البحث

التفاصيل

عظمة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وقوَّته في التَّأثير بالقرآن على سامعيه

الرابط المختصر :

من كتاب السِّيرة النَّبويّة للدكتور علي محمّد محمّد الصّلابيّ

الحلقة الواحدة والثلاثون

عظمة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وقوَّته في التَّأثير بالقرآن على سامعيه

كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عظيمَ النَّجاح في دعوته، بليغاً في التأثير فيمن خاطبه، وبرزت قوَّته في التأثير بالكلمة المعبِّرة، والأخلاق الكريمة، يؤثِّر على من جالسه بهيئته، وسَمْتِه، ووقاره قبل أن يتكلَّم، وإذا تحدَّث أسَرَ سامعيه بمنطقه البليغ، وقدرته على اختراق الجدار الحديديِّ، الَّذي حاول زعماء مكَّة ضربه عليه.

 ومن أبرز الأمثلة التي تدل على ذلك، ما كان من موقفه مع ضماد الأزديِّ، وعمرو بن الطُّفيل الدَّوسيِّ، وأبي ذرٍّ، وعمرو بن عبسة رضي الله عنهم:

أولاً: إسلام ضِماد الأزديِّ رضي الله عنه:

وفَدَ ضِمادُ الأزديُّ إلى مكَّة، وتأثَّر بدعاوى المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتَّى استقرَّ في نفسه: أنَّه مصاب بالجنون - كما يتَّهمه بذلك زعماء مكَّة - وكان ضماد من أزد شنوءة، وكان يعالِجُ من الجنون، فلـمَّا سمع سفهاء مكَّة يقولون: إنَّ محمَّداً صلى الله عليه وسلم  مجنونٌ، فقال: لو أني رأيت هذا الرَّجل لعلَّ الله يشفيه على يديَّ.

قال: فلقيه، فقال: يا محمد! إنِّي أرقي من هذه الرِّيح، وإنَّ الله يشفي على يديَّ من شاء؛ فهل لك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم  : «إنَّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمَّداً عبده، ورسوله، أما بعدُ».

فقال: أعِدْ عليَّ كلماتِك هؤلاء ! فأعادهنَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم  ثلاث مرَّاتٍ. قال: فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السَّحرة، وقول الشُّعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بَلَغْنَ نَاعُوسَ الْبَحْرِ، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم  : هات يدك أبايعْك على الإسلام، قال: فبايعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم  : «وعلى قومك» قال: وعلى قومي.

وعندما قامت دولة الإسلام في المدينة، وكانت سرايا رسولِ الله تُبعث؛ مرُّوا على قوم ضماد، فقال صاحب السَّريَّة للجيش: هل أصبتم من هؤلاء شيئاً؟ فقال رجل من القوم: أصبت منهم مِطْهَرَةً، فقال: ردُّوها؛ فإنَّ هؤلاء قومُ ضمادٍ. [مسلم (868) وأحمد (1/302) والنسائي (6/89 - 90) وابن ماجه (1893)] .

- دروسٌ وفوائد:

  1. دعاية قريش، وتشويه شخص الرَّسول صلى الله عليه وسلم ، واتِّهامه بالجنون؛ حمل ضماداً على السَّير للرَّسول صلى الله عليه وسلم  من أجل رقيتـه، فكانت الحرب الإعلاميَّة المكيَّة ضدَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم  سبباً في إسلامه، وإسلام قومه.
  2. تتَّضح صفتا الصَّبر والحلم في شخص النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فقد عرض ضماد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، معالجته من مرض الجنون، وهذا موقفٌ يثير الغضب، ولكنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم  استقبل الأمر بحلمٍ، وهدوءٍ، ممَّا آثار إعجاب ضمادٍ واحترامه لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
  3. أهمِّية هذه المقدِّمة الَّتي يستفتح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم  بعض خطبه، فقد اشتملت على تعظيم الله وتمجيده، وصرف العبادة له سبحانه؛ ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم  كثيراً ما يجعلها بين يدي خطبه، ومواعظه.
  4. تأثَّر ضماد بفصاحة الرَّسول صلى الله عليه وسلم ، وقوَّة بيانه؛ لأنَّ حديث الرَّسول صلى الله عليه وسلم  انبعث من قلب مُلئ إيماناً، ويقيناً، وحكمةً، فأصبح حديثه يصل إلى القلوب، ويجذبها إلى الإيمان.
  5. في سرعة إسلام ضماد دليلٌ على أنَّ الإسلام دين الفطرة، وأنَّ النفوس إذا تجرَّدت من الضُّغوط الدَّاخليَّة والخارجيَّة؛ فإنَّها غالباً تتأثَّر وتستجيب، إمَّا بسماع قول مؤثِّرٍ، أو الإعجاب بسلوكٍ قويم.
  6. حرص الرَّسول على انتشار دعوته؛ حيث رأى في ضماد صدق إيمانه، وحماسته للإسلام، وقوَّة اقتناعه به، فدفعه ذلك إلى أخذ البيعة منه لقومه.
  7. وفي هذا بيانٌ واضح لأهمِّيَّة الدَّعوة إلى الله تعالى؛ حيث جعلها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم  قرينة الالتزام الشَّخصيِّ، فقد بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم  على الالتزام بالدِّين، فلم يكتف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم  بذلك؛ بل أخذ منه البيعة على دعوة قومه إلى الإسلام.
  8. حفظ المعروف والودّ لأهل السَّابقة، والفضل: «ردُّوها؛ فإنَّ هؤلاء من قوم ضماد».
  9. في الحديث بعض الوسائل التَّربويَّة التي استعملها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم  مع ضماد، كالتأنِّي في الحديث، وأسلوب الحوار، والتَّوجيه المباشر، وتظهر بعض الصِّفات في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم كمربٍّ؛ كالحلم، والصبر، والتَّشجيع على الإكثار من الخيرات.

ثانياً: إسلام عمرو بن عبسة رضي الله عنه:

قال عَمْرُو بن عَبَسَةَ السُّلَمِيُّ: كنتُ وأنا في الجاهلية أَظُنُّ أنَّ النَّاس على ضلالةٍ، وأنَّهم ليسوا على شيءٍ؛ وهم يعبدون الأوثان، فسمعتُ برجلٍ بمكَّةَ يُخْبِرُ أخباراً، فقعدت على راحلتي، فقدمت عليه، فإذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم  مستخفياً، جُرَاءُ عليه قومُه، فَتَلطَّفْتُ حتَّى دخلت عليه بمكَّة، فقلت له: ما أنت؟ قال: «أنا نبيٌّ» فقلت: وما نبيٌّ؟ قال: «أرسلني الله»، فقلت: وبأي شيءٍ أرسلك؟ قال: «أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يُوَحَّدَ اللهُ لا يُشْرَكُ به شيءٌ» فقلت له: فمن معك على هذا؟ قال: «حرٌّ، وعبدٌ» قال: ومعه يومئذ أبو بكر، وبلالٌ ممَّن امن به، فقلت: إني مُتَّبِعُكَ. قال: «إنك لا تستطيع ذلك يومَك هذا، ألا ترى حالي وحالَ النَّاس؟ ولكن ارجعْ إلى أهلك، فإذا سمعتَ بي قد ظَهَرْتُ فائتني».

قال: فذهبت إلى أهلي، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم  المدينة، وكنت في أهلي، فجعلتُ أتخَبَّرُ الأخبارُ، وأسأل النَّاس حين قدم المدينة، حتَّى قدم عليَّ نفرٌ من أهل يثرب من أهل المدينة، فقلت: ما فعل هذا الرَّجلُ الَّذي قدم المدينة؟ فقالوا: الناسُ إليه سِراعٌ، وقد أراد قومُه قتله، فلم يستطيعوا ذلك، فقدمت المدينة، فدخلت عليه، فقلت: يا رسول الله! أتعرفني؟ قال: «نعم، أنت الَّذي لقيتني بمكَّة».

وذكر بقيَّة الحديث، وفيه: أنَّه سأله عن الصَّلاة، والوضوء. [مسلم (832) وأحمد (4/112) وأبو داود (1277) والنسائي (1/279 - 280) وابن ماجه (1251)] .

- دروس وعبر:

  1. عَمْرُو بنُ عَبَسَة كان من الحنفاء المنكرين لعبادة غير الله تعالى في الجاهليَّة.
  2. كانت الحروب الإعلاميَّة الضَّروس الَّتي شنَّتها قريشٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم  سبباً في تتبُّع عمرو بن عبسة لأخبار الرَّسول صلى الله عليه وسلم  .
  3. جرأة وشدَّة قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد وجده عمرو بن عبسة مستخفياً وقومه جُرَاءُ عليه.
  4. الأدب في الدُّخول على أهل الفضل والمنزلة، قال عمرو بن عبسة: «فتلطَّفت حتَّى دخلت عليه».
  5. الرِّسالة المحمَّدية تقوم على ركيزتين: حقِّ الله، وحقِّ الخلق. قال صلى الله عليه وسلم  : «أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان» وفي هذا دليلٌ على أهمِّيَّة صلة الأرحام؛ حيث كان هذا الخلق العظيم من أوليات دعوة الإسلام، مع اقترانه بالدَّعوة إلى التَّوحيد، وقد ظهر في هذا البيان الهجوم على الأوثان بقوَّة، مع أنَّها كانت أقدس شيءٍ عند العرب، وفي هذا دلالةٌ على أهمِّيَّة إزالة معالم الجاهليَّة، وأنَّ دعوة التَّوحيد لا تستقرُّ ولا تنتشر، إلا بزوال هذه المعالم.
  6. وفي اهتمام النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم  المبكِّر بإزالة الأوثان مع عدم قدرته على تنفيذ ذلك في ذلك الوقت دلالةٌ على أنَّ أمور الدِّين لا يجوز تأخير بيانها للنَّاس، بحجَّة عدم القدرة على تطبيقها، فالَّذين يبيِّنون للنَّاس من أمور الدِّين ما يستطيعون تطبيقه بسهولةٍ، وأمن، ويحجمون عن بيان أمور الدِّين الَّتي يحتاج تطبيقها إلى شيءٍ من المواجهة والجهاد هؤلاء دعوتهم ناقصةٌ، ولم يقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم  الذي واجه الجاهليَّة وطغاتها وهو في قلَّةٍ من أنصاره، والسِّيادة في بلده لأعدائه.
  7. حِرْصُ الرَّسول صلى الله عليه وسلم  على صحابته، وتوفير الجوِّ الامن لهم، والسَّير بهم إلى برِّ الأمان، وإبعادهم عن التَّعرُّض للمضايقات، فقد قال لعَمْرِو بنِ عَبَسَةَ: «إنك لا تستطيع يومك هذا».
  8. تذكُّر رسول الله صلى الله عليه وسلم  لأحوال أصحابه، وعدم نسيان مواقفهم، قال: «أنت الذي لقيتني بمكَّة».
  9. لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم  يعطي كلَّ مَنْ أسلم قائمةً بأسماء أتباعه، فهذا ليس للسَّائل منه مصلحةٌ، ولا يتعلَّق به بلاغ، ولذلك لـمَّا سأله عمرو بن عبسة عمَّن تبعه؛ قال: «حرٌّ، وعبدٌ» وهذه تورية - كما قال ابن كثير - بأن هذا اسم جنس فَهِمَ منه عمرو: أنَّه اسم عين.
  10. في قوله: «ارجع إلى أهلك، فإذا سمعتَ بي ظَهَرْتُ؛ فائتني»، نأخذ منه درساً في الدَّعوة: أنَّ تكديس المريدين، والأعضاء حيث المحنة، والإيذاء، ليس هو الأصل؛ فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم  يوجِّه نحو الرُّجوع إلى الأقوام، وأمر - كما سنرى - بالهجرتين إلى الحبشة، فذلك تخفيفٌ عن المسلمين، وإبعادٌ عن مواطن الخطر، وسترٌ لقوَّة المسلمين، وإعطاء فرصةٍ للقائد حتَّى لا ينشغل، وضمانٌ للسِّرِّيَّة، وإفادةٌ للمكان المرسل إليه، وإعدادٌ للمستقبل، وملاحظةٌ لضمان الاستمرار، وتجنُّب الاستئصال.

وممَّن أسلم بسبب الحرب الإعلاميَّة ضدَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم ، الطفيل بن عمرو الدَّوْسِيُّ، وجاءت قصَّته مفصَّلةً في كتب السِّيرة، ويرى الدُّكتور أكرم ضياء العمري: أنَّه لم يثبت منها إلا أنَّه دعا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم  للالتجاء إلى حصن دوسٍ المنيع، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك [مسلم (116) وأحمد (3/371)]، وأشارت روايةٌ صحيحةٌ إلى أنَّ الطُّفيل دعا قومه إلى الإسلام، ولقي منهم صدوداً، حتَّى طلب الطُّفيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم  أن يدعو عليهم، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم  دعا لهم بالهداية [البخاري (2937) ومسلم (2524)] وكان الرسول صلى الله عليه وسلم  انئذٍ بالمدينة المنوَّرة..

ثالثاً: إسلام الحصين والد عمران رضي الله عنهما:

جاءت قريش إلى الحصين - وكانت تعظِّمه - فقالوا له: كَلِّمْ لنا هذا الرَّجل، فإنَّه يذكر الهتنا، ويسبُّها، فجاؤوا معه حتَّى جلسوا قريباً من باب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فقال: «أوسعوا للشَّيخ»، وعمران وأصحابه متوافرون، فقال حصين: ما هذا الذي بلغنا عنك، أنك تشتم الهتنا، وتذكرها، وقد كان أبوك حصينةً، وخيراً؟ فقال: «يا حُصَيْنُ! إنَّ أبي وأباك في النَّار، يا حُصَيْنُ! كم تعبد من إله؟» قال: سبعاً في الأرض، وواحداً في السَّماء. فقال: «فإذا أصابك الضرُّ مَنْ تدعو؟» قال: الَّذي في السَّماء. قال: «فإذا هلك المال مَنْ تدعو؟» قال: الَّذي في السَّماء، قال: «فيستجيب لك وحده، وتشركهم معه؟ أرضيته في الشُّكر أم تخاف أن يغلب عليك؟» قال: ولا واحدةً من هاتين. قال: وعلمت أنِّي لم أكلم مثله، قال: «يا حصين! أسلمْ تسلمْ». قال: إنَّ لي قوماً، وعشيرةً، فماذا أقول؟ قال: «قل: اللَّهم أستهديك لأرشد أمري، وزدني علماً ينفعني»، فقالها حصين، فلم يَقُمْ؛ حتَّى أسلم. فقام إليه عِمْرانُ فقبَّل رأسه، ويديه، ورجليه، فلـمَّا رأى ذلك النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ؛ بكى، وقال: «بكيت من صنيع عمران، دخل حصين وهو كافر، فلم يقم إليه عمران، ولم يلتفت ناحيته، فلـمَّا أسلم قضى حقَّه، فدخلني من ذلك الرِّقَّة»، فلـمَّا أراد حصين أن يخرج قال لأصحابه: «قوموا فشيِّعوه إلى منزله» فلـمَّا خرج من سُدَّةِ الباب؛ رأته قريشٌ، فقالوا: صبأ!! وتفرَّقوا عنه».

ولعلَّ الَّذي حدا بالحصين والد عمران أن يسلم بهذه السُّرعة سلامة فطرته، وحسن استعداده من ناحيةٍ، وقوَّة حجَّة الرَّسول صلى الله عليه وسلم  وسلامة منطقه من ناحية أخرى، ونلاحظ: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم  استخدم أسلوب الحوار مع الحصين؛ لغرس معاني التوحيد في نفسه، ونسف العقائد الباطلة الَّتي كان يعتقدها.

رابعاً: إسلام أبي ذرٍّ رضي الله عنه:

كان أبو ذرٍّ رضي الله عنه مُنْكِراً لحال الجاهليَّة، ويأبى عبادة الأصنام، وينكر على مَنْ يشرك بالله، وكان يصلِّي لله قبل إسلامه بثلاث سنوات، دون أن يخصَّ قبلة بعينها بالتوجُّه، ويظهر أنَّه كان على نهج الأحناف، ولـمَّا سمع بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم  قدم إلى مكَّة، وكره أن يسأل عنه حتى أدركه اللَّيل، فاضطجع فراه عليٌّ رضي الله عنه، فعرف: أنَّه غريب، فاستضافه، ولم يسأله عن شيءٍ، ثمَّ غادره صباحاً إلى المسجد الحرام، فمكث حتَّى أمسى، فراه عليٌّ فاستضافه لِلَيلة ثانية، وحدث مثل ذلك في اللَّيلة الثَّالثة، ثمَّ سأله عن سبب قدومه، فلـمَّا استوثق منه أبو ذرٍّ؛ أخبره بأنَّه يريد مقابلة الرَّسول صلى الله عليه وسلم ، فقال له عليٌّ: فإنَّه حقٌّ، وهو رسول الله، فإذا أصبحت؛ فاتَّبعْني، فإنِّي إن رأيتُ شيئاً أخاف عليك؛ قمت كأنِّي أريق الماء، فإن مضيت، فاتَّبعني، فتبعه، وقابل الرَّسول صلى الله عليه وسلم ، واستمع إلى قوله فأسلم، فقال له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم  : «ارجع إلى قومك فأخبرهم حتَّى يأتيك أمري»، فقال: والَّذي نفسي بيده، لأصرخنَّ بها بين ظَهْرَانيْهم، فخرج حتَّى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمداً رسول الله، وثار القوم حتَّى أضجعوه، فأتى العبَّاس بن عبد المطَّلب، فحذَّرهم من انتقام غفار، والتَّعرُّض لتجارتهم الَّتي تمرُّ بديارهم إلى الشَّام، فأنقذه منهم، وكان أبو ذرٍّ قبل مجيئه قد أرسل أخاه؛ ليعلم له علم النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم  ويسمع من قوله، ثمَّ يأتيه، فانطلق الأخ حتَّى قدم إليه، وسمع من قوله، ثمَّ رجع إلى أبي ذرٍّ فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاماً ما هو بالشِّعر، فقال: ما شفيتني ممَّا أردت، وعزم على الذَّهاب بنفسه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أخوه له: «وكُن على حذرٍ من أهل مكَّة فإنَّهم قد شَنِفُوا له، وتجهَّمُوا» [البخاري (3861) ومسلم (2474)] .

- دروسٌ وفوائد:

  1. شيوع ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم  بين القبائل، واكثر مَنْ ساهم في ذلك مشركو قريش، بما اتَّخذوه من منهج التَّحذير والتَّشويه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولمَا جاء به، حتَّى وصل ذكره قبيلة غِفار.
  2. تميُّزُ أبي ذرٍّ رضي الله عنه بأنَّه رجلٌ مستقلٌّ في رأيه، لا تؤثر عليه الإشاعات، ولا تستفزُّه الدِّعآيات، فيقبل كل ما تنشره قريش، ولذلك أرسل أخاه يستوثق له من خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعيداً عن التَّأثيرات الإعلاميَّة.
  3. شدَّة اهتمام أبي ذرٍّ بأمر الرَّسول صلى الله عليه وسلم ، فلم يكتف بالمعلومات العامَّة التَّي جاء بها أخوه أُنيس، بل أراد أن يقف على الحقيقة بعينها؛ حيث إنَّ مجال البحث ليس عن رجلٍ يأمر بالخير فحسب؛ وإنما عن رجلٍ يَذكر أنَّه نبيٌّ؛ ولذلك تحمَّل المشاقَّ، والمتاعب، وشظف العيش، والغربة عن الأهل، والوطن في سبيل الحقِّ، فأبو ذرٍّ ترك أهله، واكتفى من الزاد بجرابٍ، وارتحل إلى مكَّة لمعرفة أمر النُّبوَّة.
  4. التَّأنِّي والتَّريُّث في الحصول على المعلومة؛ حيث تأنَّى أبو ذرٍّ رضي الله عنه؛ لما يعرفه من كراهية قريشٍ لكلِّ مَنْ يخاطب الرَّسول صلى الله عليه وسلم ، وهذا التَّأنِّي تصرُّفٌ أمنيٌّ تقتضيه حساسية الموقف، فلو سأل عنه؛ لعلمت به قريش، وبالتَّالي قد يتعرَّض للأذى والطَّرد، ويخسر الوصول إلى هدفه، الَّذي من أجله ترك مضارب قومه، وتحمَّل في سبيله مصاعب، ومشاقَّ السَّفر.
  5. الاحتياط والحذر قبل النُّطق بالمعلومة: حين سأل عليٌّ رضي الله عنه أبا ذرٍّ رضي الله عنه عن أمره، وسبب مجيئه إلى مكَّة، لم يخبره بالرَّغم من أنَّه استضافه ثلاثة أيَّامٍ؛ إمعاناً في الحذر، فاشترط عليه قبل أن يخبره أن يكتم عنه، وفي الوقت ذاته أن يرشده، فهذا غايةٌ في الاحتياط، وتمَّ ما أراده.
  6. التَّغطية الأمنيَّة للتَّحرُّك: تمَّ الاتفاق بين عليٍّ وأبي ذرٍّ رضي الله عنه على إشارةٍ، أو حركةٍ معيَّنةٍ، كأنَّه يصلح نعله، أو كأنه يريق الماء، وذلك عندما يرى عليٌّ رضي الله عنه من يترصدهما، أو يراقبهما، فهذه تغطيةٌ أمنيةٌ لتحرُّكهم تجاه المقرِّ (دار الأرقم)، هذا إلى جانب أنَّ أبا ذرٍّ كان يسير على مسافةٍ من عليٍّ، فيُعدُّ هذا الموقف احتياطاً، وتحسُّباً لكلِّ طارئ، قد يحدث في أثناء التَّحرُّك.
  7. هذه الإشارات الأمنيَّة العابرة، تدلُّ على تفوُّق الصَّحابة رضي الله عنهم في الجوانب الأمنيَّة، وعلى مدى توافر الحسِّ الأمنيِّ لديهم، وتغلغله في نفوسهم، حتَّى أصبح سمةً مميِّزةً لكلِّ تصرُّفٍ من تصرُّفاتهم الخاصَّة والعامَّة، فأتت تحرُّكاتهم منظَّمةً ومدروسةً، فما أحوجنا لمثل هذا الحسِّ، الَّذي كان عند الصَّحابة، بعد أن أصبح للأمن في عصرنا أهمِّيةٌ بالغةٌ في زوال واستمرار الحضارات، وأصبحت له مدارسه الخاصَّة، وتقنياته المتقدِّمة، وأساليبه، ووسائله المتطوِّرة، وأجهزته المستقلَّة، وميزانياته ذات الأرقام الكبيرة، وأضحت المعلومات عامَّةً، والمعلومات الأمنيَّة خاصَّةً تباع بأغلى الأثمان، ويُضَحَّى في سبيل الحصول عليها بالنَّفس إذا لزم الأمر!. وما دام الأمر كذلك، فعلى المسلمين الاهتمام بالنَّاحية الأمنية؛ حتَّى لا تصبح قضايانا مستباحةً للأعداء، وأسرارنا في متناول أيديهم.
  8. صدق أبي ذرٍّ رضي الله عنه في البحث عن الحقِّ، ورجاحة عقله، وقوَّة فهمه، فقد أسلم بعد عرض الإسلام عليه.
  9. حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم  واهتمامه بأمن أصحابه، وسلامتهم؛ حيث أمر أبا ذرٍّ بالرُّجوع إلى أهله، وكتمان أمره حتَّى يظهره الله.
  10. شجاعة أبي ذرٍّ رضي الله عنه، وقوَّته في الحقِّ فقد جهر بإسلامه في نوادي قريش، ومجتمعاتهم، تحدِّياً لهم وإظهاراً للحقِّ، وكأنَّه فهم: أنَّ أمر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم  له بالكتمان، ليس على الإيجاب؛ بل على سبيل الشَّفقة عليه، فأعلمه بأنَّ به قوَّةً على ذلك؛ ولهذا أقرَّه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم  على ذلك، ويؤخذ منه جواز قول الحقِّ عند من يخشى منه الأذيَّة لمن قاله - وإن كان السُّكوت جائزاً - والتَّحقيق: أنَّ ذلك مختلفٌ باختلاف الأحوال والمقاصد، وبحسب ذلك يترتَّب وجود الأجر، وعدمه.
  11. كان موقف أبي ذرٍّ رضي الله عنه مفيداً للدَّعوة، ومساهماً في مقاومة الحرب النَّفسيَّة الَّتي شنَّتها قريشٌ ضدَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم ، وكانت ضربةً معنويَّةً أصابت كفار مكَّة في الصَّميم، بسبب شجاعة ورجولة أبي ذرٍّ رضي الله عنه وقدرته على التحمُّل، فقد سالت الدِّماء من جسده، ثمَّ عاد مرَّةً أخرى للصَّدع بالشَّهادة.
  12. مدافعة العبَّاس عن المسلمين، وسعيه لتخليص أبي ذرٍّ من أذى قريش، دليلٌ على تعاطفه مع المسلمين، وكان أسلوبه في ردِّ الاعتداء يدلُّ على خبرته بنفوس كفار مكَّة؛ حيث حذَّرهم من الأخطار التي ستواجهها تجارتهم، عندما تمرُّ بديار غِفار.
  13. امتثل أبو ذرٍّ للترتيبات الأمنيَّة، الَّتي اتَّخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم  في مكَّة، فمع تعلُّق أبي ذرٍّ بالرَّسول صلى الله عليه وسلم ، وحبِّه له، وحرصه على لقائه، إلا أنَّه امتثل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم  في مغادرة مكَّة إلى قومه، واهتمَّ بصلاح، وهداية الأهل، ودعوتهم للإسلام، فبدأ بأخيه، وأمِّه وقومه.
  14. أثرُ أبي ذرٍّ الدَّعويُّ على قومه وقدرته على هدايتهم، وإقناعهم بالإسلام، ومع ذلك فإنَّه لا يصلح للإمارة، روى مسلمٌ في صحيحه عن أبي ذرٍّ، قال: قلت: يا رسول الله! ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على مَنْكِبي، ثمَّ قال: «يا أبا ذر! إنَّك ضعيف، وإنَّها أمانةٌ،وإنَّها يوم القيامة خزيٌ وندامةٌ، إلا من أخذها بحقِّها، وأدَّى الَّذي عليه فيها» [مسلم (1825) وأحمد (5/173، 267)]، فلكلِّ شخصٍ مجاله الَّذي سخَّره الله فيه، وميدانه الَّذي يقوم بواجبه فيه، فليس معنى: أنَّه نجح في الدَّعوة، وإقناع النَّاس: أنَّه يصلح لكلِّ شيءٍ.
  15. تفويض أبي ذرٍّ الإمامة إلى سيِّد غفار (أيماء بن رَحضة) - مع تقدُّم أبي ذرٍّ عليه في الإسلام وعلوِّ منزلته - يدلُّ على مهارةٍ إداريَّةٍ، وهي عدم جمع كلِّ الأعمال في يده، وتقدير النَّاس، وإنزالهم منازلهم.
  16. نجاح أبي ذرٍّ الباهر في الدَّعوة؛ حيث أسلمت نصف غفار، وأسلم نصفها الثَّاني بعد الهجرة.

لقد فشلت محاولات التَّشويه، والحرب الإعلاميَّة، والحجر الفكري الَّذي كان الكفار يمارسونه على الدَّعوة الإسلاميَّة في بداية عهدها؛ لأنَّ صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم  كان أقوى من أصواتهم، ووسائله في التَّبليغ كانت أبلغ من وسائلهم، وثباته على مبدئه السَّامي كان أعلى بكثيرٍ ممَّا كان يتوقَّعه أعداؤه؛ فالرَّسول صلى الله عليه وسلم  لم يجلس في بيته، ولم ينزوِ في زاويةٍ من زوايا المسجد الحرام؛ ليستخفي بدعوته، وليقي نفسه من سهام أعدائه المسمومة؛ بل إنَّه غامر بنفسه صلى الله عليه وسلم ، فكان يخرج إلى مضارب العرب قبل أن يفدوا إلى مكَّة، وكان يجهر بتلاوة القرآن في المسجد الحرام؛ ليسمع من كان في قلبه بقيَّة من حياةٍ، وآثارةٍ من حرِّيَّةٍ وإباءٍ، فيتسرَّب نور الهدى إلى مجامع لبِّه، وسويداء قلبه، وكان من هؤلاء ضماد الأزديُّ، وعمْرُو بن عَبَسَةَ، وأبو ذرٍّ الغفاري، والطُّفيل بن عمرو الدَّوسي، وحصين والد عمران بن الحصين رضي الله عنهم، وهذا دليلٌ قاطعٌ، وبرهانٌ ساطعٌ، على فشل حملات التَّشويه الَّتي شنَّتها قريشٌ ضدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعلينا أن نعتبر، ونستفيد من الدُّروس، والعبر.


: الأوسمة



التالي
مشاهد من الأذى والتعذيب الذي تعرَّض له النبيُّ صلى الله عليه وسلم
السابق
الحج توحيد ووحدة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع