مشارق الأرض ومغاربها يتوحدون لتحريرها وتطهيرها من الغزاة والمحتلين ، فقد كانت دوماً عنوان كرامتهم وشرفهم ومعيار مجدهم وعزتهم، فإذا هانت هانوا كما هو حاصل الآن، وإذا عزت عزوا كما حصل في الماضي بتحريرها من الفرنجة والتتار على يد صلاح الدين الأيوبي وقطز والظاهر بيبرس رحمهم الله وغيرهم من الأبطال الصناديد من قادة وأبناء هذه الأمة.

وهنا أذكّر أمتنا وعلماءنا وقادتنا بأمر هام جداً، وهو أن فلسطين بكاملها هي أرض وقف إسلامي، أوقفها قادة الفتح الإسلامي والعلماء والصالحون من أبناء هذه الأمة ، فقد أوقفوا أراضيها وعقاراتها على مصالح المسجد الأقصى المبارك ، أو على جهة بر لا تنقطع في فلسطين تقرباً إلى الله سبحانه وتعالى ، فما من شبر فيها من رأس الناقورة شمالاً إلى أم الرشراش (إيلات) جنوباً إلا ورقبة أرضها قد أوقفت وقفاً خيرياً صحيحاً منهم:

* وفعلوا ذلك اقتداء برسولنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أقطع الصحابي الجليل سيدنا تميم ابن أوس الداري رضي الله عنه أرض الخليل عليه وعلى إخوانه وأعقابهم أبد الآبدين كما ورد في نص الإنطاء النبوي الشريف، وكان هذا أول إقطاع في الإسلام؛ حيث إن الإقطاع من صور الوقف.

* وفعلوا ذلك أيضاً اقتداء بالملك الناصر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله الذي أوقف الأرض الواقعة غرب المسجد الأقصى المبارك (ساحة البراق) على المجاهدين والمرابطين من أبناء المغرب العربي الذين أسهموا في تحرير مدينة القدس المباركة من احتلال الفرنجة والتي عرفت فيما بعد بِحارة المغاربة، ومن هذه الأوقاف على سبيل المثال:

* وقف الملك الأفضل نور الدين علي أبو الحسن بن السلطان الناصر صلاح الدين يوسف الأيوبي وهو المعروف بالمدرسة الأفضلية أو مدرسة القبة، سميت بذلك لوجود قبة كبيرة كانت تُميّز بناءها من الأعلى.

* وقف مجير الدين عبد الرحمن العليمي (الحنبلي)، وهي عبارة عن دار تقع بالقرب من المتوضأ الكائن أسفل الخانقاة الفخرية لصق المسجد الأقصى المبارك.

* وقف السيدة فاطمة بنت محمد بن علي المغربية المعروفة بـأم سعود ، وهو عبارة عن دار كانت تعرف قبل وقفها بالقبو الروماني ، قامت أم السعود بوقفها بعد تجديد بنائها .

* وقف أبي مدين الغوث الحفيد من الجزائر، وهي حاكورة ملاصقة للمدرسة التنكزية (المحكمة الشرعية) من جهة الجنوب ، وقد بقيت على حالها عدة مئات من السنين.

* وقف الحاجة مريم بنت عبد القادر المغربية، وهو عبارة عن دار تتكون من أربعة بيوت، ومطبخ، ومرتفق، وصهريجين لجمع ماء المطر، ومنافع، ومرافق، وحقوق شرعية ، واشترطت تأجيرها لشراء الخبز من إجارتها وتوزيعها على فقراء المغاربة في القدس.

* وقف الحاج كمال الحلواني، وهو عبارة عن دار تقع بالقرب من إسطبل وقف المغاربة ودار وقف القاضي شرف الدين الخالدي.

* ومنها أيضاً أوقاف خاصكاي سلطان في منطقة بيت لحم وفاطمة خاتون في منطقة جنين، وهما من سيدات الدولة العثمانية.. وهذا على سبيل المثال لا الحصر فالأوقاف في ارض فلسطين كثيرة جداً، ويستطيع الباحث أن يتعرف عليها وأن يتأكد من صحتها بالرجوع إلى سجلات محكمة القدس الشرعية وإلى الأرشيف العثماني في أنقرة.

وكان الدافع الأكبر وراء تنافس أبناء الأمة في وقف أرض فلسطين هو قداستها ومكانتها الدينية ، وفهمهم العميق لآية الإسراء التي أكدت إسلاميتها إلى يوم الدين ، وسبب آخر هو حرصهم على حفظها من الغزاة والمحتلين وعبث العابثين ومن تسول له نفسه التفريط ولو في ذرة من ترابها ، فعلوا ذلك لحمايتها من الضياع والتسريب للأعداء.

وبناء على ذلك فالحكم الشرعي والقانوني أن رقبة هذه الأراضي الوقفية لا تباع ولا توهب ولا يجوز التنازل عنها من أي شخص كان لأي سبب كان ولأية جهة كانت ، فإنها بهذا الوقف قد خرجت عن ملك أصحابها إلى ملك الله سبحانه وتعالى أي : على مصالح الأمة الإسلامية وحدها دون غيرها ، وعلى ما قصد الواقفون بوقفهم هذه الأراضي من انتفاع جهات البر ووجوه الخير التي لا تنقطع : كالفقراء والمساكين وطلبة العلم ومصالح المساجد وعلى رأسها المسجد الأقصى المبارك في القدس والحرم الإبراهيمي الشريف في الخليل ، أو على ذُرِّيَّات الواقفين أبد الآبدين ثم بعد انقراضهم إلى وجوه الخير والبر التي لا تنقطع وهو المعروف بالوقف الذُّرِّيّ .

وبناء على ذلك أيضاً فإن أيّ تصرف بهذه الأرض كما بينتُ هو باطل بطلاناً مطلقاً ، وكل من يعمل على تمكين الأغيار من هذه الأرض المباركة أو يسهم في ذلك بأية صورة كانت فهو مرتد عن دينه مستحق للنبذ والخزي والعقوبة الرادعة له ولأمثاله في الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة ، فقد رويت بدماء الأخيار والأبرار من لدن صحابة سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين وتابعيهم من الصالحين والمجاهدين والعلماء والفقهاء الذين دافعوا عنها وبذلوا من أجلها دماءهم الزكية وأرواحهم وأموالهم لتأكيد قداستها المستمدة من كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

إن تحقيق أهداف تلك الأوقاف، وإن مكانة فلسطين والقدس والمسجد الأقصى المبارك وحمايتهما يقتضينا صياغة مشروع فلسطيني عربي إسلامي للدفاع عنها ، ولتمكين أبناء الشعب الفلسطيني بالعودة إلى أرضه وإعمارها وإحيائها بالبناء والسكنى فيها، وباستصلاحها واستثمارها وتنميتها وإنعاش اقتصادها، والضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه التفريط بذرة من ترابها، وعدم الاكتفاء بالشعارات الرنانة الفارغة من كل معنى ما دامت أقوالاً غير مدعومة بالأفعال ، هكذا فقط يمكننا أن نلفت نظر الأمة والعالم أجمع إلى ما تتعرض له الأرض المقدسة من سلب واغتصاب ومصادرة وتهويد وتغيير للمعالم وانتهاك لمقدساتها وطمس لهويتها وحضارتها ، فكل ذك لن يغير من حقيقة كونها أرضاً إسلامية بقرار رباني من فوق سبع سماوات كما قررت آية الإسراء.

وهذا ممكن جداً وليس من المستحيل ، فقد رأينا في مناسبات كثيرة كيف تحدى أهلنا الفلسطينيون من أهل الأرض المحتلة عام 1948 سلطات الاحتلال الإسرائيلية بعد سنوات طويلة وعقود عديدة من محاولات التطبيع وغسيل الأدمغة ومحو التاريخ والهوية والإقناع بالتعايش مع النظام العنصري ، فأكدت هذه الأجيال للاحتلال أن الكبار وإن ماتوا فإن الصغار لم ينسوا قضيتهم العادلة وأنهم لن ينسوها أبداً مهما طال بهم الزمن ، فقد توارثوا مآسيها وأحداثها وتفاصيلها من الآباء والأجداد ، ولم يفقدوا انتماءهم لأرضهم وحبهم لوطنهم على الرغم من كل المغريات ، فهم مؤمنون بأن حقوقهم الوطنية والتاريخية لا تسقط بالتقادم ، وموقنون بأن ثوابتهم الدينية والوطنية ستبقى هدفاً لكل أبنائهم , فالاحتلال بإذن الله تعالى إلى زوال ككل الاحتلالات التي سبقته عبر التاريخ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي، عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وقاضي قضاة فلسطين، ورئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً، وأمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس.





التالي
الشذوذ الجنسي.. تلوث يستهدف المجتمعات عامة والمسلمين خاصة
السابق
ثالث أيام العدوان الإسرائيلي على غزة: صواريخ المقاومة تصل إلى مستوطنات القدس

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع