أ . د أحمد الريسونى
مشيُ الأنبياء في الأسواق
لقد كان المشركون — من باب المشاكسة والمعاكسة والتهرب — يريدون أو يتصورون ألا يكون الأنبياء والمرسلون إلا ملائكة لا يأكلون الطعام، أو ملوكا لا يمشون في الأسواق. ولذلك قالوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَاكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الاسوَاقِ }، فجاءهم الجواب من مرسل الرسل سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَاكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الاسْوَاقِ{
والأسواق من أكثر البقاع تجسيدا لواقع المجتمعات وحقيقتها. فالمشي في الأسواق هو مشي في المجتمع وفي واقع المجتمع وفي هموم المجتمع.
ومشيُ الأنبياء في الأسواق — من جهة أخرى — هو تعبير بليغ، جامع لصفات الأنبياء ومنهجهم ومنهج أتباعهم من الدعاة والمصلحين:
– ففيه التواضع العملي،
– وفيه المخالطة والاندماج في الحياة،
– وفيه نبذ الانعزال والانغلاق والترفع،
– وفيه الدخول والمشي في المرافق والشؤون العامة للمجتمع،
– وفيه الاطلاع المباشر على الأحوال، بدون وسائط ولا تقارير،
– وفيه ممارسة أفضل أشكال الدعوة وأنجحها، وهي الدعوة في الميدان،
– وفيه حصول التعارف والتآلف والثقة، وفي الحديث: “… والأرواح جنود مجندة، مَا تعارف مِنْهَا ائتلف، وَمَا تناكر مِنْهَا اخْتلف”.
– وفيه فرصة لتحصيل كثير من الفضائل والحسنات المخصصة للعلاقات والآداب الاجتماعية؛ كتبادل السلام، والمصافحة، والصلة، والتبسم في وجه أخيك، والتناصح، والعفو، والسماحة…
– وفيه تحمّل مساوئ الأسواق، ومجاهدتُـها بالتي هي أحسن؛ فالأسواق عادة هي مرتع للصخب والضجيج والتزاحم والتخاصم والمشاحَّة والأنانية والغش والتدليس والكذب والغفلة عن الله…
وفي الحديث: عن عائشة، وقد سئلت عن أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: “لم يكن فاحشا ولا متفحشا ولا صخابا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح”.
وجاء في بعض الأحاديث: “أن خير البقاع المساجد، وأن شر البقاع الأسواق”.
ومع هذا كله، فإن سيد المرسلين، وسيد الخلق أجمعين، كان يمشي في الأسواق. وكذلك جميع إخوانه الأنبياء والمرسلون.