البحث

التفاصيل

الإحسان: أي مفهوم وأي ثمار؟

الإحسان: أي مفهوم وأي ثمار؟

بقلم: د. محمد بولوز – عضو الاتحاد

 

قال تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)) سورة الملك.

معنى الإحسان: تقول أحسن يحسن إحسانًا، ويتعدى بنفسه وبغيره تقول أحسنت كذا إذا اتقنته، وأحسنت إلى فلان إذا أوصلت إليه النفع. والإحسان: ضدُّ الإساءة ونقيض القبح.  ويراد بالإحسان: الإخلاص. ويراد به ايضا الإشارة إلى المراقبة وحُسن الطاعة. والحسنة: ضدُّ السيئة. وهو يُحسِن الشيء إحسانًا، أي: يَعلَمه ويُتقِنه. وحَسَّن الشيء تحسينًا زيَّنه. فالحُسْن نَعْت لما حَسُن، أي لما هو جميل، فاللفظ يحيل على الاتقان وتعدي النفع الى الغير ويحيل على جمال في النفس والفعل والعلاقات.

وفي الاصطلاح الشرعي: الإحسان هو أن يعبد المؤمن ربه في الدنيا على وجه المراقبة لله وحضور القلب كأنه يراه وينظر إليه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور: الاحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

فالإحسان هو مراقبة الله في السر والعلن، وفي القول والعمل، وهو فعل الخيرات على أكمل وجه، وابتغاء مرضاة الله تعالى.

فالإحسان ليس مجرد انتساب ولا انتماء، وليس رداء يلبس أو شعارا يقال، وإنما هو حقيقة لها قرار في القلب ولها آثار عميقة في الاعتقاد والسلوك والممارسة. إنه جودة وإتقان ومجاهدة ومعاناة للاستقامة على الطريقة وبلوغ مقامات عليا في التوحيد والطاعة والسنة، والإخلاص والمراقبة الربانية، والدعوة والرسالة والبذل والتضحية والأثر والإشعاع.

حكم الإحسان: حكمه الوجوب، ومن كل حسب طاقته ووسعه الصادق، سواء في الفرض أو المندوب، قال تعالى:"{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}وأصل الأمر الوجوب ولا يحيد عنه إلا بقرينة وبينة، والعدل في بعض وجوهه أن يأخذ الإنسان ما له ويعطي ما عليه، وأما الاحسان فهي زيادة في البر فوق العدل بأن يأخذ أقل مما له ويعطي أكثر مما عليه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم في بيان واضح عام وشامل: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، ولْيَحد أحدكم شفرته ولْيُرح ذبيحته".. هذا إخواني فيما نريد إنهاءه فكيف فيمن نريد بدايته وبناءه وحياته فلا شك أن الاحسان مطلوب فيه أكثر.

فالإحسان مطلوب من المسلم في كل ما يأتيه وما يذره، محسن في نيته وقصده، محسن في عمله وعبادته، محسن في تعامله مع ربه ومع نفسه ومع خلقه،

أنواع الاحسان ومجالاته:

الاحسان يشمل كل ما يباشره الانسان من أمر الدنيا والاخرة كما جاء في الحديث "ان الله كتب الاحسان في كل شيء" رواه الترمذي والنسائي وصححه الالباني، ويشمل ما تشمله الاية الكريمة في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: 162، 163].

الإحسان في عبادة الله: ومعناه بأن تعبد ربك مستحضرا لقربه منك واطلاعه عليك، وأنك بين يديه كأنك يراه، وذلك يوجب الخشية والخوف والهيبة والتعظيم، ويوجب أيضا إخلاص العبادة لله وتحسينها وإكمالها، ومن بلغ هذه المرتبة فقد بلغ أعلى مراتب الدين.

إحسان العمل من جهة الإخلاص والصواب: بأن يكون موافقا لما شرعه الله على لسان رسوله خاليا من البدع والمخالفات، قال تعالى: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة:112]، وقال تعالى: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) [لقمان:22]... وإسلام الوجه لله، وإلى الله، معناه: إخلاص العمل من الشرك.

والإحسان للعمل معناه: متابعة السنة فيه ومجانبة البدعة، وأي عمل لا يتوفر فيه هذان الشرطان يكون هباءً منثورا ووبالا على صاحبه.

الإحسان إلى النفس: المسلم يحسن إلى نفسه؛ فيبعدها عن الحرام، ولا يفعل إلا ما يرضي الله، وهو بذلك يطهِّر نفسه ويزكيها، ويريحها من الضلال والحيرة في الدنيا، ومن الشقاء والعذاب في الآخرة، قال تعالى: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم} [الإسراء: 7].

الإحسان إلى الخلق: بإحسان المعاملة وإغاثة الملهوف وإطعام الجائع والتصدق على المحتاج وإعانة العاجز، والتيسير على المعسر والإصلاح بين الناس، مع مراعاة سلم الأولويات، فأولى الناس بإحسانك والداك قال تعالى:(وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) [النساء:36].

ويستمر الإحسان حتى يشمل البهائم والحيوانات فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: "بينما رجل يمشي بطريق، اشتد عليه الحر، فوجد بئرا فنزل فيه فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان مني، فنزل البئر فملأ خفه ماءً، ثم أمسكه بفيه حتى رقي فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له"، قالوا: يا رسول الله، إن لنا في البهائم أجرا؟ فقال: "في كل كبد رطبة أجر"، رواه مالك، والبخاري، ومسلم.

ومن الإحسان إلى الخلق، الاحسان في فروض العين وفروض الكفاية وفروض الأمة، والإحسان في إقامة الدين والدعوة إليه، والإحسان في مهمة العمران والإصلاح، والإحسان في تطبيق أحكام الله وشرعه وحسن الدفاع عن حرماته..

فمن جمع بين الإحسان في العبادة والإحسان إلى الخلق استحق مراتب المحسنين، قال تعالى:(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ* كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ* وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ* وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) [الذاريات:15-19]. فبين الله سبحانه سبب حصولهم على هذه الكرامة العظيمة وأن ذلك بما أسلفوه من الإحسان في الدنيا من صلاة الليل والاستغفار بالأسحار والتصدق على المحتاجين، وقال تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ* وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ* كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ* إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ) [المرسلات:41-44].

وكما يشمل الإحسان النيات والأعمال يشمل الأقوال أيضا قال تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) [البقرة:83]، أي: قولوا لهم قولا حسنا، بأن تخاطبوهم بالكلام الطيب، الذي يجلب المودة، ويرغب في الخير، ويؤلف القلوب.. وهذا يشمل الصدق في الحديث، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير، وقد جاء في الحديث: "والكلمة الطيبة صدقة"،

كيف نكون من المحسنين؟

نكون كذلك، بالإخلاص والتوجه إلى الله بالدعاء لنكون من المحسنين، واستحضار مقاصد الإحسان وثماره، والعلم بما نريد القيام به ومعرفة حكم الشرع فيه، ثم مجاهدة النفس والشيطان لإتقانه والاحسان فيه والصبر على ذلك، والتنافس في الخير مع المحسنين والتعاون معهم عليه، والنظر إلى القدوات وعلى رأسهم سيرة الحبيب (ص)

جزاء الإحسان وأجر المحسنين: قال تعالى: (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان)، قال ابن عباس وغيره في معنى الآية: هل جزاء من قال: لا إله إلا الله، وعمل بما جاء به محمد إلا الجنة؟.. وقال تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [يونس:26].

وقد ثبت عن النبي في صحيح مسلم تفسير الزيادة المذكورة في هذه الآية الكريمة بأنها النظر إلى وجه الله الكريم في الجنة.

قال ابن رجب رحمه الله: وهذا مناسب لجعله جزاء لأهل الإحسان، لأن الإحسان هو أن يعبد المؤمن ربه في الدنيا على وجه المراقبة لله وحضور القلب كأنه يراه وينظر إليه، فكان جزاء ذلك النظر إلى وجه الله عيانا في الآخرة، وعكس هذا ما أخبر الله به عن الكفار في الآخرة بقوله: (كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) [المطففين:15]، فإن ذلك جزاء لحالهم في الدنيا لما تراكم من الذنوب على قلوبهم، فحجبهم عن معرفة الله ومراقبته في الدنيا، فكان جزاؤهم أن حجبوا عن رؤية الله في الآخرة.

ومع قمة ما يناله المحسنون من رؤية ربهم ينالون قبل ذلك رضوان الله وموفور الأجر ودخول الجنة وما يشاؤون من نعيم مقيم، قال تعالى:{وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ}30 .وقال سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا}31. وقال جل وعلا: {فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ}33... وقال سبحانه: {لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ}.34

المحسنون وهم بعد في الدنيا يستفيدون ما يلي:

1- دفع العداوات: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}.

2- وصول الخير: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ}.

3- العلم والحكمة: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}.

4- الهداية والتأييد والنصر: {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ}.

5- الانتفاع بالقرآن: {الم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ}.

6- المحبة الإلهية: {وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.

7- رحمة الله قريبة منهم: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ}.

فأول المستفيدين أخي من الإحسان هو أنت قبل غيرك، تجني ثماره عاجلاً في نفوسك وأخلاقك وضميرك؛ فتجد الانشراح والسكينة والطمأنينة.

جرب يا أخي أختي.. إذا طاف بك طائف من هم أو ألمّ بك غم فامنح غيرك معروفًا وأسدِ له جميلاً تجِد السرور والراحة، أعط محرومًا، انصر مظلومًا، أنقذ مكروبًا، أعن منكوبًا، عد مريضًا، أطعم جائعًا؛ تجد السعادة تغمرك من بين يديك ومن خلفك.

نسأل الله ألا يحرمنا الإحسان وأن يجعلنا في زمرة المحسنين. آمين والحمد لله رب العالمين.





التالي
على طريقة الاحتلال في فلسطين.. السلطات الهندية تهدم منازل المسلمين!

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع