البحث

التفاصيل

مكابح التجديد

مكابح التجديد:

الشيخ . خوالدية عاطف

 

إن التجديد في المقاصد ينبغي أن يخضع للضوابط الشرعية والمكابح العقلية، وليس لمطلق المصلحة أو لأحكام العقل القاصر، لأن من شأن ذلك أن يفتح الباب لانزلاقات قد تكون هادمة لروح الشريعة.

إن الصلاح والفساد في الأفعال إنما يعتبر كل منهما أثراً وثمرة لأحكام شرع على الأشياء من تحريم وإباحة وإيجاب، وإلا لبطل أن تكون المصالح فرعاً للدين. 

ولا يمكن إنكار أن هناك مصالح كثيرة ومفاسد تتأثر باختلاف الأحوال وتغيير الظروف، فتتغير أوضاعها وسلّم أولوياتها، ويتغير نفعها أو ضررها، ممّا يستدعي نظراً جديداً، وتقديراً مناسباً، ووسائل مناسبة، وكل هذا يؤثر على الأحكام تأثيراً ما، فينبغي أن ينظر فيه ويقدر بقدره، بلا إفراط ولا تفريط، وبهذا يغلق باب توهم عجز النصوص أو اختلافها، أو معارضتها للمصالح. 

إن التجديد في المصالح هو باب رفع الحرج والمشقة عن كاهل الأمة، وتيسير الأسباب للنهوض بالمجتمعات الإسلامية وتحقيق التقدم والرقي والازدهار لها، فمن خلال هذا التجديد المقيد بالأحكام الشرعية الكلية - والذي يأتي تفصيله في ورقات لاحقة – يمهد أمامنا السبل لإيجاد حلول مرضية ومعالجات رشيدة للمشاكل الكثيرة التي تعيشها المجتمعات الإسلامية وتضعف كيانها وتهدد مستقبلها.

إن التجديد في المقاصد الشرعية ليس المقصود منه (تطوير) هذه المقاصد، فثم فرق كبير بين المفهومين (التجديد والتطوير)، وإنما المراد بالمفهوم الأول الذي نتبناه في هذا البحث هو (إحياء) المقاصد الشرعية وتوسيع مجالاتها وإقحامها في مجالات متعددة وتفعيلها في حياة الفرد والمجتمع، لتحقيق الخير والصلاح والفلاح للناس في الحال والمآل.

فما الفائدة أن تبقى مقاصد الشريعة جامدة لا تؤثر ولا تحرك ولا تغير المجتمع المسلم، وتصحح له الأفكار وتقوم له الإعوجاج وتضيء له الطريق خاصة عندما تلتبس عليه الأحكام الشرعية، فيصبح في حيرة من أمره فلا يعرف مقصد الشارع في هذا الحكم ولا قصد رسوله صلى الله عليه وسلم في حكم آخر، فتأتي المقاصد فاصلة ومجيبة عن العلل والأحكام والغايات التي وضعها الشارع أمارات ودلالات لشرعه، فيزيد المسلم تمسكاً بدينه وعقيدته وحبًّا لربه ونبيه ومطبقاً لمنهجه وشريعته، أما إن غيّبت مقاصد الشريعة عن الواقع وعن الشهود الحضاري فتظل الأمة متخلفة عن وجودها وعن رسالتها، فتجد المكلف في شك من دينه وقلقا عن عقيدته ولا يجد الأجوبة الكافية الشافية لما يبحث عنه، فيزيده ذلك جفاءاً وبعداً وبغضاً لدينه ولنبيه ومتمرداً عن منهج الله ورسوله وتاركاً لتعاليم الإسلام.

إننا نعتمد في دعوتنا إلى التجديد في مقاصد الشريعة الإسلامية، المنهج الوسطي الذي يجمع بين التمسك بالثوابت – والعض عليها بالنواجذ – وبين الانفتاح على العصر وفهم متغيراته ومتقلباته والسعي نحو إيجاد حلول ناجحة ومعالجات حكيمة للقضايا والمعضلات والمشاكل التي تعاني منها الأمة الإسلامية.

المقاصد منهجاً وسطاً في الاستدلال:

فالمقاصد تقدم منهجاً وسطاً يدور مع متغيرات الواقع في بعدي الزمان والمكان، كتب الإمام الشاطبي يقول: "الحمل على التوسط هو الموافق لمقصد الشارع وهو الذي كان عليه السلف الصالح، فلينظر المقلد أي مذهب كان أجرى على هذا الطريق، فهو أحق بالاتباع وأولى بالاعتبار، وإن كانت المذاهب كلها طرقا إلى الله ولكن الترجيح فيها لابد منه، لأنه أبعد من اتباع الهوى وأقرب إلى تحري قصد الشارع في مسائل الاجتهاد، فقد قالوا في مذهب داوود الظاهر لما وقف مع الظاهر مطلقا: أنه بدعة حدثت بين المائتين، وقالوا في مذهب أصحاب الرأي: لا يكاد المغرق في القياس إلا يفارق السنة، فإن كان ثم رأي بين هذين هو الأولى بالاتباع". 

وبلغة العصر فإن المنهج المقاصدي هو المنهج الوسطي بين الاقتصار على حرفية الألفاظ وبين أصحاب التأرخ، إذ تقف المناهج المعاصرة موقفين متناقضين من قضية الدلالة بين الاقتصار على دلالات ألفاظ النصوص وبين إهمال النصوص كلية من باب التأرخ. 

أما التأرخ فهو مفهوم ظهر في اتجاهات (ما بعد الحداثة) الفلسفية يفصل بين الدال والمدلول عن طريق ربط النصوص أيا كانت كليا وجزئيا بسياقها التاريخي، وبما يطرأ على هذا السياق من تطور تاريخي، وقد طبقوا هذا المفهوم لتحقيق ما أسموه بـــ "تفكيك النص" مقدساً كان أو غير مقدس، أي عن طريق تحليل الإطار الثقافي والتاريخي للألفاظ.

فإن الخطأ الذي وقع فيه "المتأرخون" هو قياس النصوص والمؤلفات البشرية على النص الإلهي الذي يختلف في مصدره ومقاصده عن مصادر ومقاصد البشر، وبالتالي فمفهوم "تأرخ القرآن" لا يتفق مع الإيمان بقداسة كلام الله ووحيه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم.

وهدف هذا الفكر الذي - يخرج النص من التقديس إلى التبخيس - نسف النصوص والتعالي عليها وتقديم المصلحة عليها، وبذلك تفقد الأمة لمصدرها وقوتها ووجودها بفقد قداسة الوحيين وسقوطها في شرك الانقياد الأعمى لغيرها من الأمم، وهذا السلوك حذر منه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المشهور: ... حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ...

وبهذا الفكر الدخيل يفقد الإسلام وجوده واستمراره وعالميته، فتكون الأمة بعد ذلك قد انسلخت من دينها وبدلت وحرفت وتركت عقيدتها لتبحث عن عقيدة أخرى، وهذا ما يبحث عنه أعداءنا.

فتأتي مقاصد الشريعة بنظرة تجديدية حاكمة لهذا التفسخ القيمي والإنساني مقيدة ما هو موافق للعقل والعدل والعلم والحرية، فالمقاصد يمكن أن تقدم منهجاً وسطاً بين مدرسة الظاهر والباطن والتأرخ ومنهجاً وسطاً في فهم دلالات النصوص لا الجمود على ألفاظها الظاهرة.

إن تأكيدنا على وجوب التجديد في مقاصد الشريعة، لا يعني بأي حال من الأحوال الغلو في تفسير أقوال العلماء الرواد في فقه المقاصد، وفي طليعتهم الإمام الشاطبي، فيقول الإمام الشاطبي – رحمه الله – في هذا الصدد: "إن الشريعة وضعت لمصلحة العباد في العاجل والآجل معاً، لا يستفاد منه ولا بأي وجه من الوجوه، إن ما يراه العقل مصلحة فهو مشروع، وأنه لا يجوز ترك حكم النص القطعي لمن حكم فيه مصلحة بذريعة المحافظة على المقصد، ولا أن ما تغلب فيه المصلحة المتوهمة على المفسدة الظاهرة، فهو مشروع" ، والذي يفهم من كلام الشاطبي هو أن وجوه الشريعة صالحة لرعاية البشر، فتحقق لهم إشباع حاجاتهم وطمأنينة في الدنيا، أي في العاجل، ويؤدي إلى ثوابهم ونجاتهم من العقاب في الآخرة -أي في الآجل- وذلك كله مصلحة للعباد.

وهذه المسألة في غاية الأهمية خصوصاً في هذا العصر الذي تتعالى فيه بعض الأصوات داعية إلى (تطوير)، أو إلى ما تسميه (قراءة جديدة للتراث الإسلامي) أو إلى (التوسع في تجديد المقاصد الشرعية) بلا قيود أو ضوابط.

والذي نطالب به في تجديد مقاصد الشريعة هو المنهج الوسطي الذي يجمع بين التمسك بالثوابت، وبين الانفتاح على العصر وفهم متغيراته.

- لا يمكن أن نعزل تعاملنا مع النصوص الشرعية من خلال فقه المقاصد - كما تراه المدرسة الوسطية - عن الضوابط المنهجية التي يجب مراعاتها عند التعامل مع النصوص الشرعية بعمومها، فهناك جملة من المبادئ والأسس المنهجية الكلية المستوحاة من الخصائص العامة، التي يختص بها النص الشرعي والتي يجب على المتعامل معه مراعتها والالتزام بها حفظاً له من سوء التأويل والخطأ في التنزيل، وهذه الضوابط يمكن حصرها كالآتي:

  1. التحقق من صحة نسبة النص إلى مصدره.
  2. التجرد والموضوعية عند التعامل مع النص.
  3. الوقوف على مناسبات النزول والورود.
  4. الإبقاء على مراتب النصوص كما وصلتنا.
  5. مراعاة تغير الواقع والزمان والعوائد واللسان.
  6. مراعاة فقه الموازنات.
  7. مراعات فقه المآلات.
  8. فقه الأولويات.

إن الفقهاء المتخصصين في مقاصد الشريعة - في حدود علمي - لم يقم أحد منهم بتجديد فقه المقاصد، نعم نادوا بإضافة بعض القيم الإنسانية إلى المقاصد الكبرى الضرورية المعروفة عند العلماء، كالعدل والحرية وإنسانية الإنسان وغيرها، وهذا التفصيل لا يعدوا أن يدخل تحت المقاصد الكبرى.

وسنبين في المباحث القادمة هذه الجزئية بالتفصيل ووجهات نظر العلماء واتجاهاتهم، ونعلق على بعض هذه الإضافة بمراجعة بسيطة نبيّن فيها أن هذه الإضافات ليست تجديد حقيقي للمقاصد بل هي توليد مقاصد جديدة ألحّت عليها مقتضيات العصر وتطورات الزمان.

 

يتبع

 

 

 

([1]) سعيد رمضان البوطي، ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، ص (65).

([2]) أحمد الريسوني، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، ص (288).

([3]) المقصود بالتأرخ: هو تاريخية النص، فهو لا يصلح لكل زمان ومكان في نظر أصحاب هذا المذهب.

([4]) الشاطبي، مصدر سابق، (ج4، ص 261).

([5]) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لتتّبعن سنن من كان قبلكم"، حديث رقم 6928، وابن ماجة في سننه ، باب افتراق الأمم، حديث رقم 4025، وابن شيبة في مصنفه، باب من كره الخروج في الفتنة وتعوذ عنها، حديث رقم 36710.

([6]) الشاطبي، مصدر سابق، (ج 2، ص7).

([7]) قطب مصطفى سانو، بحث "ضوابط منهجية التعامل مع النص الشرعي"، بتصرف، ص (11-12-28-33-39-45(.





التالي
الاتحاد ينعي العالم والمربى فضيلة الشيخ عبد القادر قويدر رحمه الله
السابق
الشيخ أحمد الخليلي: ما يجري في الهند عدوان على المسلمين!

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع