البحث

التفاصيل

من أحكام صيام يوم عاشوراء

من أحكام صيام يوم عاشوراء

بقلم: الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي – عضو الاتحاد

 

هلَّ علينا هلال شهر الله المحرم من جديد ، ولسان المؤمنين الذين شهدوه يلهج بالدعاء إلى الله { اللهم أهله علينا باليمن والإيمان والسلامة والإسلام ، ربي وربك الله } رواه الترمذي ، شهر أظلتنا أيامه ولياليه ، وأشرقت علينا شمس يوم جديد في مستهله لبداية عام هجري جديد ، نسأل الله سبحانه وتعالى فيه غيثاً مباركاً وغوثاً دائماً ورزقاً واسعاً مباركاً فيه ، ونرجو الله فيه وفيما بعده نهضة الأمة لمسؤوليات دينها ورسالتها بين الأمم لتستحق منه النصر والتمكين.

شهر عظيم وواحد من الأشهر الحرم التي اصطفاها الله عز وجل فعظَّمها وقال فيها { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } التوبة 36 ، وقال صلى الله عليه وسلم: {السنة اثنا عشر شهراً منها أَربعة حرم ثَلاثَةٌ متواليات ذُو القَعدة وذُو الحجة والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان } رواه البخاري ، وهكذا يبدأ العام الهجري بشهر حرام وينتهي بشهر حرام.

قال قتادة رحمه الله وهو أحد كبار التابعين مفسراً [ ومعنى " فلا تظلمـوا فيهن أنفسكم " أن الله سبحانه جعل العمل الصالح في الأشهر الحرم أعظم أجراً والظّلم فيها أعظم خطيئة ووزراً من الظلم فيما سواها وإن كان الظلم على كل حال محرماً وعظيماً ، فقد اصطفى سبحانه من الملائكة رسلاً ومن الناس ، واصطفى من الكلام ذكره ، واصطفى من الأرض المساجد ، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم ، واصطفى من الأيام يوم الجمعة ، واصطفى من الليالي ليلة القدر فعظموا ما عظم الله ، فإنما تعظم الأمور بما عظمها الله عند أهل الفهم وأهل العقل].

واختص الله عز وجل هذا الشهر باستحباب الصيام فيه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وأفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شهر الله المحرم} رواه مسلم ، سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم المحرم بشهر الله ، وإضافته إلى الله سبحانه وتعالى تدل على شرفه وفضله ، فالله جل وعلا لا يضيف إليه إلا خواصَّ مخلوقاته ، ولأن الصيام وحده هو العبادة المضافة إلى الله تعالى فناسب أن يختص هذا الشهر المضاف إلى الله بالعمل المضاف إليه المختص به وهو الصيام ، لذا كان شهر الله المحرم موسماً من مواسم المسارعة في الخيرات والزيادة في الطاعات والقُرُبات وأظهرها عبادة الصيام ، قال صلى الله عليه وسلم: {أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم} رواه مسلم ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {ما رأيت النّبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء وهذا الشهر يعني شهر رمضان} رواه البخاري ، ومعنى: " يتحرى" أي يقصد صومه لتحصيل ثوابه والرغبة فيه ، فكلّما كثر الصّيام في محرّم كان أفضل وأطيب.

وفي شهر الله المحرم هذا يوم عاشوراء وهو اليوم العاشر منه ، ولهذا اليوم فضل عظيم قديم ، ففيه نجى الله سيدنا موسى ونصره ومن معه من فرعون ، قال سبحانه وتعالى { وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ * وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } البقرة 49-50 ، لذا فهو يوم يستحب فيه التقرب إلى الله تعالى بالصيام ، فقد { قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء فقال ما هذا ؟ قالوا هذا يوم صالح ، هذَا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى ، قَال فَأنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه } رواه البخاري . وفي رواية أخرى: {كان أهل خيبر (اليهود) يتخذونه عيداً ويُلْبِسُون نساءهم فيه حليهم وشارتهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم فصوموه أنتم} رواه البخاري، ولعل هذه هي الحكمة من استحباب صيام عاشوراء، وروى أحمد رحمه الله في الموطأ أنه: {اليوم الذي استوت فيه السفينة على الجودي فصامه نوح شكراً}.

وقبل الإسلام كانت قريش تصوم يوم عاشوراء في الجاهلية ، وصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم في مكة ، وصامه هو والمسلمون قبل أن يُفرض عليهم صيام شهر رمضان المبارك , فلما فرض رمضان قال الرسول صلى الله عليه وسلم { إن عاشوراء يوم من أيام الله فمن شاء صامه ومن شاء تركه } أخرجه مسلم.

إذن في هذا إشارة إلى أن صوم يوم عاشوراء ربما كان فرضاً في بداية الإسلام ثم نسخ وجوبُه بِفرضية صوم شهر رمضان , وبقي الأمر فيه على الندب والاستحباب ، بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم { هذا يوم عاشوراء , ولم يكتب الله عليكم صيامه وأنا صائم فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر } رواه البخاري.

ويجوز إفراد يوم عاشوراء بالصيم ، لكن الأكمل صيام عاشوراء وضم يوم تاسوعاء إليه وهو اليوم التاسع من شهر الله المحرم: {فالرسول صلى الله عليه وسلم حين صام يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى ، فقال صلى الله عليه وسلم فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع ، قال ابن عباس رضي الله عنه : فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم} رواه مسلم ، ويتضح من الحديث النبوي أن حكمة استحباب صيام تاسوعاء مع صيام عاشوراء هي مخالفة اليهود في اقتصارهم على صوم اليوم العاشر.

فمراتب صيام يوم عاشوراء إذن أربعة وهي:

الأولى: صيام اليوم التاسع واليوم العاشر ، وهذه أفضل المراتب لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم { لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع} رواه مسلم ، ومعنى قابل أي العام المقبل .

الثانية: صيام اليوم العاشر والحادي عشر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عاشوراء {خالفوا اليهود ، صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده} رواه أحمد .

الثالثة: صيام اليوم التاسع والعاشر والحادي عشر لحديث ابن عباس مرفوعاً: {خالفوا اليهود فصوموا قبله يوماً وبعده يوماً} رواه أحمد.

الرابعة: إفراد اليوم العاشر وحده بالصيام ، وهي على خلاف الأفضل.

وقد حرص الصحابة رضوان الله عليهم والسلف الصالح رحمهم الله تعالى ؛ حرصوا على صيام يوم عاشوراء ، فقد أرسل صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة: {من كان أصبح صائماً فليتم صومه ومن كان أصبح مفطراً فليتم بقية يومه ، فكنا بعد ذلك نصومه} رواه البخاري . وكان من السلف من يصومه حتى في السفر ابتغاء تحصيل فضيلته، معللين ذلك بأن رمضان له عدة من أيام أخر أما يوم عاشوراء فإنه يفوت.

وفي فضل صوم يوم عاشوراء ومضاعفة الأجر فيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان فهذا صيام الدهر كله صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله} رواه مسلم ، ومعنى تكفير سنة أي ذنوب سنة من الصغائر ، فإن لم يكن للصائم صغائر خفف من كبائر السنة ، وهذا التخفيف موكول إلى فضل الله تعالى ورحمته وغفرانه ، فإن لم يكن للصائم كبائر رفع الله له الدرجات . وهذا من فضل الله علينا أن جعل صيام يوم واحد مكفراً ذنوب سنة بأكملها.

ويرى بعض العلماء استحباب التوسعة على العيال والأهل في عاشوراء ، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم في ذلك { من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته } رواه البيهقي.

ولكنني أنوّه بأن علينا ألاَّ ننسى أن تكفير الذنوب يكون إذا اجتنبت الكبائر ، وأنه لا ينبغي الاكتفاء بهذه المكفرات والركون إليها والاستناد عليها مع ترك الفرائض ، فالفرائض آكد وأجل ُّ وأعظم أجراً من النوافل والمندوبات ، ويجب عليه في ذات الوقت إذا أتى الآثام أن يستغفر الله منها ، وعليه ألاَّ يترك محاسبة النفس ولومها حال التقصير ، فالنفس اللوامة وقاية للمؤمن من ارتكاب المعاصي ، وقد أقسم الله عز وجل بها فقال سبحانه { لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ } القيامة 1-2 ، ويجب عليه أيضاً إذا عمل الطاعات أن يحفظها فلا يضيّع ثوابها وإلا كان مفلساً إفلاساً دائماً لا غنى بعده لأنه سيدخله النار ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك { أتدرون ما المفلِسُ ؟ قالوا المفلِسُ فينا من لا درهمَ له ولا متاعَ ، فقال إنَّ المفلسَ من أمَّتي يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مالَ هذا وسفك دمَ هذا وضرب هذا ، فيُعطَى هذا من حسناتِه وهذا من حسناتِه ، فإن فَنِيَتْ حسناتُه قبل أن يقضيَ ما عليه أخذ من خطاياهم فطُرِحت عليه ثمَّ طُرِح في النَّارِ} رواه مسلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي: عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، قاضي قضاة فلسطين، رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً، أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس





التالي
#كلنا_الشيخ_بن_حميد.. الشيخ القره داغي يتضامن مع خطيب المسجد الحرام بعد حملة إسرائيلية ضده بسبب خطبة صلاة الجمعة
السابق
استشهاد الحسين بن علي (رضي الله عنه) ومعركة كربلاء: مواقف الصحابة والتابعين من خروج الحسين

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع