البحث

التفاصيل

رحلة إلى الله مع الحكم العطائية الصحبة الصالحة

الرابط المختصر :

رحلة إلى الله مع الحكم العطائية
الصحبة الصالحة 
د. جاسر عودة 
لا تَصْحَبْ مَنْ لا يُنْهِضُكَ حالُهُ وَلا يَدُلُّكَ عَلَى اللهِ مَقالُهُ. رُبَّما كُنْتَ مُسيئاً فَأَراكَ الإحْسانَ مِنْكَ، صُحْبَتُكَ مَنْ هُوَ أَسوأ حالاً مِنَكَ.
بسم الله الرحمن الرحيم
في رحلة السلوك مع الله وإلى الله سبحانه وتعالى، تعلّمنا أن ننقب عن عيوب النفس، وفهمنا أن أصل كل معصية وغفلة وشهوة الرضا عن النفس، كما يقول الشيخ، وأن أصل كل طاعة ويقظة وعفة عدم الرضا عنها. وأنه ينبغي للإنسان أن يكون مثل هذه النفس اللوامة التي أقسم الله عز وجل بها.
وهنا يحدثنا الشيخ رحمه الله ورضي عنه عن عيب آخر، ألا وهو سوء اختيار الأصحاب. كيف يختار المؤمن أصحابه؟ يقول الشيخ: (لا تصحب من لا ينهضك حاله ولا يدلك على الله مقاله فربما أراك الإحسان منك صحبتك إلى من هو أسوء حال منك). إذن، في الصحبة، إما أن تصحب من هو أفضل حالاً منك، أو تصحب من هو أسوء حالاً منك.
يقول الشيخ: إن صحبت من هو أسوء حال منك ظننت أنك محسن، لأنك تقارن نفسك به؛ هذا الذي يرتكب الصغائر والكبائر، ولا يبالي. أما إذا صحبت من (ينهضك حاله ويدلك على الله مقاله)، أى من هو أعلى منك في الدين، وهنا نتكلم عن الدين ولا نتكلم عن الدنيا، فإن صحبت من هو أعلى منك في الدين، فإنه حرى بهذا الصاحب أن يؤثر فيك تأثيراً جيداً.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل الجليس الصالح والجليس السيئ كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تشتم منه ريحاً طيبًا، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تشتم منه ريحاً خبيثة)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم. 
وإن صحبته الذي يتحلى بالأخلاق الفاضلة وبالدين، فإما أن يعطيك المسك حقيقةً لأن المؤمن طيب الريح، وإما أن يعطيك مسكاً معنوياً، كنصيحة، أو يذكر لك آية، أو كلمة خير، أو بسمة: (تبسمك في وجه أخيك صدقة)، وهكذا. وإما أن تشتم منه ريحاً طيبًا، أي تراه يتصدق، أو يفعل الخير، أو يعبد الله تعالى. 
وأما الذي هو كنافخ الكير أو (الحداد)، فإما أن يحرق ثيابك إن اقتربت منه حقيقةً لأنه يدخن مثلاً! وإن اقتربت منه أكثر فلعله يحرق ثيابك ثم يحرق قلبك، أي يعرضك لذنب من الذنوب، كأن يشركك في غيبة، أو نميمة، أو معصية، أو شهادة زور، أو غير ذلك من أنواع المعاصي، أعاذنا الله وإياكم. فإما أن تشتم منه ريحاً خبيثة، وإما أن تراه يقع في الذنوب، فيؤثر هذا في قلبك.
(لا تصحب من لا ينهضك حاله). ومعنى (الحال) وتأثيره ليس بدعاً من القول. فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يرشد أصحابه إلى أهمية الحال القلبي وكان ينهض بحالهم رضي الله عنهم كما يظهر بوضوح في أحاديث كثيرة، وهاك بعض الأمثلة: 
عن أبي هريرة: قال صلى الله عليه وسلم: (سبق درهم مائة ألف درهم). قالوا: وكيف؟ قال: (كان للرجل درهمان فتصدق بأجودهما، وانطلق رجل إلى عرض ماله فأخذ منه مائة ألف درهم فتصدق بها). فالفارق بين الرجلين هو فارق في الحال القلبي، رغم أن الثاني تصدق بمائة ألف درهم، والأول تصدق بدرهم واحد!
وروى النسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الصبح فقرأ الروم فالتبس عليه، فلما صلى قال : (ما بال قوم يصلون معنا لا يحسنون الطهور وإنما يلبس علينا القرآن أولئك). وهذا أيضاً حديث صريح عن (حال) فرد يؤثر تأثيراً سلبياً في المجموع.
وعن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ هذه الآية : {أم خلقوا من غير شئ أم هم الخالقون. أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون. أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون}، كاد قلبي أن يطير!
وعن أبيّ بن كعب: كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها، ثم دخل آخر قرأ قراءة صاحبه، فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعاً على النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، فدخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه، فأمرهما صلى الله عليه وسلم فقرأ فحسّن شأنهما، فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذا كنت في الجاهلية، فلما رأى ما قد غشيني، ضرب في صدري، فغضت عرقاً، وكأنما أنظر إلى الله تعالى فرقاً ...
كأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأبيّ: أتشك يا أُبيّ؟ وأُبيّ هذا كان من الصحابة الذين كتبوا القرآن فيما بعد في عهد جمع القرآن، وكان (رئيس اللجنة) التي أشرفت على هذه العملية، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم في صدره فنقله من حال الشك إلى حال الإحسان وهو أن تعبد الله كأنك تراه! فقال: (وكأنما أنظر إلى الله تعالى فرقاً). هنا يصف أُبيّ الحال التي نقله النبي صلى الله عليه وسلم إليها في لحظة!
وقد رأيت من مشايخي وأساتذتي من يتكلم بكلمة واحدة فينهض بي أياماً، ولعله لا يقول شيئاً، ولكنه في حال ذكر، أو في حال خشية، أو في حال خضوع لله سبحانه وتعالى، فينقل لك هذا الحال القلبي أياماً، ويقربك من الله سبحانه وتعالى.
ثم يقول الشيخ: (ولا يدلك عن الله مقاله)، فإذا لم ينهضك بالحال دلّك بالمقال، أي نقلك بنصيحة أو بشيء يقوله من أقوال الخير.
نسأل الله عز وجل أن يبعّد عنا الصحبة السيئة ويرزقنا الصحبة الصالحة، ونسأل الله عز وجل أن يرفع ويُنهض الحال والمقال. آمين.


: الأوسمة



التالي
الإنجاب والتربية أعظم الجهاد
السابق
الحلقة الثانية والعشرون: نظرة الصَّحابة إلى الكون والحياة وبعض المخلوقات.

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع