البحث

التفاصيل

هل أنت من الذين يخشون الله، أم من الذين يخشون غيره؟

هل أنت من الذين يخشون الله، أم من الذين يخشون غيره؟

بقلم: الشيخ بن سالم باهشام - عضو الاتحاد

 

عباد الله، أبارك لكم جميعا هذا الشهر الفضيل، شهر رمضان الذي هو شهر الله، والذي ميزه الله  دون سائر الشهور بذكر اسمه في القرآن الكريم، للشرف الذي حظيه بإنزال كلامه سبحانه وتعالى فيه، وشمل ذلك كل الكتب السماوية، فقد روى البيهقي في السنن الكبرى، وابن جرير في تفسيره، وابن أبى حاتم في تفسيره، والطبراني، وأحمد، عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِي – صلى الله عليه وسلم- قَالَ: « نَزَلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الإِنْجِيلُ لِثَلاَثِ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الزَّبُورُ لِثَمَانِ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَالْقُرْآنُ لأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ »[1].

وكان القرآن الكريم خاتم الكتب السماوية وأعظمها، قال سبحانه في سورة البقرة: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) [البقرة: 185]، أي ابتدىء إنزال القرآن في رمضان.

وكان ذلك في ليلة القدر. وقيل: أنزل القرآن جملة إلى سماء الدنيا، ثم نزل إلى الأرض متفرقا. وهو هداية للناس إلى الحق، وهو آيات واضحات مكشوفات مما يفرق بين الحقّ والباطل، و“بينات مِّنَ الهدى والفرقان”، أي بينات من جملة ما هدى به الله، وفرق به بين الحق والباطل من وحيه وكتبه السماوية الهادية الفارقة بين الهدى والضلال.

وقد ذكر الله في كتابه أثر نزول القرآن على الجماد فقال سبحانه وتعالى في سورة الحشر:  (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الحشر: 21]، قال سبحانه: (لو أنزلنا هذا القرآن) العظيم الشأن، المنطوي على فنون القوارع، (على جبل) من الجبال، مع كون الجبل يتميز بالقسوة وعدم التأثير بما يصادمه، (لرأيته خاشعا)؛ خاضعا متصدعا متشققا  (من خشية الله)، أي : إن من شأن القرآن وعظمته، أنه لو جُعل في الجبل تمييزٌ، ونزل عليه، لخضع وتطأطأ وتشقق من خشية الله، وهذا تمثيل وتخييل لعلو شأن القرآن، وقوة تأثير ما فيه من المواعظ، كما ينطق به قوله تعالى: (وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون)، وهي إشارة إلى هذا المثل، وإلى أمثاله من الأمثال في مواضع القرآن الكريم.

والمراد: توبيخ الإنسان على قسوة قلبه، وقلة تخشعه وخشيته عند تلاوة القرآن، وتدبر قوارعه وزواجره، قال الله تعالى في سورة البقرة: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً، وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ، وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ، وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [البقرة: 74]، والخشية : مكان العلم بالله وبخطابه، فالقلوب القاسية لا تتفاعل مع كلام الله، ولا تخشى الله، لأنه مختوم عليها، بينما القلوب الحية، فإنها تتفاعل مع كلام الله، ويظهر ذلك التفاعل على ظاهر الإنسان، ويصور القرآن الكريم هذه الحقيقة فيقول سبحانه وتعالى في سورة الزمر: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ، تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [الزمر: 22، 23].

عباد الله، هذا هو القرآن الكريم كلام الله، وهذه هي صفاته، وهذا هو أثره في قلوب من شرح الله صدورهم للإسلام، فعندما اختار الإنسان الحق، شرح الله له صدره، فيكون من الذين يخشون الله، فالقلوب بيد الله عزَّ وجل يقلِّبها كما يشاء، إنك إذا اخترت الحق شرح الله صدرك للحق، وإن اختار الإنسان الباطل، فعندئذٍ يجد قلبه قاسياً كالصخر، فيخشى كل شيء إلا الله؛ فكل من اختار الباطل، واختار الشهوة، واختار الدنيا على الآخرة، واختار المادَّة، كان قلبه قاسياً كالصخر، وويلٌ لهذا القلب. عباد الله، إن علامة القلب الرحيم؛ الاتصال بالله، وعلامة القلب القاسي؛ الانقطاع عن الله، وهذا أكبر مؤشّر لاتصالك بالله وخشيتك من الله، أو لبعدك عنه سبحانه وتعالى وقساوة قلبك، فالموصول بالله يرحم نفسه أولا، ويرحم الخلق ثانيا، والمقطوع عن الله يقسو على نفسه، ويقسو على خلق الله.

عباد الله، إن المؤمن الحق المتصل بالله، لا يتصور أن بإمكانه أن يؤذي مخلوقاً، أو يكون سبباً في شقاء مخلوق، هو كلُّه خير، لأن رحمته دفعته إلى الخير، أما صاحب القلب القاسي؛ فإنه يقسو على نفسه وعلى غيره، فإذا رأيت إنساناً يقسو، ويظلم، ويأخذ ما ليس له، ويعتقد خطأ أن سعادته تبنى على أنقاض الآخرين، فيبني غناه على فقر الآخرين، ويبني حياته على موت الآخرين، ويبني أمنه على خوف الآخرين، فاعلم عِلم اليقين أنه مقطوعٌ عن الله عزَّ وجل، لأن انقطاعه عن الله سبَّب له قسوة قلبه، لذلك قال تعالى في سورة الزمر: ﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾، بخلاف الذي  شرح الله صدره لمعرفة الحق والثبات عليه، فهذه نعمةٌ كبيرة، والمقطوع عن الله، إذا ذكَّرته بآيات الله يَضْجَر، ولا يحب أن يسمعها، قال تعالى في حقه في سورة البقرة: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) [البقرة: 204 – 206]، هذا الصنف من الأشخاص، لا يحتمل أن يسمع كلام الله ولو ثانية واحدة، في حين أنه يرتاح لمجالس الفسق والمجون، ومجالس اللغو والفجور.

 

عباد الله، قال تعالى: ﴿ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾، هذه الآية مؤدَّاها أنك مخيَّر، فإذا اخترت طريق الحق، شرح الله صدرك له، فلا ترتاح إلا في المساجد، ولا ترتاح إلا في طاعة الله عزَّ وجل، ولا ترتاح إلا بالإنفاق في سبيل الله، ولا ترتاح إلا بغض البصر، ولا ترتاح إلا بالصدق والأمانة والاستقامة، ولا ترتاح إلا بنصيحة المُسلمين الموجهة إليك، فما دمت قد اخترت رضوان الله عزَّ وجل، فسيشرح الله لك صدرك، فتقبل الحق، وتثبُت عليه، وشرح الصدر معناه: قبول الحق والثبات عليه، لأنك اخترت الحق. فإذا اختار الإنسان الباطل، يضيق صدره من ذكر الله، ومن تلاوة القرآن، ومن الموت، ولا يحب أي شيء يذكِّره بالآخرة، وتجده منغمسا في الدنيا. إذاً؛ إذا شرح الله لك صدرك لمعرفة الحق وللثبات عليه، فهذه نعمةٌ ما بعدها نعمة، تؤكِّدها الآية الكريمة من سورة الحجرات: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَان﴾[ سورة الحجرات: 7]،

عباد الله، أما الآية التالية من سورة الزمر، فتتحدَّث عن القرآن الكريم؛ إذ يقول عزَّ وجل: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾، هذه الآية تتحدَّث عن القرآن الكريم، أنه أحسن الحديث، فهو الغنى الذي لا فقر بعده، ولا غنىً دونه، وهو الكتاب المحكم الذي لا ريب فيه، ولا يأتيه الباطل لا من بين يديه ولا من خلفه. روى الدارمي عن شَهْرٍ بن حوشبٍ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:(فَضْلُ كَلامِ اللَّهِ عَلَى كَلامِ خَلْقِهِ، كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ)، فالمسافة الكبيرة التي بين الخالق والمخلوق، هي نفسها بين كلامه سبحانه وكلام خَلْقِهِ، فهو أحسن الحديث.

عباد الله، إن أجمل حديث تتحدَّث فيه كتابُ الله، إذ من الممكن أن تتوجَّه من خلاله الوجهة الصحيحة، وأن تتعظ من خلاله. بهذا الحديث توجِّه وتفكِّر، ففيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، فيه آيات دالَّة على عظمة الله، وفيه أخبار الأمم السابقة، وفيه أحكام شرعيَّة، وفيه توجيهات تربويَّة، وفيه نظرات مستقبليَّة، وفيه وعد، وفيه وعيد، وفيه بشارة، وفيه نذير، وفيه كل شيء، قال تعالى في سورة الأنعام: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ)[الأنعام: 38]، فهو أحسن الحديث، ولا تنقضي عجائبه، كلَّما زدته فكراً، زادك معنىً. والصفات المُطلقة للقرآن، هي قاسمٌ مشتركٌ بين آياته كلِّها، بحيث أنك تجد الإنسان السليم أمضى أربعين سنة مع هذا الكتاب ولا يملَّه، يتلوه أناء الليل وأطراف النهار، وكلَّما قرأ آيةً، كشف الله له معنىً لم يكن يعرفه من قبل، والشيء العجيب فيه، أن القرآن غَني، والذي يقرؤه يشعر بالغنى، فيه مبادئ أساسيَّة من قِبَل خالق الكون، ومقياس دقيق تقيس به كل نظريَّة، وكل شيء وافق القرآن صحيح، وإن خالفه فهو باطل، إنه كلام الخالق جل وعلا، فهو:﴿ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً ﴾، كل آياته يشبه بعضها بعضاً في الخير، وفي الصِدق، وفي الصواب، وفي التسديد الصحيح، قال تعالى في سورة الإسراء:﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾[ سورة الإسراء:9 ]، فكل الآيات الكريمة في مستوى واحد من الدقَّة في التعبير، ومن الإعجاز، ومن الروعة، ومن البيان، ومن العُمق، ومن الصحَّة، ومن الصواب، والصفات المُطلقة للقرآن قاسمٌ مشتركٌ بين آياته كلِّها، هذه الصفات توضح معنى ” متشابهاً “، أي أن هذه الآية ولو كانت في العبادات فهي دقيقة جداً، تشبه الآيات الكونيَّة، وهذه الآية الكونيَّة، تشبه آيات التشريع، كلُّها دقيقة، وكلُّها صحيحة، وكلُّها نافعة، وكلُّها خيِّرة، وكلُّها مُباركة، هذا معنى “متشابهاً”، يشبه بعضها بعضاً في الخير.

عباد الله، أما معنى كلمة (مثاني)، فلها معنيان: المعنى الأول: أن فيه وصفٌ لأهل الجنَّة وأهل النار معا، ووصفٌ للدنيا والآخرة، وللخير والشر، ولما قبل الموت وما بعد الموت، هذا هو المعنى الأول للمثاني. أما المعنى الثاني: أن كل آيةٍ تنثني على أُختها فتوضِّحها، فالقرآن ليس متناقضاً، الآيات توضِّح بعضها بعضاً، فإذا قرأت القرآن كلَّه، واستوعبته استيعاباً جيداً، تجد أن كل آيةٍ تفسِّر أختها، وهذا أعلى أنواع التفسير، أن تفسِّر القرآن بالقرآن.

عباد الله، إن المؤمن الحق، صاحب القلب الحي، هو الذي يقرأ القرآن ويتفاعل مع آياته، قال تعالى:﴿ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ﴾، أي أن المؤمن إذا قرأ آيات العذاب بكى، أو تباكى، أو اقشعرَّ جلده، يتأثَّر من خشية الله، لأنه يصدق هذا الكتاب، وأشد ما يصيب قلب الإنسان التكذيب العَملي؛ أي أنه لا يبالي بالقرآن، ويتخذه وراءه ظِهريّاً، ويهجره، أو يقرؤه دون أن يعمل به؛ لكن المؤمن يتعامل مع القرآن بصدق، لأنه يخشى الله تعالى، ويتعامل معه بواقعيَّة، فإذا وصف الله عذاب أهل النار انخلع قلبه، واقشعرَّ جلده، وأصابته الخَشْيَة، وإذا قرأ أحوال أهل الجنَّة لان جلده..﴿ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾، فالمؤمن بين خشيةٍ لله، ورجاء، بين وعدٍ بالجنَّة ووعيدٍ بالنار، يقرأ القرآن ويتفاعل مع الآيات، قال تعالى: ﴿ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ ﴾.

عباد الله، إن القرآن الكريم هو كتابنا المقرَّر طوال حياتنا، قال تعالى في سورة الرعد:﴿ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾[ سورة الرعد: 28 ]، إنه غنىً لا فقر بعده، ومن آتاه الله القرآن فظنَّ أن أحداً أوتي خيراً مما أوتي، فقد حقَّر ما عظَّمه الله، قال تعالى: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً ﴾ في الخير:﴿ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾.

عباد الله، يبقى السؤال المصيري، هل أنت من الذين يخشون الله، أم من الذين يخشون غيره؟ إن الخشية من الله ليست ادعاء، وإنما هي حقيقة لا يدركها إلا أنت في حق نفسك. ولا يحق لأحد أن يصدر حكما في حقك، هل تخشى الله أم لا؟، لأن الله أرحم بعباده أن يجعل موازينهم في أيدي أمثالهم، فميزان كل امرئ في يد نفسه، فأنت تستطيع أن تغش الناس فتتظاهر بالخشية، ولكنك لا تستطيع أن تغش نفسك، فميزانك في يدك، تستطيع أن تدرك به مدى خشيتك لله، كيف ذلك؟، هذا كتاب الله بيدك، لا تقل لي: لقد ختمت القرآن كذا وكذا من الختمات، أو لقد حفظت كتاب الله كله، وزدت على ذلك حفظه بالروايات، هذه كلها أمور ظاهرة ليست هي المقصودة بذاتها، بل هناك من هم أكثر منك تلاوة وحفظا، ورغم ذلك حذرنا الحبيب المصطفى صلوات الله عليه وسلامه، من أن نكون مثلهم فقال فيما روى البخاري، ومسلم، عن أبي سعيد الخذري رضي الله عنه قال:  (… فإنَّ له أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مع صَلَاتِهِمْ، وصِيَامَهُ مع صِيَامِهِمْ، يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ...) [أخرجه البخاري (3610)، ومسلم (1064)]، لهذا لا تقل لي أين بلغت في القرآن حفظا وتلاوة، بل قل لي أين بلغ القرآن فيك.

عباد الله، إن أمر الخشية من الله، ليست كلاما يقال، وادعاء يتظاهر به الشخص، وإنما هي الخوف، وقد تستعمل مجازاً بمعنى العلم [مقاييس اللغة، ولسان العرب، مادة «خشي».]. وذكر الراغب رحمه الله في «المفردات» أن «الخشية خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يُخشى منه، ولذلك خُصّ العلماء بها» [المفردات، حرف الخاء].أما المعنى السياقي للخشية، في القرآن؛ حتى نكون على بينة من أمرنا، فإن الذكرى هي من علامة الخشية، فإذا ذُكرت فتذكرت، فتلك علامة خشيتك من الله، لارتباط الخشية في كثير من السياقات القرآنية بالتذكر والاعتبار والانتفاع بالنذارة، باعتبارها أظهر مميزات الإنسان الذي يخشى الله تعالى، والفضل في هذا راجع إلى سلامة القلب المتصف بوصف الإنابة، فهو دائم الرجوع إلى مولاه عز وجل كلما أحس ابتعاداً، بخلاف قلوب الذين يخشون غير الله، أصحاب القلوب المريضة، يقول الله سبحانه في سورة الأعلى: (فَذَكِّرْ إن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى) [الأعلى: 9، 10]، ثم إن الإنسان لا يتخلق بالخشية وينتفع بخصائصها ما لم يكن عالماً، فبالعلم يتبين الحق من الباطل، فيعرف ربه، والله تعالى عالم ولا يعبد إلا بعلم، والثمرة المرتجاة من العلم الحق، هي خشية الحق جل وعز. يقول الله سبحانه في سورة فاطر: (إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) [فاطر: 28].

كما أن الخشية تكون نتيجة قوة الإيمان، لأنها خشية لله بالغيب، ولا إيمان إن لم يكن أولاً بالغيب، ولأنها زيادة في الإيمان، أما خشية غير الله، فهي إلى الشرك أقرب، إن لم تكن هي نفسها شركاً، يقول الله سبحانه في سورة يس: (إنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) [يس: 11]، ويقول سبحانه في سورة آل عمران: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران: 173]، ويقول سبحانه في سورة التوبة: (أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [التوبة: 13].

عباد الله، إن التقوى تجلية للخشية: وهي خشية وزيادة، وبيان هذا الأمر أن التقوى طاعة الله، ومعناها الحرفي؛ وضع وقاية بين العبد وغضب ربه بطاعته، وهي بهذا الاعتبار، التجلية المثلى لخشية الله، فهي تعمل على تجلية الخشية التي هي عمل قلبي، من خلال ضمها إلى أعمال أخرى ظاهرة، كالإنفاق في سبيل الله، والمسارعة في الخيرات، وإعمار المساجد، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وغيرها… وجعل هذه المجموعة كاملة مضموماً بعضها إلى بعض، من صفات المتقين، يقول الله سبحانه في سورة المؤمنون: (إنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْـخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون: 57 – 61].

عباد الله، إن الخشية ملازمة للاهتداء كذلك، فعندما يهتدي الإنسان إلى مولاه تعالى، فإنه لا يملك إلا أن يخشاه، فإن لم يخشه ففي اهتدائه ريب، يقول الله سبحانه في سورة النازعات: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْـمُقَدَّسِ طُوًى * اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَل لَّكَ إلَى أَن تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى) [النازعات: 15 – 19].

عباد الله، هذه بعض المؤشرات التي تعرف بها نفسك، هل أنت ممن يخشون الله أم لا؟. فتحاسب نفسك قبل أن يحاسبك خالقك، واستعد بذلك ليوم العرض الأكبر على الله.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]– [أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، وفي ذيله الجوهر النقي (9/ 18)(ح 19121) ابن جرير في تفسيره 3/ 189، وابن أبى حاتم في تفسيره (519، 1649، 14080)، والطبراني 22/ 75 (185) من طريق عبد الله بن رجاء به. وأحمد (16984) من طريق عمران أبي العوام به].





التالي
“لا تصفها الكاميرات”.. مرابطة مقدسية تصف للجزيرة مباشر لحظات اقتحام قوات الاحتلال للأقصى

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع