البحث

التفاصيل

الحلقة الثانية من "مقامات إيمانية": مقام الاستعاذة:

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على نبي الهدى والرحمة المهداة والنعمة المسداة، سيدنا محمد عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليمات، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحلقة الثانية من "مقامات إيمانية":

د. عبد الكامل أوزال 

مقام الاستعاذة: مقام الاحتماء بالله تعالى

(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)

ــ في الاحتماء بالله والالتجاء إليه:

بعد تجديد النية يأتي مقام الاستعاذة في معرض الأمر الرّبّاني بالبدء بها في أول كل قراءة، حيث قال تعالى: ﴿فإذا قرأتَ القرآن فاسْتَعِذْ بالله من الشيطان الرّجيم﴾ النحل:98، على اعتبار أن هذا الأمر ليس بـ »اللازم، وإنما هو إعلام وندب»  فتكون الاستعاذة ها هنا »عند ابتداء القراءة لئلا يلبس على القارئ قراءته، ويخلط عليه ويمنعه من التدبّر والتفكّر» ( وبالاستعاذة يتطهر العبد المؤمن ويتزكّى، ويرتقي في معراج الاحتماء بالله والالتجاء إليه من وساوس وهمزات الشياطين، في كل الأحوال والأفعال والأقوال، طاعات وعبادات ومعاملات. إن الاستعاذة عبادة قلبية يحقق بها العبد معنى التوحيد، بل هي من صميم توحيد الله في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته جل وعلا. وتعني في كلام العرب "الاستجارة والتحيّز إلى الشيء، على معنى الامتناع به من المكروه، يُقال: »عُذْت بفلان واستعذت به، أي لجأت إليه، وهو عياذي أي ملجئي ... ويُقال : عَوْذٌ بالله منك، أي أعوذ بالله منك، قال الراجز :

قالت وفيها حَيَدة وذُعرُ          عوذ بربي منكم وحُجرُ

والعوذة والمعاذة والتعويذ كله بمعنى» 

 

ــ في مصانعة شيطان الإنس والاستعاذة بالله تعالى من شيطان الجنّ:

يقول الله تعالى في محكم التنزيل: ﴿خذ العفو وامُرْ بالعُرْف وأعرض عن الجاهلين. وإمّا ينزَغنَّك مِنَ الشيطان نزْغ فاستعذْ بالله إنّه سميعٌ عليمٌ﴾ الأعراف: 199ـ200. ويقول تبارك وتعالى: ﴿ادفع بالتي هي أحسنُ السّيئة نحن أعلم بما يصفون وقل ربّ أعوذُ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك ربّ أن يحضرون﴾ المؤمنون: 97ـ99. ويقول عز من قائل: ﴿ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسنُ فإذا الذي بينك وبينهُ عداوةٌ كأنّه وليّ حميم. وما يُلقاها إلا الذين صبروا وما يلقّاها إلا ذو حظ عظيم. وإمّا ينزغنّك من الشيطان نزغٌ فاستعذْ بالله إنه هو السميع العليم﴾ فصلت: 33ـ35. تقرر هذه الآيات البيّنات أن الله تبارك وتعالى خلق الإنسان وابتلاه بعدُوَيْن اثنين: العدو الأول هو شيطان الإنس والعدو الثاني هو شيطان الجن إبليس اللعين المطرود من رحمة الله تعالى إلى يوم الدّين. وهي توضح وتبين كيفية التعامل مع كل صنف من هذين العدوين. يقول ابن كثير في تفسيره:

 » فهذه ثلاث آيات ليس لهن رابعة في معناها، وهو أن الله تعالى يأمر بمصانعة العدوَ الإنسي والإحسان إليه، ليردّه عنه طبعه الطيب الأصل إلى المودة والمصافاة، ويأمر بالاستعاذة به من العدو الشيطاني لا محالة، إذ لا يقبل مصانعة ولا إحسانا، ولا يبتغي غير هلاك ابن آدم لشدة العداوة بينه وبين أبيه آدم من قبل، كما قال تعالى : ﴿يا بني آدم لا يفتننّكمُ الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة» الأعراف : 26

إن مصانعة العدوّ الإنسي والإحسان إليه يمكن أن يردّه عن غيّه، فيؤثر ذلك الصنيع في نفسه اللوّامة، فتستيقظ من غفلتها وسباتها، بينما مصانعة العدوّ الشيطاني إبليس اللّعين لا تجدي شيئا. ولذلك أمر الحق سبحانه وتعالى بالاستعاذة به من شيطان الجنّ، لأنه عدوّ مبين للإنسان  يقول تعالى: ﴿إن الشيطان لكم عدوّ فاتخذوه عدوّا إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير﴾ فاطر: 6. ويقول تبارك وتعالى أيضا: ﴿وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال ءآسجدُ لمن خلقتَ طينا. قال أرآيتكَ هذا الذي كرّمتَ عليّ لئن أخرّتني إلى يوم القيامة لأحْتَنِكَنّ ذرّيّته إلا قليلا﴾ الإسراء: 61ـ62. إذن فعداوة إبليس اللعين لآدم عليه السلام وذرّيته عداوة أزلية وباقية إلى يوم الدّين، وهي عداوة تقوم على أساس الإغواء والإضلال والإبْعاد عن طريق الحق والصراط المستقيم. ويُستثنى من ذلك فئة المؤمنين الذين جاهدوا إبليس لعنه الله، وانتصروا عليه بفضل الله وعونه ومدده. يقول تعالى: ﴿إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتّبعك من الغاوين﴾ الحجر:42، »إخبار بتأييده تعالى عباده المؤمنين وحفظه إيّاهم وحراسته لهم من الشيطان الرّجيم ولهذا قال تعالى: ﴿وكفى بربك وكيلا﴾ أي حافظا ومؤيدا وناصرا» 

ــ في آثار الاستعاذة وحصنها:

تأتي الاستعاذة في السياق القرآني حصنا حصينا للمؤمن المسلم تمنعه وتحفظه بإذن الله من وساوس الشيطان ومكائده، وتقيه أن يقع فيها. وتعصمه أن يكون لقمة سائغة لإبليس وجنوده. ومن لطائفها، كما جاء في تفسير ابن كثير: »أنها طهارة للفم مما كان يتعاطاه من اللغو والرفث، وتطييب له وتهيّؤ لتلاوة كلام الله. وهي استعانة بالله واعتراف له بالقدرة، وللعبد بالضعف والعجز عن مقاومة هذا العدوّ المبين الباطني الذي لا يقدر على منعه ودفعه إلا الله الذي خلقه، ولا يقبل مصانعة ولا يُدَارَى بالإحسان، بخلاف العدو من نوع الإنسان ... ولما كان الشيطان يرى الإنسان من حيث لا يراه استعاذ منه بالذي يراه ولا يراه الشيطان» (. وهذا هو المعنى ذاته الذي بسطه الإمام ابن القيم في مصنفه النفيس "زاد المعاد"، حيث يقول : »ولما كان الشيطان على نوعين : نوع يُرى عيانًا، وهو شيطان الإنس، ونوع لا يُرى، وهو شيطان الجنّ، أمر سبحانه وتعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يكتفي من شر شيطان الإنس بالإعراض عنه، والعفو، والدفع بالتي هي أحسنُ، ومن شيطان الجنّ بالاستعاذة بالله منه، وجمع بين النوعين في سورة "الأعراف" (الآية 36 (قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس))، وسورة "المؤمنون" (الآيتان 98و99 (وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك ربّ أن يحضرون)، وسورة "فصلت" (الآية 24(وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس)). والاستعاذة في القراءة والذكر أبلغُ في دفع شياطين الجنّ، والعفوُ والأعراضُ والدفع بالإحسان أبلغ في دفع شرّ شياطين الإنس..» 

يقول الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: ﴿وإمّا ينزغنّك من الشيطان نزغٌ فاستعِذْ بالله إنه هو السميع العليم﴾ فصلت: 35. يبيّن الحق عز وجل في هذه الآية الكريمة لعباده المؤمنين سلاح الوقاية من العدو الشيطاني اللعين، وأداة دفع شره وكيده وغيّه. وقد جاء هذا البيان في سياق الأمر الإلهي، كما وضحنا سلفا. غير أن هذا الأمر لا يستجيب له إلا من وفّقه الله تعالى لذلك، وجعله يستقيم عليه في حياته كلها إلى أن يلتحق بالرفيق الأعلى. فالأمر بالاستعاذة ليس متعلقا بظرف زماني أو مكاني مخصوص، وليس خاصا بمناسبة من المناسبات، أو بحالة من الحالات التي يكون عليها العبد المؤمن، وهو يمخُر عُبَابَ العمر في هذه الحياة الدنيا الفانية. وإنما الأمر بالاستعاذة متعلق بكل أحوال وظروف الإنسان المؤمن من الولادة إلى الممات. فمن ينخرط في سلك الاستعاذة ويجعلها منهاجا في حياته إلى أن يلقى ربّه، يعصمه الله تعالى من همز ونفْخ ونفْث إبليس اللعين، حتى وهو على فراش الموت. ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوّذ من تخبُّط الشيطان عند الموت، ففي سسن أبي داود، في حديث عبيد الله بن عمر عن أبي اليَسر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: »اللهم إني أعوذ بك من الهرم، وأعوذ بك من الهدم، وأعوذ بك من التّردّي، ومن الغرق، وأعوذ بك من أن يخبّطني الشيطان عند الموت» . يقول الإمام الخطّابي في شرحه: »هو أن يستولي عليه الشيطان عند مفارقة الدنيا، فيضلّه ويحول بينه وبين التوبة، أو يعوقه عن إصلاح شأنه والخروج من مظلمة تكون قبله، أو يؤيسه من رحمة الله، أو يتكره الموت ويأسف على حياة الدنيا، فلا يرضى بما قضاه الله عليه من الفناء والنقلة إلى الدار الآخرة، فيختم له بالسوء، ويلقى الله وهو ساخط عليه» 

ــ في أنــــواع الاستعـــاذة:

وإذا كانت الاستعاذة بالله مقاما تعبّديا يرتقي العبد المؤمن في معراجه إلى الخالق عزّ وجل، احتماء به والتجاء وفرارا إليه، فإنها تكون على وجهين: فهي استعاذة باللسان واستعاذة بالجنان.

استعاذة باللسان:

أما الاستعاذة باللسان فتدخل في مجال الدعاء والذكر. وهذا باب واسع وعريض خاض فيه العلماء والفقهاء قديما وحديثا. يقول الإمام ابن بطّال رحمه الله: »جميع أبواب الاستعاذة تدل على أنه ينبغي سؤال الله والرغبة إليه في كل ما ينزل بالمرء من حاجاته، وأن يعيّن كل ما يدعو فيه، ففي ذلك إطالة الرغبة إلى الله تعالى والتضرّع إليه، وذلك طاعة لله ـ تعالى ـ وكان النبي ـ عليه السلام ـ يتعوذ بالله من كل ذلك ويعينه باسمه، وإن كان الله قد عصمه من كل شرّ، ليلزم نفسه خوف الله تعالى وإعظامه، وليسُنّ ذلك لأمته ويعلّمهم كيف الاستعاذة من كل شيء ..»( وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوّذ بالله تبارك وتعالى في تفاصيل حياته وجزئيات أحواله ودقائق أموره صلوات ربي وسلامه عليه وعلى كل أنبيائه ورسله عليهم السلام. ففي »كتاب الدعوات» من صحيح البخاري نجد مجموعة من الأبواب التي ضمّت الاستعاذات النبوية التي تدخل في صميم التربية الإيمانية للعبد المؤمن. وتعتبر بحق جسرا متينا لابد من البدء بعبوره واجتيازه، في مسيرة الحياة الدنيا الفانية، وقنطرة موصلة إلى أمان الله وحماه.

وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلّم بالله العلي العظيم في قراءة كتابه الكريم، استجابة للأمر الرّباني في قوله تعالى: ﴿فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم﴾ النحل: 98. وتعوّذ صلى الله عليه وسلم من جهد البلاء، ومن شرّ فتن المحيا والممات. وتعوّذ صلى الله عليه وسلم أيضا من غلبة الرجال ومن عذاب القبر وعذاب النار، ومن المأثم والمغرم. وتعوّذ ثالثة من الهمّ والحزَن ومن العجز والكسل، ومن الجبن والبخل.

ـ استعـــــاذة بالجَنــــــان:

أما الاستعاذة بالجَنَان فهي قلبية متصلة اتصالا وثيقا بالنّوع الأول، وتزيد عنه في خاصية الاعتقاد بأن الله جل وعلا هو الملجأ والمهْرب، يهرب العبد إليه، وهو المُجير سبحانه وتعالى الذي بيده ملكوت كل شيء، وأن لا قوة ولا حول ولا جاه ولا حياة إلا بالله العلي العظيم، وأن كل ما يقع في الكون صغيره وكبيره، جلّه ودقيقه، يقع بتدبير الله تعالى وحكمته ورحمته وعليائه سبحانه وتعالى.

ــ في مقاصد الاستعاذة:

إن مقام الاستعاذة كما يقول العارفون بالله تعالى هو »مقام الفرار إلى الله، وطلب الجوار منه جلّ علاه» . وهو مقام يُظهر فيه العبد أنه مفتقر إلى مولاه، راغب في حماه، خاضع لجلاله وسلطانه، متبرّئ من كل حول وقوة إلا بالله العلي العظيم. ومن استجار بالله عز وجل، أجاره جل وعلا وألبسه لباس السّكينة والطّمأنينة، وتيقّن في سرّه وعلانيّته، وفي سرّائه وضرّائه، وفي كل أحواله، أن الله تعالى معه في كل صغيرة أو كبيرة، وفي كل جزئية أو كلّية ... والنموذج الذي يمكن أن يقتدي به المسلم المؤمن في هذا الخصوص، هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ كان، صلوات ربي وسلامه عليه، كما رأينا سلفا، يستعيذ بالله في كل الأحوال والمواقف، حتى من الأمور التي عافاه الله وعصمه منها، إظهارا للعبودية وتحقيقا لتمام الاحتماء بالله عزّ وجل والالتجاء إليه. وكذلك تربية للأمة وتعليما لها، لتسلك نفس المسلك وتنهج نفس النّهج. فإذا حقّق العبد المؤمن مقاصد الاستعاذة وتحقّق بها في عباداته ومعاملاته، فإنه يسهل عليه التحقق بمقاصد سواها من مقامات العروج إلى الله، والسير في طريقه المستقيم، مثل الرضى والمحبّة، والخوف والرجاء، والاعتصام بالله والخشية والخشوع، والزهد والورع، والتوكل والإنابة، وكل المقامات التي تفتح الطريق إلى الله تعالى وتُرشد إلى المسالك المؤدّية إليها.

ــ في صيـــغ الاستعـــــاذة:

لئن كانت الاستعاذة بهذه السمات المذكورة والصفات الموصوفة، التجاء إلى الله واحتماء بكنفه سبحانه وتعالى، فإنّ أفضل صيغة وأشرفها جاءت في كتاب الله العظيم، في سورتين عظيمتين هما سورة الفلق وسورة الناس، يقول تعالى: ﴿قل أعوذ بربّ الفلق. من شرّ ما خلق. ومن شرّ غاسقٍ إذا وقبَ. ومن شرّ النّفّاثات في العُقَد. ومن شرّ حاسِدٍ إذا حَسَدَ﴾ الفلق:1ـ5.

ويقول عزوجل: ﴿قل أعوذ بربّ النّاس. ملِكِ النّاس. إلهِ النّاس. من شر الوسواس الخناس. الذي يوسوس في صدور الناس. مِنَ الجِنَّةِ والنّاسِ﴾ الناس: 1ـ6.

وفي سنن أبي داود »عن عقبة بن عامر قال : بينا أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الجحفة والأبواء إذ غشيتنا ريح وظلمة شديدة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوّذ ب"أعوذ بربّ الفلق" و"أعوذ بربّ الناس"، ويقول : "يا عقبة تعوّذْ بهما، فما تعوّذ متعوِّذٌ بمثلهما" قال : وسمِعته يؤمُّنا بهما في الصلاة»

وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة (عن عقبة بن عامر قال: ثم لقيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: يا عقبة بن عامر ألا أعلّمك سُوَرًا ما أنزلت في التوراة ولا في الزبور ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلهن، لا يأتين عليك ليلة إلا قرأتهن فيها : ﴿قل هو الله أحد﴾ و﴿قل أعوذ بربّ الفلق﴾ و﴿قل أعوذ بربّ الناس).

ولابن القيم رحمه الله كلام نفيس وتحليل عميق في الفصل الثالث المعنون بـ »الشرور المستعاذ منها في هاتين السورتين»|، من مصنفه »بدائع الفوائد»، في جزئه الثاني، حيث يقول : »فتضمنت هاتان السورتان الاستعاذة من هذه الشرور كلها بأوْجز لفظ وأجمعِه وأدلِّه على المراد، وأعمِّه استعاذة، بحيث لم يبق شرّ من الشرور إلا دخل تحت الشرّ المستعاذ منه فيهما». فيجب علينا أخي المؤمن أختي المؤمنة لزوم هذا الذكر في هاتين السورتين العظيمتين، خاصة في هذا الزمن الصعب الذي كثرت فيه الفتن، وأصبح المسلمون محاطين بها من كل الجهات، وفي كل الأحوال والأوقات. فما أحوج المسلم اليوم إلى الاعتصام بالله والاحتماء بحماه، بكثرة قراءة هاتين السورتين »قل أعوذ برب الفلق» و»قل أعوذ برب الناس»، لما فيهما من أمان وأمْنٍ وحِصْن حصين من كل الشرور التي يمكن أن تصيبَه أو تؤذيه. وهما »توجيه من الله لرسوله والمؤمنين إلى الالتجاء لكنف الله، والاحتماء بحماه، من كل أمر مَخُوف، ظاهر أو خفيّ، معلوم أو مجهول» ولا ينتفع بهذا التوجيه الرباني إلا الذين اتقوا، ووفّقهم الله تعالى لإبصار الآيات الكبيرة في الأنفس والكون كله، والحقائق الجليّة التي غفلت عنها العقول الضعيفة والقلوب المريضة، يقول تعالى: ﴿إنّ الذين اتّقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون﴾ الأعراف: 201.

يقول الإمام الطبري في تفسيره: »إن الذين اتقوا المعاصي إذا لحقهم شيء تفكّروا في قدرة الله عز وجل وفي إنعامه عليهم فتركوا المعصية» ويقول الإمام ابن كثير مفسّرا هذه الآية: »يُخبر تعالى عن المتّقين من عباده الذين أطاعوه فيما أمر، وتركوا ما عنه زَجر أنهم (إذا مسّهم) أي أصابهم... (طائف) (تذكّروا) أي عقاب الله، وجزيل ثوابه، ووعده ووعيده، فتابوا وأنابوا واستعاذوا بالله ورجعوا إليه من قريب (فإذا هم مبصرون) أي قد استقاموا وصَحَوْا مما كانوا فيه»(. وقد أورد الفخر الرازي مسألة في هذا الخصوص، تتعلق بإمكانية تعرض الرسول صلى الله عليه وسلم لنزغ الشيطان، وأن علاج هذه الحالة يكون بالاستعاذة بالله، بالإضافة إلى كون المتّقين مُعَرَّضين لما عُصِم منه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو المسُّ الذي يكون أبلغ من النّزْغ. ولا يزول هذا المسُّ إلا بالتّذكر وإبصار حقيقة الأمر بالانكشاف والتّجَلّي، يتخلّص العبد من وسوسة الشيطان الرّجيم

ما أحوجنا اليوم في زمن الفتن التي أحاطت بالناس من كل حدب وصوب، أن نعيد إحياء هذا المقام، ليكون لنا مُعينا وحِصْنا، يحصِّننا الله تعالى به من كل الشرور والآفات التي تتربص بالمسلمين. وما المصائب والمنكرات والأسقام التي تدفقت سيولها جارفة كل أخضر ويابس على الأمة، إلا بسبب إعراضنا عن هذا الذكر، وعدم تحققنا به وتخلُّقِنا بمقتضياته النظرية والعملية والسلوكية.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذين يتصفون بهذا المقام، ويتحققون به قولا وفعلا وحالا. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 


([1])جامع البيان عن تأويل آي القرآن، الطبري، 6/5050، أنظر أيضا: تفسير ابن كثير، 4/422.

([2])تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 4/422.

([3])الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، 1/73.

([4])تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 1/17.

([5])تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 3/358.

([6])تفسير القرآن العظيم، نفسه، 5/73.

([7])تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 1/19 ـ 20.

([8])زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن قيم الجوزية، 2/401.

([9])سنن أبي داود، أبو داود، باب في الاستعاذة، رقم الحديث (1552)، ص. 288.

([10])معالم السنن: شرح سنن أبي داود، الخطابي، الجزء الأول، باب الدعاء، ص. 296.

([11])شرح صحيح البخاري، ابن بطّال، الجزء العاشر، باب: التعوّذ من المأثم والمغرم، ص.ص. 117 ـ 118.

([12]) انظر الملحق في آخر الكتاب:

     انظر: صحيح البخاري، البخاري، ج. 4، كتاب الدعوات، أبواب التعوّذ، ص.ص. 1292 ـ 1294.

    ـ صحيح مسلم بشرح النووي، مسلم، ج. 9، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، ص.ص. 49 ـ 65.

    ـ سنن أبي داود، أبو داود، باب في المعوذتين .. باب في الاستعاذة...، ص. 287.

    ـ سنن الترمذي، الترمذي، كتاب الدعوات، باب في الاستعاذة، ص. 819.

    ـ سلسلة الأحاديث الصحيحة، محمد ناصر الدين الألباني، فضائل القرآن والأدعية والأذكار والرُّقى، ص.ص. 502 ـ 547.

([13])مجالس القرآن، فريد الأنصاري، ص. 119.

([14])سنن أبي داود، أبو داود، باب في المعوّذتين، الحديث رقم (1463)، ص. 275.

([15])سلسلة الأحاديث الصحيحة، الألباني، فضائل القرآن والأدعية والأذكار والرّقى، رقم الحديث (2998)، ص. 547.

([16])بدائع الفوائد، ابن قيم الجوزية، المجلد الأول، ص. 710.

([17])التيسير في أحاديث التفسير، محمد المكي الناصري، الجزء السادس، ص. 478.

([18])جامع البيان عن تأويل آي القرآن، الطبري، 4/212.

(4)  تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 3/385

  

([20])تفسير الفخر الرازي، الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم، مبدع.


: الأوسمة



التالي
رابعاً: من أخلاقه ﷺ:
السابق
أنصار عيسى عليه السلام وصفاتهم في القرآن الكريم

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع