البحث

التفاصيل

الأمراض النفسية والدين والعلم.. تعارض أم تكامل؟!

الأمراض النفسية والدين والعلم.. تعارض أم تكامل؟!

بقلم: عصام تليمة – عضو الاتحاد

 

هناك ظاهرة لافتة للنظر، وبخاصة في بلادنا العربية، هناك فئة ممن يدعون الانتساب للعلمانية أو العلم التجريبي البحت، كلما جاء حديث للعلاقة بين الدين والطب، أو الدين والعلم، انبرى هؤلاء بالنفي والرفض، وكأن الدين خلق ليكون عدوا للعلم سواء كان تجريبيا أم نظريا، ومنذ أيام قلائل صرح أحد الأطباء بكلام خرج به نتيجة تأمل وملاحظة، وهو: أن المتدين تدينا صحيحا، غالبا ما يكون بعيدا عن الإصابة بالأمراض النفسية.

وهو كلام لا يمكن رفضه، لأن قائله بناه على استنتاج وملاحظة منه على حالات تعامل معها، ويمكن أن يأتي آخر فيقول لقد لاحظت شيئا آخر، كل هذا في عالم الطب والعلم والتعامل مع النفس البشرية وارد جدا، فالنفس البشرية بطبيعتها حيرت العلم على مدار التاريخ، فهي محيرة، فتجد في الشخص الواحد الخير والشر، العنف واللين، القسوة الشديدة والرحمة، ولا تدري سببا حقيقيا لماذا يرحم نفس الشخص إنسانا، وينتقم من آخر؟

وقد كانت النفس والروح موضع اهتمام جميع الفلاسفة والأطباء والأديان الصحيحة والمحرفة.

قسمة غير مقبولة:

هناك حالة تريد فرض نفسها، كلما طرح موضوع الدين والحياة ومجالاتها، فتجد من ينبري لك ويعلن عليك أن تختار إما الدين أو الطب، إما الدين أو التكنولوجيا، إما الدين أو كذا، وهو تحويل للانقسام الحاصل في المجتمعات العربية ليسري على الدين كذلك، فمن قال: إن الدين يأتي مصادما للطب، أو معارضا للعلم، هذه قضايا مفتعلة، منقولة من مجتمعات عاشت هذا الانقسام والصدام بين الدين والعلم، لم نعشها في ديننا، ولم نعشها في بلادنا، فلماذا نستورد من الآخرين مشاكلهم، بدل أن نستورد منهم تجاربهم النافعة، ونجلب منها ما يصلح لبلادنا وأوطاننا؟!

فالعلاقة بين الإسلام والعلم هي علاقة تكاملية، وليست علاقة تصادمية، وليست علاقة إلغاء أحدهما للآخر، وهو ما يتضح من موقف الإسلام وحديثه عن المرض، وكيف يتعامل الإنسان المسلم معه، وعلاقة الدين بالمرض من حيث تخفيف آلامه، ومنع أسبابه، فالدين حل للمشكلة وليست إيجادا لها، كما يتصور الجهلة بالإسلام خصوصا، والأديان عموما. ولو ألقينا نظرة على موقف الإسلام من الأمراض النفسية، والأمراض بشكل عام لاكتشفنا كم الخداع الذي يمارس على العقول، وبخاصة الشباب في هذه المسألة.

حديث الإسلام عن الأمراض:

الإنسان مركب من عدة عناصر: الجسد، والروح، والعقل، والنفس، ولكل منهم غذاؤه، ولكل منهم أمراضه وأدويته، والمتأمل في القرآن الكريم، سيجده تحدث بشكل مسهب عن أن المرض نوعان: مرض عضوي، ومرض نفسي أو قلبي أو عقلي، ورتب على كل منهما أحكاما، وطلب الإسلام من صاحبه التداوي في جميع الحالات، جامعا بين الدواء العضوي، والروحي.

أما عن حديث القرآن والسنة عن المرض العضوي، فقد قال تعالى: (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) البقرة: 184، وقال تعالى: (ليس على الأعمى حرج، ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج) الفتح: 17. وأما حديثه عن المرض غير العضوي، فقال تعالى: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا) البقرة: 10، وقال: (فترى الذين في قلوبهم مرض) المائدة: 52، وقال صلى الله عليه وسلم عن التعامل مع الأمراض بوجه عام: “تداووا عباد الله، فإن الله ما أنزل من داء إلا وأنزل له دواء، علمه من علمه، وجهله من جهله”، ولما جاءه طبيبان سأل: أيهما أحذق؟ أي أيهما أكثر خبرة بالطب، فأشاروا إلى أحدهما، فقال له صلى الله عليه وسلم: أنت. أي: أنت من تقوم بالتداوي.

والمطلع على كلمة (نفس) في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، بكل جذورها اللغوية، سيجد تناولا عجيبا للنفس البشرية في حالة الصحة والمرض، وأفرد بعض العلماء المعاصرين ذلك بمؤلفات، من أشهرها كتاب: نفوس ودروس للشيخ محمد توفيق سبع في جزئين كبيرين، وكتب الدكتور المختص بعلم النفس محمد عثمان نجاتي، ومنها كتابه: القرآن وعلم النفس، وكتب آخرون ما بين المختصر والمسهب في هذا الجانب.

الإسلام والعلاج النفسي:

وقد كتب علماء كثر على مدار تاريخ الإسلام عن النفس البشرية، وموقف الإسلام من هديها وانحرافها، وكيف السبيل إلى ذلك، منذ عهد النبوة، فالشاب الذي ذهب للنبي صلى الله عليه وسلم وطلب منه أن يحلل له الزنا، فناقشه بسؤاله: هل يرضاه لأمه، ولأخته، ولبنته، ولزوجه، فقال: لا، فقد كانت هذه شهوة نفس عنده، ولم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول له: الزنا حرام، وكفى، ولكنه عمل على إزالة ما بعقله من شبهة، وما بنفسه من ميول وغرائز تنحو بها نحو الحرام.

وحينما جاءت امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم وكانت مصابة بالصرع، فطلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لها بالشفاء فتشفى، فخيرها، فقال: إما أن أدعو لك ويشفيك الله، أو تصبري ولك الجنة، فقالت: بل أصبر ولي الجنة، ولكني أتكشف حين أصرع (أي يكشف عنها ثيابها وتبدو عورتها آنذاك)، فادع الله لي ألا أتكشف، وقد كان، وماتت ساجدة. رغم خلاف الأطباء في الصرع، هل هو مرض نفسي أم عصبي، وإن كان الأرجح أنه عصبي.

وقف إسلامي للعلاج النفسي:

ومما يدل على متانة علاقة الإسلام بالطب الجسدي والنفسي والعقلي، ما برز من معالم حضارة الإسلام في الأوقاف، فقد كان هناك أوقاف متعلقة بالمرضى بوجه عام، وبالمرضى النفسيين بوجه خاص، فأهم ما يعين على الشفاء: الحالة النفسية للمريض، واشتهر وقف باسم: وقف خداع المريض، وهو أن يأتي شخصان يجلسان عند المريض، ويديران حوارا مصطنعا، عن حالته، فيقول أحدهما: ما حالته هل هي خطيرة؟ فيرد الآخر: لا، بل حالته يسيرة إن شاء الله، والأمل معقود بشفائه، فيسمع ذلك المريض فتتحسن حالته النفسية، وبناء على ذلك حالته البدنية. الشخصان اللذان يقومان بهذه المهمة أوقف المسلمون من أموالهم الوقفية مالا لأداء هذه الوظيفة التي هي في باب العلاج النفسي، فهي قربى إلى الله تعالى، وعلاج، كما أنشأت أوقاف في تاريخنا الإسلامي تعنى بالعلاج النفسي للمرضى النفسيين، مما يدل دلالة واضحة على هذا التكامل الوثيق بين الدين والطب والعلم.

الإلحاد أزمة نفسية:

وإذا كان هناك من ينكر أن الإيمان يقي الإنسان من الأزمات النفسية، فهناك دراسات معاصرة مهمة عن الإلحاد، بينت أن هناك قسما مهما من الإلحاد هو أزمة نفسية، وكتب في ذلك الدكتور عمرو شريف كتابه المهم: (الإلحاد مشكلة نفسية)، وراجع الكتاب وقدم له الدكتور أحمد عكاشة، وأيده فيما ذهب إليه من تحليلات ونماذج على ذلك، والكتاب معظمه عن إلحاد الأوربيين، وبعض العرب، ومعظمهم شخصيات معروفة ومشهور، عند البحث عن أسباب إلحادها كانت مشكلة نفسية، وبعضهم أصابه الاكتئاب وانتحر، وأشهرهم في مصر: إسماعيل أدهم صاحب أشهر كتاب عربي في الإلحاد، وهي رسالة صغيرة بعنوان: (لماذا أنا ملحد؟)، ومن يقرأها يجد بوضوح أثر التربية النفسية الخاطئة على تكوينه منذ صغره.

الإيمان كرافد وداعم للحياة السوية:

المطلع على أسباب الأمراض النفسية كما يذكرها أهل العلم والاختصاص، سيجدها تعتمد على عدة عوامل، مثل: البيولوجي، والسيكولوجي، والسوسيولوجي، فالبيولوجي وهو طبيعة البدن نفسه، وما فيه من صفات، تتعلق بالجينات والعوامل الوراثية. والسيكولوجي حيث طبيعة الإنسان النفسية، وخصائصه. أما السوسيولوجي فهو ما يتعلق بالمجتمع والبيئة، وأثر ذلك على الإنسان، فقد تكون أسباب المرض مجتمعة متعلقة بالأسباب الثلاثة، وقد يتوافر فيه عنصران اثنان، أو أقل أو اكثر يتسبب في المرض.

والدين له علاقة ماسة بالأسباب الثلاثة، سلبا أو إيجابا، فالإيمان القوي الذي يحيا به المؤمن، يمنحه بلا شك قدرة على تحمل الصعاب والمشاق، وثباتا عند المصائب، ورضا بأقدار الله تعالى، هذا من حيث الأسباب المتعلقة بالشخص ذاته.

 

فقد يتوافر سبب للمرض في حياة الإنسان يتعلق بجسده، ولكن إيمانه الصلب يجعله يرضا بالقدر، ويصبر على البلاء، لأن المؤمن ينتظر آخرة يرجو فيها رضا الله وعفوه، ويرى الدنيا مجرد قنطرة يعبر بها إليها، وهو ما تحدث عنه بإسهاب علماء نفس من غير المسلمين، وممن لا يشكك أحد في نزاهة بحوثهم.

أما من حيث الأسباب النفسية والمجتمعية، فالدين يصنع من حول الإنسان مجتمعا يهون عليه عوامل المرض، بل يصنع له مجتمعا صحيا، فالعامل البيئي المجتمعي ليس هينا في أثره على نفس الإنسان، فصلاة الجماعة التي شرعها الإسلام، ومطلوب فيها أن تسأل عمن يغيب عن المسجد، وعيادة المرضى، وتشييع الجنازة، وتهنئة المسلم لأخيه بزواجه أو ميلاد أبنائه، والمشاركة عامة في أفراح الإنسان وأحزانه وهو واجب اجتماعي إسلامي، كلها عوامل تصنع بيئة صحية حول الإنسان، مما يقلل عنده الأمراض النفسية، أو يجعله يتغلب عليها.

كل العبادات الاجتماعية في الإسلام، وكل الأوامر الاجتماعية التي وردت في القرآن الكريم والسنة، والتي كنا نرى تطبيقها بشكل كبير في الريف المصري نموذجا، والمجتمعات المحافظة دينيا، كانت تعصم الكثيرين من الأزمات النفسية، وهو ما لاحظه معظم المعنيين بهذه الناحية، ولذا كنا نرى من يتعب نفسيا ينصح بالذهاب لأماكن بعيدة عن ضجيج المدن، وعن عوادم السيارات، وعن مشكلات المدينة بتشابكاتها وضيقها، فكان الذهاب إلى المناطق البحرية، أو الريفية، نظرا لجوها، ونظرا لأجوائها وصفات أهلها.

وهذا لا يعني خلو المجتمعات المتدينة من أمراض، فهذا مستحيل ويتعارض مع سنة الله في الكون، لكنها عند وجودها هناك عوامل تحسن التعامل معها، وتكون جزءا مهما من العلاج، أو تعين صاحبها على التغلب على المحنة، وهو ما رأيناه في الغربيين الذين يسلمون، كان مدخلهم للإيمان والإسلام، هو الجانب الروحي في الإسلام، جانب التصوف وتزكية النفس، والجانب الاجتماعي في الإسلام، وهو مذكور في قصص كثيرين ممن أسلموا من عباقرة العلم السياسي والتجريبي ممن أسلموا.

الموضوع له تشعبات كثيرة ومهمة للنقاش، ولكن التحليق حول أطراف منها مهم، ولا يغني عن الإسهاب، وهو ما أسهب فيه الكثيرون في حديثهم عن أثر الإيمان في سكينة النفس، والطمأنينة، والأنس بالكون والناس والحياة، والرضا الإيجابي، وليس الرضا عن سلبية وضعف، وهو ما ينفي ما يزعمه الزاعمون حول غياب أثر الإيمان في الجانب النفسي، وما يتعلق به من أمراض.





السابق
دفاعا عن رسول الإسلام وأهل بيته.. مؤتمر "الهيئة العالمية لنصرة نبي الإسلام" يدعو لنصرة مسلمات الهند والإيغور والروهينغيا (صور)

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع