البحث

التفاصيل

أرحنا بها يا بلال

أرحنا بها يا بلال

بقلم: د. فاطمة عبدالله عزام

 

الصلاة أساس العبادات ورأس الطاعات، معراج المؤمنين وسلاح المتقين وقربة العارفين، أوجبها الله على عباده البالغين من العالمين، ويجب القيام بها على كل حال وفي كل الأحوال مهما كانت الظروف وأنى كان الأداء، فهي واجبة في الحرب والسلم، وفي حال الصحة والمرض، وفي السفر كما في الحضر، فهي عبادة مطلوبة على الدوام، وغير مشروطة بشرط إلا شرط الحياة، ووجوبها في كل حال يعكس أهميتها وحاجة النفس البشرية لها.

وتكمن أهميتها في الخصال التالية:

* أنها ميزة تميّزت بها أمّة الإسلام عن بقيّة الأمم: بأنّها الأمّة الوحيدة التي ارتبطت مع ربّها عزّ وجل بخمس صلواتٍ في اليوم واللّيلة، وهي عدد الصّلوات المفروضة على المسلم، ولا شكّ بأنّ هذه الصّلوات لها آثارها الحميدة في حياة المسلم إلى جانب الأجر والحسنات التي يتحصّل عليها من أداء تلك الصلوات على وجهها المشروع وفي أوقاتها المعيّنة.

* أنها مصدر الطّمأنينة والرّاحة النّفسيّة: فالصّلوات لها آثارٌ عجيبة في بثّ الرّاحة والطّمأنينة في النّفس الإنسانيّة، فالمسلم عندما يقف بين يديّ ربّه عزّ وجل يشعر برحمات الله تعالى ونفحاته تتنزّل عليه فتملأ قلبه سكينةً وطمأنينة لا يجدها الإنسان في أيّ فعل آخر، وقد عبّر النّبي عليه الصّلاة والسّلام عن هذا الأثر عندما أمر بلال بالتّأذين للصّلاة بقوله (أرحنا بها يا بلال)، فالرّاحة المقصودة هي راحة النّفس والبدن والأركان؛ حيث يشعر المصلّي وكأنّ روحه ردّت إليه من جديد، وهمّته وعزيمته شحذت مرّة أخرى للعمل والإقبال على الحياة.

* أن الصلاة عبادة تامة: جمعت بين عمل الجوارح وعمل الجوانح، واشتملت على الأعمال الظاهرة والباطنة؛ فيشترط فيها جملة من المسائل الظاهرة كالطهارة واللباس والقبلة الظاهرة، والباطنة كحضور القلب الذي يستوجب الشعور بوجوده تحت رقابته، وتسري آثارها على السر والعلن، فهي تؤثر في نورانية الوجه ونضارته كما تؤثر في صفاء القلب وجلائه.

* أن الشغل بالصلاة هو اشتغال لجميع ملكات الإنسان: الجسد من خلال حركات القيام والركوع والسجود، والنفس في استحضار مكنوناتها في السلب والإيجاب، يقف فيها العبد على قدمي الخوف والرجاء، ويكبّر تكبير المنصرف عن الدنيا ويقرأ قراءة المستأنس بذكر الله ويركع ركوع الخاضع لله، ويسجد سجود الماحي وجوده في ذلك الوجود الإلهي، يتشهد بالوحدانية لله وبالصلاة لنبيه والتسلّيم على عباده وأولياء الله الصالحين وبعد ذلك يسلّم على جميع الساكنين في الوجود سلاماً من الله إلى جميع عباده رسالة الإسلام التامة رحمة للعالمين، فتؤثر الصلاة تبعاً لذلك في القلب في حضوره وتوجهه وعدم انشغاله بسوى الله، والعقل في طرد الوساوس والخيالات والأوهام وفي حصر التوجه إلى الباري عز وجل والروح في تحررها وإطلاقها نحو بارئها في رحلة معراجية شيّقة، فقد كان الرسول الأكرم صلوات الله عليه يتلذذ بسماع الأذان الذي يعلن اقتراب موعدها وحلول زمانها.

* أن الصلاة وسيلة لتهذيب النفس البشرية: الصلاة عبادة لها تأثيرها على نفس الإنسان المؤمن، وللتأكيد على تأثيرها في صلاح الفرد والمجتمع فإن الله سبحانه فرضها على عباده وجعلها الركن الثاني من أركان الإسلام. وقد ميزها عز وجل عن بقية الأركان بوجوب أدائها على أي حال، ولا تسقط إلا بالأداء. فقد تسقط الزكاة لعدم توفر النصاب، وقد يسقط الصيام لعدم القدرة عليه، ويسقط الحج لعدم الاستطاعة والقدرة، أما الصلاة فلا تسقط إلا بالموت أو غياب العقل بالجنون ونحوه.

وميزها بأنها العبادة الوحيدة التي بتركها يكفر الإنسان على خلاف بين الفقهاء في الردة. قال صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلَاةِ” (أخرجه مسلم، 82).

أما صلتها بالنفس البشرية وتأثرها بها:

1- إن بناء النفس وقيامها يتم بالتربية والتزكية من خلال تخليصها من الشوائب والعيوب والآفات وذمائم الأخلاق، وبما أن الصلاة هي قرب من الله واتصال به عز وجل، فإنها بذلك تكون اتصالاً بمحل الخلق الأسمى والمثل الأعلى، وكلما أدّى المؤمن صلاته بشكل أمثل كلما كان أدنى في الاقتراب من محل النقاوة والطهارة وبالتالي كان تأثره الخُلُقي أكبر.

2- إن الصلاة التي يقيمها المؤمن هي صورة تختصر سلوكه مع الله، وهي تعكس مقامه ومستوى علاقته بالله تعالى، وهذه العلاقة ترتبط بشكل رئيسي بنفس الإنسان وبأخلاقه وبمزاياه، فكلما كانت أخلاقه حسنة كلما أدى صلاته بشكل أفضل من حيث الخشوع والتوجه، والعكس صحيح أيضاً حيث كلما صلّى بشكل أفضل بالتزام الشرائط الظاهرية والباطنية كلما انعكس ذلك على خلقه ونفسيته، من هنا كانت الآية القرآنية إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر.

3- إن الصلاة بمضامينها تحوي كلمات إلهية رقيقة تعبّر عن الرحمة الإلهية الشاملة لجميع العباد على اختلاف مراتبهم ومقاماتهم وسلوكياتهم، وهذه الكلمات تهذب النفس وتصقلها بهذه المعاني، فتفيض نفس المؤمن بالرحمة واللين والحلم وجملة فضائل أخلاقية تنعكس في أدائه وسلوكه مع الناس.

4- إن الصلاة هي شعار المؤمنين والصالحين، فعندما يؤدي الصلوات الخمس ثم يرتكب منكراً أو فاحشة يشعر بالتناقض في شخصيته ويحس بأنه يكذب على نفسه، لأجل ذلك يبادر بشكل تلقائي إلى التوبة خصوصاً في أوقات الصلاة التي تذكّره بربه وخالقه وتذكّره بآخرته وبأنه سوف يقف بين يدي الله عز وجل ويحاسبه كما هو الآن في الصلاة يقف بين يديه سبحانه، لذا تتحول الصلاة إلى وقفة محاسبة وتوبة في آن معاً، حتى يصل الإنسان المؤمن إلى حالة من الاستدامة على التأثر بأخلاق الصلاة فلا يرتكب أي منكر بين الصلاتين، إلى أن يصل إلى المقام الذي يعبّر عنه القرآن الكريم الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُون.

وهكذا فإن الصلاة عبادة جامعة، يقيمها الإنسان المؤمن بجوارحه وجوانحه؛ فتؤثر على نفسه من جهة التوبة ونبذ الرذائل والعزم على الفضيلة والصفاء والرحمة وسوى ذلك من تأثيرات تربوية راقية للصلاة في نفس الإنسان المؤمن.

كما أنها مصدر الراحة، وطمأنينة النفس، واستقامتها على الطريق القويم؛ مما ينعكس على الجوارح التي تسير وفق أمر الله تعالى.

وهذا هو السر الذي صدح به رسول الله صلى الله عليه وسلم معلناً للبشرية جمعاء “أرحنا بها يا بلال”، فكان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.

وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.





السابق
الأمانة العامة للاتحاد تعقد الاجتماع الــ (15) لمناقشة الملفات الداخلية للاتحاد وبعض قضايا الأمة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع