البحث

التفاصيل

عبد الفتاح أبو غدة

عبد الفتاح أبو غدة

علامة الحديث والفقه واللغة والدعوة

(1336 – 1417هـ = 1917 – 1997م)

بداية التعرف على الشيخ أبي غدة:

عرفت الشيخ الجليل عبد الفتاح أبا غُدَّة قبل أن ألقاه بسنين، من خلال ما كنت أسمعه عنه من الإخوة السوريين عامة، والحلبيِّين خاصة، مثل العلامة مصطفى الزرقا، والشاعر المفكر عمر بهاء الدين الأميري، والشيخ عبد الله علوان، والشيخ عدنان سرميني. وقد حببوه إليَّ بما وصفوه به من تمكُّن في العلم، وحرص على التعبُّد، وورع في التعامل، وغِيرَة على الدين، وحمل للدعوة، ووعي بهموم الأمة، فهو من رجال العلم المحقِّقين، ورجال الدعوة العاملين. ولا غرو أن أحببته قبل أن أراه، والأذن تعشق قبل العين أحيانًا.

عرفت ذلك من الإخوة السوريين الذين كانوا يدرسون في مصر في أوائل الخمسينيات من القرن العشرين، وقد كنتُ مكلَّفًا باللقاء معهم من قبل قسم الاتصال بالعالم الإسلامي في المركز العام للإخوان المسلمين، الذي كان يرأسه الأستاذ عبد الحفيظ الصيفي رحمه الله.

ثم عرفتُ عنه أكثر من الإخوة السوريين في قطر، أوائل ذهابي إليها في أوائل الستينيات، وبعد وصولي بقليل، أمثال الإخوة الأستاذة: عادل كنعان، ومصطفى الصيرفي، وعدنان سعد الدين، وهاني طايع، وسعيد المبيض وغيرهم.

معرفتي له عن طريق القراءة لكتبه:

ثم عرفتُه قارئًا له فيما بدأ بنشره من كتب بتحقيقه، فوجدت نفَسًا جديدًا، وروحًا جديدة، في التحقيق والشرح والتعليق، ووجدت الرجل يتمتع بفهم دقيق، وحِسٍّ رقيق، وإيمان عميق، وعلم وثيق، ينمُّ عن سعة اطلاع على علوم الحديث ومصادره، رواية ودراية، وعلى علم بالفقه- وبخاصة الفقه الحنفي- وعلم بكتب اللغة وعلومها من فقه اللغة والنحو والصرف والبلاغة، وكتب الأدب والتاريخ.

كما أنه يتصف بالأناة والتثبُّت والتحري فيما يصدره من أحكام، معتمدًا في الغالب على أئمة هذا الشأن، وقد يناقشهم، ويضيفُ إليهم، ولكن هيهاتَ أن يخالفهم.

وقد بدأ نشاطه التأليفي ببعض ما كلفه به مشايخه وإخوانه من علماء الشام، مثل الإسهام في عمل موسوعة لفقه الإمام ابن حزم الظاهري، مستنبطة من كتاب (المُحَلَّى) المطبوع في أحد عشر جزءًا.

كما بدأ يمارس بعض الأنشطة مثل عمل معجم لأحاديث النسائي في كتابه (المجتبى) أو (سنن النسائي الصغرى). وقد اهتم بعض العلماء بـ(سنن أبي داود)، وبعضهم (سنن الترمذي)، وبقي النسائي مع أهميته، فانتدب الشيخ ليقدم له خدمه بهذه الفهرسة، التي يسرت الانتفاع به للعلماء والباحثين.

العناية بنشر تراث العلامة اللكنوي الهندي:

ثم كان أول ما بدأ به الشيخ: العناية بتراث العلامة الهندي المحدِّث الشيخ محمد عبد الحي الحسني اللكنوي، القريب العهد، الذي خلَّف جملة من الكتب في الحديث وعلومه، فريدة في بابها، ثرية في مضمونها، موثقة بمصادرها، متينة في بنيانها، وكانت هذه الكتب قد طُبعت طباعة قديمة، بأعداد محدودة، فأصبحتْ شِبْه مهجورة، أو مقبورة، فأراد الشيخ أن يعيد طباعتها وإحياءها ونشرها، محققة معلقة الحواشي، مفهرسة فهرسة حديثة، تعين على استيعابها وفهمها، والاستفادة منها، على أكمل وجه ممكن، وبذلك تحيا من موات وتستيقظ من سبات.

ومما يجمع بين العلامة اللكنوي والعلامة أبي غدة: أن كلا منهما حنفي المذهب، وأن كلًّا منهما معنيٌّ بالحديث النبوي، ويأخذه من أصوله، على المنهج الذي اعتمده أئمة السُّنَّة الربانيون.

والإمام عبد الحي اللكنوي الهندي نادرة المحققين المتأخرين، عاش 39 سنة وأربعة أشهر، وترك من المؤلفات أكثر من 115 مؤلَّفًا في علوم متعددة، وفي دقائق العلم ومباحثه العصيبة، وُلد سنة 1264هـ، وتوفي أول سنة 1304هـ. وكلُّ كتبه ورسائله تتميز بالتحقيق والإفادات الغالية، وهكذا قدر لهذا الرجل العبقري أن يموت شابًّا، لم يكد يكمل الأربعين بالسنين الهجرية.

كتب الإمام اللكنوي التي حققها الشيخ أبو غدة:

كان أول هذه الكتب: كتاب (الرفع والتكميل في الجرح والتعديل).

1- كتاب (الرفع والتكميل في الجرح والتعديل):

وهو أول كتاب أُلِّف في موضوعه الهام، وأدَّى خدمة عظيمة لدارسي الحديث الشريف ورجاله، وبخاصة معرفة قواعد الجرح والتعديل، فكان هذا الكتاب رائدًا فريدًا في بابه، وكانت حاشيته الضافية الوافية المتنوعة؛ مجمع النفائس والفرائد والتحقيقات، وقد كان أصله في نحو 20 صفحة، فخرج بعد خدمة الشيخ أبو غدة له وتعليقه عليه في طبعته الأولى في 272 صفحة، وفي طبعته الثانية 394 صفحة، وفي طبعته الثالثة والرابعة 564 صفحة، وهو المرجع الرائد في موضوعه على كثرة ما تلاحق من التآليف بعده في موضوعه.

2- كتاب (الأجوبة الفاضلة للأسئلة العاشرة الكاملة) للإمام اللكنوي، تضمن هذا الكتاب النفيس مباحث شائكة ومسائل صعبة، تقدم بالسؤال عنها أحد كبار علماء الهند المعاصرين للِّكنوي، فأجاب عنها الشيخ اللكنوي بما شفى وكفى، وزاد على الغاية، وكان أصل هذا الكتاب صغيرًا في نحو 20 صفحة، فغدا بعد تعليق الشيخ أبي غدة رحمة الله عليه في 302 صفحة، وطبع خمس طبعات في حلب والقاهرة وبيروت، وللشيخ عليه زيادات وتنقيحات وتصحيحات تصدر لاحقًا (بإشراف ابنه سلمان وفقه الله) في طبعة سادسة مزيدة.

3- ومن كتب اللكنوي التي حققها أيضًا: كتاب (إقامة الحجة على أن الإكثار في التعبد ليس ببدعة) للإمام اللكنوي. أورد فيه اللكنوي جملة كبيرة من الأحاديث، وخرج- بعد تخريج أحاديثه وآثاره والإضافة إليه- في 195 صفحة.

4- كتاب (سباحة الفِكْر في الجهر بالذِّكْر) للإمام اللكنوي، وتضمَّن عددًا من الأحاديث النبوية للاستدلال على موضوعه، فحقَّقه الشيخ رحمه الله وخرَّج أحاديثه باختصار.

كتب حديثية أخرى للشيخ أبو غدة:

5- (السنة النبوية وبيان مدلولها الشرعي، والتعريف بحال سنن الدارقطني)، وهي رسالة في نحو 50 صفحة، نبَّه فيها الشيخ إلى أخطاء سارية في فهم لفظ السنة الوارد في الأحاديث والآثار، وقع فيها بعض العلماء، كما عرَّف فيها بحال (سنن الدارقطني)، وبيَّن المفارقات بينها وبين السنن الأربعة: سنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجَهْ.

6- (صفحة مشرقة من تاريخ سماع المحدثين عند المحدثين)، درَس الشيخ رحمه الله فيها نموذجًا من الأسانيد الحديثية للحافظ ابن الصلاح، واستوعب فيها كلَّ ما يتصل بهذا الموضوع، مع التراجم والفهارس، حتى غَدَتْ كتابًا يُعرِّف الخلف بعناية السلف، في نقل الكلمة العلمية وحفظها وضبطها وحِيَاطتها من التصحيف والتحريف، وطبع في 145 صفحة.

7- (تحقيق اسمي الصحيحين واسم جامع الترمذي)، وهو موضوع له أهميته البالغة في كشف معالم هذه الكتب العظيمة والمصادر المعتبرة في رواية الحديث، وما أُسست عليه في تدوينها وتأليفها ومقاصدها، ودفع عنها أوهامًا تسربت إلى بعض العلماء بسبب الغَفْلة عن أسمائها الكاملة الدقيقة وما اشتملت عليه، وطبع في بيروت.

8- (الإسناد من الدين)، بيَّن فيه الشيخ رحمه الله فضل الإسناد واهتمام العلماء به في تلقي الحديث الشريف وغيره من العلوم.

وهذا الكتاب في حقيقته منافحةٌ وذبٌّ عن حياض الإسلام، فإن الدين الإسلامي شُرِّف وامتاز دون سائر الأديان بخصيصة الإسناد. وقد طبع في 81 صفحة.

كتب أخرى لعلماء الحديث بالهند عني بها الشيخ:

وقد كان للشيخ اهتمام إلى جانب ما تقدم بعلم رجال الحديث وكتب رجال الحديث، فأخرج:

9- ومن كتب الحديث المهمة التي اعتنى بها: كتاب (قواعد في علوم الحديث) للعلامة الجليل الشيخ ظَفَر أحمد التهانوي الهندي ثم الباكستاني (ت 1394هـ - 1974م)، وهو مقدمة لكتابه (إعلاء السنن) في عشرين جزءًا من القطع الكبير، تكفَّل فيه بجمع أدلة المذهب الحنفي في كافة أبواب الفقه، ردًّا على بعض المتعصبين الهنود، الرامين المذهب الحنفي بالفقر من أدلة الكتاب والسنة، وجاء الكتاب بعد طبعه بتحقيق الشيخ أبي غدة غفر الله له وتعليقاته في 553 صفحة.

10- كتاب (خلاصة تذهيب تهذيب الكمال في أسماء الرجال) للحافظ الخزرجي اليمني، وهذا الكتاب من أفضل الكتب المختصرة في معرفة الرجال، كما بيَّن ذلك الشيخ رحمه الله في مقدمته له التي بلغت 40 صفحة، وبيَّن مزاياه على مزايا (التقريب) للحافظ ابن حجر، سوى ذكر الحُكْم على الراوي بتعيين حاله ضعفًا وقوة.

وكان هذا الكتاب مجهولًا تاريخ مؤلِّفه، وتاريخ مُحشِّيه، فاهتدى الشيخ إلى ترجمة المؤلف بالإجمال، وإلى تعيين بلده، وإلى ترجمة مُحشِّيه والمعلِّق عليه باستيفاء، وترجم لهما في مقدمته للكتاب، وأتحف القراء بتصحيح أغلاط وتحريفات كثيرة وقعت في طبعة الكتاب البولاقية، فذكر صفحات طوالًا في بيانها، وكشف تحريفها دون قصد استيفائها. وطبع الكتب أربع مرات في بيروت.

الاهتمام بعلوم الحديث:

كما قد خدم الشيخ طيَّب الله ثراه علم مصطلح الحديث خدمة جُلَّى، فنشر وحقق جملة واسعة من كتبه الهامة المتميزة، مع تحقيقات وتعليقات وحواشٍ محرِّرة مبصِّرة،

ومنها:

11- كتاب (الموقظة) في علم مصطلح الحديث، للحافظ الذهبي، حقَّقه رحمه الله اعتمادًا على مخطوطتين، وعلَّق عليه، وضبطه، وأوفاه حقه، وألحق بآخره خمس تتمَّات تتصل بمباحثه، جاء فيها بالنافع المبارك المفيد، وبخاصة ما يتعلق بكتاب (صحيح مسلم) وشَرْط مسلم فيه، وردِّ مسلم على مَنْ خالفه في شرطه، وبيان اسمه، وأثر هذا الاختلاف، وبيان وجاهة مذهب مسلم، وبخاصة مسألة تكفير أهل البدع والأهواء، وخرج الكتاب في 220 صفحة. وطبع في بيروت أربع مرات.

12- كتاب (قفو الأثر في صفو علوم الأثر) للإمام العلامة ابن الحنبلي الحلبي الحنفي، في 140 صفحة، وهو كتاب استخلص فيه مؤلفه كتب المصطلح التي دوِّنت قبله، وحرَّرها باختصار غير مُخِلٍّ، وباستيعاب غير مُمِلٍّ.

13- كتاب (بُلْغة الأريب في مصطلح آثار الحبيب) للإمام الحافظ المرتضى الزَّبيدي شارح (القاموس) و(الإحياء)، ترجم فيه الشيخ رحمه الله للمؤلف ترجمة وافية، وضَبَط نصوص الكتاب، وخدمه بعناية كاملة وإخراج جميل، وطبعه مع كتاب (قَفْو الأثر) في مجلد واحد. وطبع في بيروت في نحو 100 صفحة.

14- (جواب الحافظ المنذري عن أسئلة في الجرح والتعديل)، وهي أسئلة مُشْكِلة، وجَّهها بعض كبار المحدِّثين من معاصري الحافظ المنذري له، ورغب في إجابته عنها، فأجاب عنها بأوفى بيان.

وقد اعتنى الشيخ رحمه الله بهذه الأجوبة، ووشَّاها بتعليقات نافعة، وطبع في 100 صفحة. ومعه:

15- (رسالة أمراء المؤمنين في الحديث)، جمع فيها الشيخ رحمه الله تعالى أسماء من لُقِّبوا بلقب أمير المؤمنين في الحديث، من أول القرن الثاني إلى ما بعد القرن العاشر، فبلغوا 26 عالمًا، وذكر فيه أيضًا أمراء المؤمنين في الفقه والعربية، فكان تحفة طريفة، طبع في بيروت في أكثر من 50 صفحة.

16- كتاب (لمحات من تاريخ السنة وعلوم الحديث)، من تأليف الشيخ رحمه الله، وهو كتاب من 252 صفحة، حوى مباحث من علوم الحديث في تاريخ بدء وضع الحديث، وأسبابه، ونتائجه، وكيف عالجه العلماء المحدِّثون، ونبه إلى ما بذلوا في مقاومته من جهود.

الاهتمام بالأحاديث الموضوعة:

17- كتاب (المصنوع في معرفة الحديث الموضوع) للعلامة الشيخ المُلَّا علي القاري الهروي ثم المكي (ت. 1014 هـ / 1606 م)، وقد تولى الشيخ تحقيق أحاديثه وبيان درجتها، وذكر ما يغني من الحديث الصحيح عن الحديث الموضوع فيها، وقدَّم له بمقدِّمة واسعة حافلة بلغت 42 صفحة، قرر فيها ضوابط وقواعد، ونبَّه في تعليقاته على أغاليط وأوهام وقعت لبعض العلماء، من الاعتماد في تصحيح الأحاديث على الكشف الذي يقول به بعض الصوفية، وطُبع الكتاب عدة مرات في أكثر من 340 صفحة.

العناية بالحديث الضعيف وبمكانة ابن القيم في الحديث:

18- كتاب (المنار المنيف في الصحيح والضعيف) للإمام ابن القيم، وهو كتاب أراد مؤلفه حياطة السنة المطهرة من الأحاديث الموضوعة، وأكاذيب القصاص والوعاظ، وقد تميَّز هذا الكتاب بذكر قواعد وضوابط ترشد العالم إلى معرفة الحديث الموضوع والخبر المكذوب والأساطير المفتعلة. ويظهر في هذا الكتاب- كما في غيره- منزلة ابن القيم في خدمة السُّنَّة النبوية والدفاع عنها، كما بدا ذلك في كتب عدة منها تعليقه على سنن أبي داود. وقد طبع أربع مرات في 224 صفحة.

التوسع في معرفة كل ما يتعلق بالحديث:

19- كتاب (ظَفَر الأماني في شرح مختصر السيد الشريف الجرجاني) للإمام عبد الحي اللكنوي، وهذا الكتاب تميَّز في علم مصطلح الحديث بالنقاش والمراجحة بين الأقوال في المسائل المعضِلة؛ كمسألة (العمل بالحديث الضعيف)، و(الحديث الحسن)، و(الحديث المرسل)، و(الحديث المنكر)، وسواها من أبحاث المصطلح، التي لها صلة بأصول الفقه، والتي جرى فيها خلاف بين المحدثين والفقهاء، كما أن فيه تعقُّباتٍ دقيقة للحفاظ الجهابذة الكبار، كالعراقي وابن حجر والسخاوي وغيرهم.

اعتنى الشيخ رحمه الله بخدمته وتحقيقه، وضبط نصوصه، وتقويم تحريفاته الواقعة في الأصل، وعلَّق عليه، وبلغ هذا الكتاب بفهارسه العامة 620 صفحة.

20- كتاب (توجيه النظر إلى أصول الأثر) للعلامة الشيخ طاهر الجزائري الدمشقي، عُنِي الشيخ رحمه الله بخدمته، واعتنى به، ففصَّل مقاطعَه وجُمَله، وضبط ألفاظه وعباراته، وعلَّق عليه، وربط بين نصوصه وإحالاته، ووضع له الفهارس العامة، وألحق به رسالة الحافظ ابن الصلاح في وصل البلاغات الأربعة في موطأ الإمام مالك، فخرج في مجلدين كبيرين، بأكثر من ألف صفحة بفهارسه العامة.

21- رسالة الحافظ الذهبي: (ذِكر من يُعتمد قولُه في الجرح والتعديل)، ذكر فيها ما يزيد على 715 عالمًا تكلموا في جرح الرواة وتعديلهم، من صدر الإسلام إلى عصر الذهبي، وقد اعتنى بها الشيخ رحمه الله، وضبط الأسماء والألقاب والكنى فيها. وطبعت في 150 صفحة.

22- كتاب (المتكلمون في الرجال) للحافظ السخاوي، وهو في موضوع رسالة الحافظ الذهبي، اقتصر فيه السخاوي على أشهر علماء الجرح والتعديل من صدر الإسلام إلى عصره، فبلغوا نحو 210 عالمٍ. فترجم الشيخ رحمه الله لهؤلاء العلماء بتراجم متوسطة عرَّفت بهم وبآثارهم الحديثية. وطبع في 70 صفحة.

23- (قاعدة في الجرح والتعديل، وقاعدة في المؤرخين) للحافظ تاج الدين السبكي، شرح فيهما شروط الجرح والتعديل وما يُقبل منهما وما لا يُقبل، حقَّقها الشيخ، وعلَّق عليها. وطبعت في 80 صفحة.

24- (شروط الأئمة الخمسة) للحازمي، وهو من المراجع الهامة لمعرفة شروط البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي والترمذي.

25- (شروط الأئمة الستة) للحافظ ابن طاهر المقدسي، وهو من باب الكتاب السابق، وعلى منواله، وكلاهما خدمهما الشيخ رحمه الله بالتحقيق والتعليق والمقابلة بأصول موثقة، وصدرا في نحو 150 صفحة.

26- (رسالة الإمام أبي داود إلى أهل مكة في وصف سننه)، وهي رسالة مهمة لا يستغني عنها قارئ السنن، قابلها الشيخ رحمه الله بأكثر من أصل مخطوط، وعلَّق عليها.

وقد صدرت هذه الرسائل الثلاثة الأخيرة بعد وفاة الشيخ رحمه الله، في مجلد واحد بعنوان: ثلاث رسائل في علم مصطلح الحديث.

كما صدر بعد وفاته رحمه الله:

27- كتاب (الإمام ابن ماجَهْ وكتابه السنن) للشيخ العلامة المحدِّث محمد عبد الرشيد النعماني الهندي رحمه الله (ت 1420ه)، قدَّم له مؤلفه مقدمة هامة حول تدوين الحديث وتاريخه في القرون الثلاثة الأول، مع تعرضه لشروط الأئمة الأربعة المجتهدين والأئمة الحفاظ أصحاب الكتب الستة، وأبرز عناية العلماء بسنن ابن ماجه، ومؤلفاتهم فيه، وأضاف عليه الشيخ رحمه الله تحقيقات وتعليقات نافعة جدًا، وقد طبع في 290 صفحة.

28- (مبادئ علم الحديث وأصوله) للعلامة المحقق شَبِّير أحمد العثماني الهندي ثم الباكستاني (ت. 1369 هـ / 1949 م)، مؤلف الكتاب الممتع الغني بالتحقيق (فتح المُلْهِم بشرح صحيح مسلم) وهذا الكتاب مقدمة هذا الشرح الجليل، اعتنى به الشيخ رحمه الله عناية بالغة، وصدر في أكثر من 500 صفحة. وقد أكمله شرحًا مع العناية بالأحكام والحياة المعاصرة: أخونا وصديقنا العلامة الشيخ محمد تقي عثماني، نفع الله به.

29- (مقدمة كتاب التمهيد) للحافظ ابن عبد البر الأندلسي، قام عليها الشيخ بتعليق وافٍ على موضوعاته ومسائله، وهو من أقدم ما كُتِب في علم مصطلح الحديث، وطبع في 120 صفحة.

ومن الكتب التي حققها وعُني بها أيضًا:

كتاب (التصريح بما تواتر في نزل المسيح):

30- كتاب (التصريح بما تواتر في نزول المسيح) لمحدث العصر في الهند الكبرى الشيخ محمد أنور شاه الكشميري، الذي سد بالتواتر الطريق على من يريدون باسم العقل الحر أن يردوا على ما ورد في موضوع نزول المسيح من أحاديث، بحجة أنها أحاديث آحاد، فبين الشيخ تواترها، بما أورد من أربعين حديثًا صحيحة أو حسنة.

وكان أصل هذا الكتاب في نحو (20) صفحة، فخرج بعد خدمته الوافية وتخريج أحاديثه وآثاره في نحو (373) صفحة، وأدَّى هذا الكتاب خدمة جُلَّى في تجلية حَقِّية هذا الموضوع – وبخاصة زمن طبعته الأولى-، في الوقت الذي كان ينكره أو يتردد فيه طائفة من كبار العلماء، وخرج الكتاب نافعًا للخواصِّ والعوام، ومصحِّحًا لأفكار الواهمين والمنكرين. وطبع أكثر من خمس مرات.

ترشيحي للشيخ أبي غدة لجائزة سلطان بروناي في الحديث:

ومما أذكره هنا في كلامي عن الشيخ أبي غدة: رسالتي التي أرسلتُ بها إلى الأخ الكريم الدكتور/ فرحان أحمد نظامي مدير (مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية)، بمناسبة ترشيحي للشيخ أبي غدة لجائزة سلطان بروناي في علم الحديث، وكان مما كتبته في هذه الرسالة:

بالإشارة إلى رسالتكم المؤرخة في 28/4/1415هـ والخاصة بالإعلان عن جائزة السلطان حسن البلقية– سلطان بروناي- العالمية، والتي يقوم بتنسيقها أمانة في مركزكم الموقر.

وبما أنكم أعلنتم عن موضوع الجائزة لعام 1995م، وهو: (الحديث النبوي الشريف وعلومه).

فيسرُّني باسم مركز دراسات السنة والسيرة بجامعة قطر أن أرشِّح لهذه الجائزة أحد أعلام الحديث النبوي وعلومه في عصرنا، الذي خدمه طوالَ عمره المبارك بالتدريس والتأليف والتحقيق والمشاركة في وضع المناهج وغيرها، وهو العلامة المعروف في العالم الإسلامي: الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، حفظه الله ونفع المسلمين بعلمه.

لهذا العلَّامة أكثر من (50) خمسين كتابًا في الدراسات المختلفة، ما بين علوم قرآن، وعلوم حديث، وفقه، وتربية وتاريخ، جُلُّها في خدمة السنة المشرفة.

ومن قرأ هذه الكتب، سواء كانت محقَّقة أو مؤلفة– وأمعن فيها النظر، عرف منها بوضوح مكانة التكوين العلمي للشيخ حفظه الله، وسعة أفقه، ورسوخ قدمه في علوم المقاصد، وهي علوم الشريعة المعروفة، من القرآن وعلومه، والحديث وعلومه، والفقه وأصوله، وعلوم العقيدة والسلوك، وفي علوم الوسائل كذلك، وهي علوم اللغة والنحو والصرف والبلاغة والأدب. كما دلت على ذلك تعليقاته العلمية الضافية، وحواشيه الرائقة الصافية.

ورغم أنه يختار للتحقيق الكتبَ القيمة النافعة، فإن تحقيقاته وتعليقاته الأنيقة الممتعة أضافت إليها قيمة مضاعفة.

هذا مع اعتدال في التوجه، وانصاف للمخالِف، وتقدير للرأي الآخر، ومراعاة لأدب الخلاف والحوار، وعفة اللسان والقلم، في تناول الأشخاص والمذاهب والفرق والجماعات، شأن العلماء الراسخين المربِّين أبدًا.

وكما أن الشيخ معروف بعلمه وفقهه وحسن درايته، في الأوساط العلمية والإسلامية، فهو معروف كذلك بورعه وتقواه وحسن خلقه، يشهد بذلك كل من اقترب منه، ويلمسه لمسَ اليدِ كلُّ من عايشه وعاشره، زميلًا أو تلميذًا، فهو من الربانيين القلائل، أو (الخَلَف العُدُول) الذين يحملون علم النبوة للأجيال، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، نحسبه كذلك والله حسيبه، ولا نزكِّيه على الله تعالى.

وهذه الخصال المعروفة عنه، من الورع والتحرِّي والمراقبة، لم تحجب ما في شخصيته المُحبَّبة من الظُّرف واللطف وحسن المعشر، والدعابة المهذَّبة، والمشاركة في المُلَح والطُّرَف، التي تسمعها العذراء فلا تخجل منها.

هذا ما حفل به تاريخه المشرق من غيرة على الإسلام، ومشاركة إيجابية في بعث أمته، ونشر دعوته، وتحكيم شريعته، وإن جرَّ عليه ذلك ما جرَّ من أذًى ومحنة وهجرة في سبيل الله، فهو أحد الدعاة الصادقين، والعاملين لنصرة هذا الدين، نسأل الله أن يتقبل جهاده وجهوده اهـ.

تقويمنا للشيخ أبي غدة:

الشيخ عبد الفتاح رجل صالح، قوي الإيمان، مستقيم الخلق، راسخ القدم، يأوي إلى ركن وثيق من العلوم الشرعية الإسلامية، متمكِّن من علوم الحديث، دارس لها في مصادرها وكتبها الأصلية والفرعية، والقديمة والحديثة، دارس في الفقه على مذهب أبي حنيفة النعمان، كمعظم علماء أهل بلده، ولذا تتلمذ على علامة زمانه الشيخ مصطفى الزرقا، وعلى غيره من العلماء، ملم بمعرفة بعض المذاهب الأخرى، كمذهب الشافعي، والمذهب الحنبلي.

حنفي غير متعصب لمذهبه:

ولكنه مع هذا لم يكن متعصِّبًا للمذهب الحنفي، حتى إن خالف الحديث الصحيح، ككثير من الأحناف من مشايخه ومن زملائه، ومن تلاميذه.

وهو وإن كان حنفيًّا ملتزمًا بمذهبه، لم يذم المذاهب الثلاثة السنية الأخرى: مذهب مالك، والشافعي، وابن حنبل، ويرى أن جميعهم، يمضون على منهج واحد، هو الأخذ بالمعايير الأربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والرأي، أو القياس.

وكلهم من رسول الله ملتمس غرفًا من البحر أو رشْفًا من الدِّيَم

ولذلك أثنى على هؤلاء الأئمة المتبوعين المقلِّدين، كما أثنى على أئمة مجتهدين آخرين، ظلوا مقلِّدين مدة من الزمن، ثم اختفوا. مثل الإمام الأوزاعي (157هـ) والإمام سفيان الثوري (161هـ) والإمام الطبري (310هـ)، وهذا موقف أتباع المذاهب كلهم من المذاهب الستة المتبوعة، وكذلك كان موقف الشيخ أبي غدة من المذهب الحنبلي وأئمته مثل ابن الجوزي، وابن قدامة، والقاضي أبي يعلى، وابن عقيل، وآل تيمية، الجد والأب والحفيد شيخ الإسلام ابن تيمية الحبر البحر الزخار، الذي لا يدرك له قرار، ولا تُسبر له أغوار، وتلميذه الكبير الإمام ابن القيم، ومَن بعدَهم من أئمة الحنابلة، مثل ابن رجب، وابن مفلح، وغيرهما.

أبو غدة محب لابن تيمية:

كان أبو غدة من المحبِّين لابن تيمية، ومن المطَّلِعين على سعة علمه وتنوعه، وأن عنده من أنواع العلم ومفاتيحه ما ليس عند غيره، ولذلك كان موقفه من المذهب الحنبلي موقف كل المتَّبعين للمذاهب المالكية والشافعية والحنفية، بل كثيرًا ما أثنى على هذا المذهب وعلى أدلته، وعلى الأئمة الكبار فيه مثل الذين ذكرناهم من قبل.

وكان موقفه من ابن تيمية في غاية الوضوح، فهو رأس وإمام، وعَلَم من كبار الأعلام، وشيخ الإسلام، وأحيانًا يذكره بلفظ شيخ الإسلام، وأحيانا يقول: الشيخ ابن تيمية، وهذه لا تعد تنقصًا من الإمام، ولا تقليلا من قيمته، بل هو ما يقتضيه المقام من الاختصار والاقتصار.

ولكن لأن الشيخ تحيط به أشواك وضعها من حوله الوضَّاعون، وُضعت فيه أقاويل بثَّها فيه المتقولون على الناس بالباطل، والمزايدون والمتملقون والكائدون والمخاصمون، والآخذون بالظنون البعيدة، والدعاوى المردودة، وكل ما ليس بحق، وقد قال تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس:32].

تتلمذ أبي غدة على الكوثري، وعدم تعصبه له:

كان الشيخ عبد الفتاح أبو غدة من علماء الأحناف، ومن علماء الأشعرية أو الماتريدية، ومن المحدِّثين على طريقة الإمام الطحاوي، والزيلعي صاحب (نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية)، ومثله في ذلك مثل الكثيرين من العلماء الأحناف في الهند وباكستان وأفغانستان وغيرهم، ولكنه كان تلميذًا نجيبًا للشيخ التركي الكبير العلامة محمد زاهد الكوثري، وهو من رجال الحديث، والعلماء الكبار عند الأتراك ومن عارفيهم، بل كان الشيخ أبو غدة هو أعظم تلاميذ الكوثري، وأغزرهم علمًا، وأوثقهم حجة.

وكان للكوثري مواقف من الحنابلة- أو قل: من السلفيين أو من الوهابيين- وله كلام فيهم، وفي أهل الحديث عامة، لا يرضاه أهل العدل والإنصاف، كرده على كتاب العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر (نظام الطلاق في الإسلام) الذي رد فيه على المتمسكين بالمذاهب، الذين يوقعون الطلاق لأدنى شيء، ولو في حالة الغضب والمزاح والإكراه، فينشئ الكوثري كتابًا في الرد على شاكر سمَّاه: (الإشفاق على أحكام الطلاق).

وللشيخ الكوثري رد عنيف على ابن تيمية، واتهام له في دينه، وهو يرفض كل اجتهادات ابن تيمية الرائعة، والمحرِّرة للمسلمين من الالتزام والتقيد بالفقه المذهبي في كل شيء، وإن أدى إلى هدم الأسر وخراب البيوت، وضياع الأبناء والبنات، فالكوثري يرجح مذهبه في كل هذه الاجتهادات، مهما تكن نتائجه، وابن تيمية ومدرسته يحاولون من خلال الفقه الإسلامي نفسه، والرجوع إلى المصادر الأصلية، وإلى تراث الأمة، ومناقشة الأدلة والترجيح بين الآراء إنقاذ الأسرة المسلمة مما انتهت إليه من مهاوي الطلاق، الذي أدى إلى كوارث أسرية واجتماعية ودينية.

وكان للشيخ الكوثري موقفه من الذهبي، واتهمه بالتعصب ضد الأشاعرة، وعدم إعطائهم حقوقهم كما ينبغي من التوقير والاحترام والدفاع في الترجمة لهم في كتبه، وخصوصا: سير أعلام النبلاء، وأنه إذا جاء واحد ممن يهش له الذهبي رحب به وأطيب وبشَّر وكبَّر، وزاد وأفاض، على حين يقبض يده، ويغلق فمه عندما يتحدث عن الأشاعرة وغير الحنابلة.

وأنا أقول بصراحة: إن هذا كله ظلم للحنابلة وللسلفيين- أو الوهابيين- وخروج عن حد الإنصاف والعدل في الخصومة، وقد سألت شيخنا الشيخ عبد الفتاح أبا غدة بصراحة: هل تتبنى هذه الأقاويل التي يقولها شيخك الكوثري؟ قال لي: لا والله، لا أتبناها، ولا أروِّجها، ولا أدعو إليها. هذا ما قاله الشيخ أبو غدة بصريح كلامه، وأنا أسجِّل هذا للشيخ، وأبرئه من أن يتحمَّل كل ما قاله شيخُه في هذه الأمور.

الحنابلة من أعظم أتباع المذاهب:

وأنا أقول: إن الحنابلة هم من أعظم أهل المذاهب الذين نفعوا الإسلام، ونفعوا المسلمين، ولهم في فقه مذهبهم وعرضه والتدليل عليه، ومناقشة خصومه، من روائع المؤلفات والشروح والحواشي ما لا مزيد عليه، وها نحن نرى كتبهم، ونطَّلع فيها على الروائع والعجائب والكنوز، ما قد يفوق كثيرًا من المذاهب الأخرى، وأحيانًا عليها كلها، وخصوصا اجتهادات شيخ الإسلام وتلميذه العلاقة ابن القيم، التي شرَّقت في عصرنا وغرَّبت، ووجد الناس فيها خلاصًا للأسرة المسلمة من تعقيدات المذاهب السابقة، ومنها المذهب الحنبلي نفسه، ولهذا قال الشاعر العراقي معروف الرصافي حين أفتاه مفت تيمي (أي ينتمي إلى مذهب ابن تيمية) بجواز عودة زوجته إليه، وقد طلقها أهل مذهبه الحنفية ثلاثًا لا رجعة فيها، حتى تنكح زوجًا غيره. فقال الشاعر يمدح هذا الرأي، ويمدح الإمام ابن القيم الذي انتصر لهذا الرأي، وقواه، وساق الأدلة عليه، خاصة في كتابه (إعلام الموقعين):

ألا قل في الطلاق لمُوقِعيه بما في الشرع ليس له وجوب

غلوتم في ديانتكم غلوًّا يضيق ببعضه الشرع الرحيب

أراد الله تيسيرًا وأنتم من التعسير عندكم ضروب

وقد حلت بأمتكم كروب لكم فيهن لا لهمُ الذنوب

وَهَى حبلُ الزواج ورقَّ حتى يكاد إذا نَفَخْتَ له يذوبُ

كخيطٍ من لعابِ الشمسِ أدلت به في الجو هاجرةٌ حلوب

يمزِّقه من الأفواه نفث ويقطعه من النَّسْم الهبوب

فدى (ابنَ القيم) الفقهاءُ كم قد دعاهم للصواب فلم يجيبوا

ففي (إعلامه) للناس رشدٌ ومزدجر لمن هو مستريب

ولقد رأيت الإمام الذهبي ينصف كل الفئات المختلفة، حتى المعتزلة، يقول عن الزمخشري، وعن القاضي عبد الجبار، وعن الجاحظ والعلَّاف والنظَّام، بل عن اليهود والنصارى، بل عن الملاحدة من الفلاسفة وأمثالهم، من الكلمات ما لا يقوله إلا رجل عالم منصف، يعطي كل إنسان ما يستحقه، مهما يكن له من الآراء ما لا يقبله.

ربما يعيب الشيخَ أبا غدة بعضُ الإخوة من السعوديين المتشددين، ومن كان على مذهبهم ومنهجهم؛ لأنه لم يكتب ضد شيخه فيما كتبه! فهل يلزمه أن يكتب ضد ما كتبه، أم يلزمه ألا يتبعه، وألا يحبذه، وألا يدعو الشباب إليه؟

وقد قالوا لي: إن أخانا وصديقنا العالم السلفي الفقيه الأديب الدكتور الشيخ بكر أبو زيد، رئيس مجمع الفقه الدولي، كتب رسالة ضد الشيخ عبد الفتاح وهاجمه هجومًا قويَّا في رسالته، ولم يُتَح لي أن أطلع عليها( ).

رد الشيخ أبي غدة على من ادعى عليه تكفيره لأئمة السلفية:

اتهم بعض الشانئين للشيخ من المتعصبين أنه ألف بعض الكتب والرسائل بأسماء مستعارة ينال فيها من الإمامين الجليلين ابن تيمية وابن القيم ومن الإمام محمد بن عبد الوهاب، فألف الشيخ رسالته (كلمات في كشف أباطيل وافتراءات) وكان مما قال فيها:

(رَمَتْنِيْ بدائها...:

قد نسبوا إليَّ في المقدمة المنحولة لكتاب (المقابلة بين الهدى والضلال) باسم المحقِّق الموهوم، فزعموا في ص4 و5 منها: (أني ألَّفتُ كتبًا بأسماءٍ مستعارة، مثل (أبي حامد) و(أرشد) و(الدكتور)، أو غيرِ اسم أصلًا مثل (التعقيب المفيد) و(براءَة الأشعريين)... إلى آخر ما قالوه من البهتان.

وبيانًا للحقيقة: أُعلِمُ كلَّ من ينشد الحقَّ: أَني لستُ من أَهل هذا الخُلُق، والحمد لله، والكائدون يعرفون ذلك عني حقَّ المعرفة، ولا داعي بي أن أَختفي– على طريقتهم وصنيعهم- وراءَ أسماءٍ مستعارة، وكتبٍ لمجهولين، فهذا صنيعُ أمثالهم الذين استمرؤوا التزويرَ في كتب الناس، فسهُل عليهم نَحْلُ الكتب لغير أهلها، وتحت يدي الوثائقُ الناطقة بذلك عليهم، وهم إنما يفعلون ذلك لفِتَنٍ ومآرب، لا تَخفى على كل ذي بصيرة، ولا تغيب عن كل عامل في ميدان الدعوة الإسلامية.

اتهام الشيخ بتكفير ابن عبد الوهاب وابن تيمية وابن القيم:

ونسبوا إليَّ في تلك المقدمة المنحولة في ص5 و8 أني قلت بكفر الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والشيخ ابن تيمية، والشيخ ابن القيم. هذا قولهم.

وهو من أكذب الكذب، وأرخص الدس والتزوير، فليس تكفير الناس- فضلًا عن العلماءِ- من شيمتي، ولا خُلقي، والحمد لله، فقد حفظني الله تعالى بما أَكرمني به من عقل، وما أدَّبني به من أَدب الإسلام: أَن أَقع في هذه المكفِّرات والموبقات، فإنه من كفَّر مؤمنًا فقد كفر.

وهؤلاءِ أَئمة أَعلام، من خيار المؤمنين العالمين العاملين الداعين إِلى الله تعالى، ومن أَراد أن يُحكم عليه بالسَّفَه والعَتَه، فليكفر أَئمةَ الإسلام، وهؤلاءِ السادة الأعلام.

وهَبْني قُلت: هذا الصُّبْح ليلٌ أَيَعمى العالَمون عن الضياءِ؟!

وأَرى من المفيد جدًّا أن أَنقل نَصَّ عبارتهم في المقدمة المنحولة للكتاب المذكور، ليَشهد القارئ الكريم: الدَّسَّ الذي سلكوه، والافتراءَ الذي صنعوه، وليكون ذلك نموذجًا سادسًا من الافتعالات والأكاذيب.

قالوا في المقدمة المذكورة في ص4-5 ما نصه بالحرف الواحد أَضعه بين هلالين: ((لقد قام عبد الفتاح أَبو غدة بحملات باسمه الصريح فيما يَطبع من الكتب حينًا، وأَحيانًا تحت أَسماءٍ مستعارة، مثل (أَبي حامد) و(أرشد) و(الدكتور)، أَو غيرِ اسم أَصلًا، كما فعل أَبو غدة نفسه فيما سماه (التعقيب المفيد) و(براءَة الأشعريين)، وغيرِ ذلك من نشرات ورسائل، وتقاريرَ إلى مختلِفِ الجهات( )، وإليك مطلع كتابه الأَول، قال أَبو غدة متسترًا: فهذه خلاصة علمية في عقائد محمد بن عبد الوهاب ومقلِّديه، جمعت أكثر دررها المنقولة والمعقولة من تحقيق علماءِ الإسلام، وقد رَدَّ بعض أَتباع الأئمة الأربعة عليه (محمد بن عبد الوهاب) وعلى مقلِّديه، بتآليف كثيرة جيدة. - كذا-

وتنحصر أمهات عقائد محمد بن عبد الوهاب ومقلِّديه في أربع: 1- في تشبيه الله بخلقه. 2- وتوحيد الألوهية والربوبية. 3- وعدم توقيرهم النبي. 4- وتكفير المسلمين - كذا-

وهو مقلِّدٌ فيها ابنَ تيمية، وهو مخترع توحيد الألوهية والربوبية، الذي تفرَّعَ عنه عدَمُ توقيرهم للنبي، وتكفيرُهم المسلمين.. إلخ ما كَذَبَ به.

وهكذا استمر بهذه الأباطيل والأكاذيب.

تسميته: الإمام بن تيمية بـ(الكافر، المفتون، الشاذ، الضال ...)، وتسمية العلامة ابن القيم بـ(المتعصب، الشاذّ، المعتوه، الوَقِح، المزوِّر...)، انظر (التعقيب المفيد)، وتهجمه على الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأكثر من هذه الألفاظ، وأخفُّها: الجهلُ، والكفرُ، وأَتبعَ ذلك على كل من سَبَق هؤلاءِ من الأئمة ممن قال بما قالوا، وعلى من جاءَ بعدهم كذلك)). انتهى كلامهم بالحرف تمامًا.

وهذا– والله– هو البهتان الصريح بعينه، يُساق بأسلوب ملفوف مُلفَّق محشُوٍّ بالكذب والافتراء، لإثارة علماءِ هذه الديار المقدسة وتأليبهم عليَّ؛ إذ من المعلوم أَن لهؤلاءِ الأعلام الثلاثة الشيخ ابن تيمية والشيخ ابن القيم والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى مكانةً عظيمة في قلوب علماءِ هذه البلاد، فافتعل أولئك: هذا البهتان عليَّ ليثيروهم نحوي، رجاءَ أَن يبلغوا تحقيق مآربهم. والله يشهد أَنهم يعلمون من أَنفسهم أَني بريءٌ من هذا وأَنهم مفترون.

الحق لا يُخفى:

ولستُ بحاجة إلى أن أَرد هذه التهم، وأَدفع هذه الأباطيل، فهي تكشف عن نفسها بنفسها، على أَني أتحدَّى أَيَّ إنسانٍ أن يُثبِتَ أَني قلتُ شيئًا– من هذا الذي ادَّعوه عليَّ زورًا وبهتانًا– في كتبي أَو دروسي، أَو فيما حقَّقتُ أو أَلَّفتُ، ولقد مضى عليَّ في هذه المملكة الكريمة نحوُ عشرِ سنوات، سمعني المئات من الطلاب، وعاشرني عشرات من الزملاءِ والأساتذة، وخالطت الكثيرين من العلماءِ والناس وخالطوني، فأين من سمع مني شيئًا من هذه الدعاوي الباطلة؟ ولو كنتُ أُضمر شيئًا من هذا لظهر واستبان، وتبدَّى لِلعِيان، وقديمًا قالوا: ما فِيك، ظهر على فِيك، فالحقُّ أَبلج، والباطل لجلج، وسُلوكي مكشوف، وخُلُقي معروف، والحمد لله.

قل هاتوا برهانكم :

أَما قولُ الناحلين تلك الكتب إليَّ في المقدمة المذكورة: ((وإليك مطلع كتابه الأول قال أبو غدة متسترًا...)) إلى آخر ما نقلته من كلامهم قريبًا، فهذا بهتان واضح، واتهام ساقط، فأين الكتاب الذي قلتُ فيه هذه الافتراءات، ويَحمل اسمي ومسؤوليتي عما فيه؟ أَمَّا أَن يَنحلوا اسمي كتابًا أو كتبًا مزوَّرة بأسماءٍ يقولون: إِني صاحبها، فما أَهونَ هذه الدعوى؟ وأَهونُ منها: سُقوطها وإسقاطُها إلى الأرض! "ولو يُعطَى الناس بدعواهم، لادَّعى رجالٌ دِماءَ قوم وأموالَهم...".

وقد رَسَمَ الله تعالى طريقَ ثبوت الدعوى فقال: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111]. فليتبصَّر القراءُ الذين يقرؤون تلك الأباطيل: هذه الطريقَ التي رسمها الله تعالى لقبول الادِّعاءَات والتَّقوُّلات، ولْيعلموا أَنَّ وراءَ ذلك الدّسِّ والتزويرِ غاياتٍ سيئةً معروفة.

كشف الأباطيل :

وفوق هذا السقوط المكشوف لدعاويهم الباطلة، أَسوق بعض الدليل على كذبهم وافترائهم، مع أَنه أَمر مكشوف لكل من يقرأُ كلامهم بتمهل وأَناة، فأَقول:

أما دعواهم أَني مؤلف هذه الكتب، فأَقول في وجهها: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16]. وهذا البهتان العظيم ينخرط في رقابهم حتى يقيموا الدليل على مُدَّعاهم الباطل، وما هم ببالغين ذلك إلا بحبْلٍ جديد من أكاذيب جديدة، يُلقون بها للقراءِ على طريقتهم التي عُرفت بالدس والتزوير، وأصبحتْ لا تسري على الناس العارفين بهم. وهم الذين أَلَّفوا بأَسماءٍ مستعارة، ودَسُّوا في كتب الناس ما لا يعلمون ولا يرضون، كما تقدمت الإشارة إلى بعضه في أَوائل هذه (الكلمات)، فليعُد القارئ الكريم إليه.

وأَما دعواهم أَني كفرت الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والشيخ ابن تيمية، والشيخ ابن القيم. فهي دعوى باطلة لا تحتاج إلى دليل.

ابن عبد الوهَّاب إمام الدعوة:

فأَما الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، فهو إِمام الدعوة غيرَ منازًع، وقد كان داعيةً إلى الله تعالى، وقام بالدعوة بحاله ومقاله وعلمه وقلمه، وما كنتُ في كل حين إلا مقدِّرًا فضله وعلمه، وقيامه بالدعوة إلى الله تعالى، تلك الدعوة التي أَعطت أَطيب الثمرات في إِعلاء كلمة الله تعالى، وتصفية العقيدة من الشوائب والخرافات، والتي تتجلَّى آثارها في نشر العلم وكثرة العلماء، وانتشار المعاهد العلمية التي هي أَثر من آثار دعوته الخيِّرة، كما تتجلَّى آثارها في مؤازرةِ الإسلام في كل بلد.

وأَتحدَّى أَن يُثبِتَ أحدٌ أَني ذكرته في كتاب من كتبي بإساءَة أَو انتقاص. ودعوى أولئك التي زعموا فيها أَني كفَّرتُه: ساقطة إلى الأرض، ولم تَصْدر إِلا منهم، يَكذبون على الناس، ويَنحلون الكتبَ لغير أًصحابها، ثم يَرمون غيرَهم بالبهتان والأباطيل، ويَنْسَوْن: أَنَّ لعنة الله على الكاذبين.

ابن تيمية شيخ الإسلام:

وأَما الشيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى، فهو شيخ الإسلام، وإمام من كبار أَئمة الدين. ودعوى أُولئك الكائدين أَيضًا أَني كفَّرتُه، يَرُدُّها على كاذبيها ومُصدِّريها: ما شَحَنْتُ به كتبي وتعليقاتي من النقول الكثيرة عنه، مع وصفي له بالإمامة والتكريم والإجلال، والاعتداد بأقواله وآرائِه، مع الترحُّم عليه عند ذكره، ودِفاعي عنه عند من أَخطأَ في التعبير عن مقامه العلمي، وإيرادي لذكره في بعض كتبي على أَنه النموذج الذي جدَّدَ سِيرَة السلف الصالح بسيرته الفذَّة. وكلُّ هذا موجود في كتبي المطبوعة المنتشرة، بين أَيدي القراءِ في داخل المملكة وخارجها، قبلَ شَنّ أولئك الكائدين هذه الحملةَ المدخولة عليّ بسنوات.

وأَنا أحيل القارئ الكريم إِلى بعض كتبي، لينظر فيها ذكري لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بما ذكرتُه آنفًا، فلينظر القارئ تعليقي على كتاب (الأجوبة الفاضلة عن الأسئلة العشرة الكاملة) للشيخ محمد عبد الحي اللكنوي الهندي، وهو مطبوع بحلب من عشر سنوات سنة 1384، فلينظر منه الصفحات التالية، وفيها تعليقاتي واستشهاداتي بكلام شيخ الإسلام، مع الإجلال والتوقير والترحم عليه كما هو الشأن في الأدب مع كل عالم وإمام، وتلك الصفحات هي: 47، 92، 96، 97، 98، 100، 101، 102، 103، 109، 111، 113، 120.

ولينظر القارئ الكريم أيضًا تعليقاتي على كتاب (المنار المنيف في الصحيح والضعيف) للإمام ابن القيم تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله تعالى، وقد حقَّقتُه وخدمتُه وفَرَغْتُ منه في 12 من رجب سنة 1389، وتمَّ طبعه سنة 1390 في بيروت، وهو في أَيدي طلاب العلم في مكة والمدينة والرياض وغيرها من مدن المملكة يباع ويُوزَّع، فلينظر القارئ الكريم منه ما ذكرته عن شيخ الإسلام ابن تيمية في ترجمةِ مؤلفه الإمام ابن القيم، ولينظر منه أيضًا الصفحات التالية، ص 58، 59، 105، 124، 135.

ولينظر القارئ الكريم أيضًا تعليقاتي على كتاب (قواعد في علوم الحديث) للعلامة الشيخ ظَفَر أحمد التَّهَانَوِي، وهو مطبْوع في بيروت، وقد بُدئ بطبعه سنة 1390 وفُرغ منه أوائل سنة 1392، فلينظر القارئ فيه المواطن التالية ص 100، 101، 103، 106، 108، 113، 141، 168، 223، 354، 440، 441.

وأَكتفي بهذه الإحالات إِلى مواطِن ذكرِ شيخ الإسلام ابن تيمية مُبَجَّلًا معظمًا مقتدًى به، في الكتب الثلاثة السابقة الذكر من كتبي الكثيرة دفعًا للإطالة.

نص من تعليقات الشيخ وثباته على ابن تيمية:

وقد ذكر الشيخ هنا نصين من انتصاره لابن تيمية ودفاعًا عنه، نكتفي هنا بذكر ثانيهما. قال رحمه الله:

النص الثاني من تعليقاتي وثنائي على شيخ الإسلام ابن تيمية، أَنقلُه من كتابي المطبوع المتداول أيضًا من سنوات عديدة، وهو (رسالة المسترشدين) للمحاسبي في طبعته الثانية سنة 1391 في بيروت، فقد قال المحاسبي في رسالته المذكورة في ص 102-103، وهو يتحدث عن صفات المؤمن العالم العاقل المخلِص، المختشي من الله تعالى، الصادقِ مع الله تعالى في السَّلَف المتقين، ما يلي:

((وعلامة ذَلِكَ فِي الصادق: إِذَا نَظَر اعتَبَر، وإِذَا صَمَتَ تَفَكَّر، وإِذَا تَكلم ذَكَر، وإِذَا مُنِع صَبَر، وإِذَا أُعطِيَ شَكَر، وإِذَا ابتُلِيَ استَرْجَع، وإِذَا جُهِلَ عَلَيْهِ حلُم، وإِذَا عَلِم تواضع، وإِذَا علَّم رَفَق، وإِذَا سُئِل بَذَل، شِفاءٌ للقاصد، وعَوْنٌ للمسترشِد، حليفُ صِدق، وكهفُ بِرٍّ، قريبُ الرِّضَا فِي حق نَفْسه، بعيد الهمة فِي حق الله تعالى.

نيتُه أفضلُ من عمله، وعمَلُه أبلغُ من قوله، موطِنُه الحق، ومَعقِلُه الحياء، ومعلومُه الورع، وشاهِدُه الثِّقَة، لَهُ بصائرُ من النور يُبصِرُ بِهَا، وحقائقُ من العلم يَنْطِق منها، ودلائل من اليقين يُعبِّر عنها)). انتهى كلام الحارث المحاسبي في (رسالة المسترشدين). وقد علَّقتُ عليها ما يلي بالحرف:

((ما أجملَ هذه الصفات وأَجلَّها؟ وما أعظمها مجتمعةً متحققة في العبد المسلم؟ وقد كان في سلفنا الصالح من هذا النوع النفيس أَعدادٌ لا تُحصى.

ورحم الله تعالى شيخَ الإسلام ابنَ تيمية، إذ جَدَّد بعظيم سيرته تاريخ الأَسلاف في هذه الصفات، فإنه لما نَزَلَتْ به المِحنة، وحُبِس في قلعة دمشق، وقُطِع عن الناس، وسُجن معه تلميذه ابن القيم منفردًا عنه حتى مات الشيخ في السجن: كانت حالُه في ارتياح وسُرور، ورضًا غامر، وكان كما قال المؤلف رحمه الله تعالى: ((... له بصائر من النور يُبْصِرُ بها، وحقائقُ من العلم يَنْطِق منها، ودلائلُ من اليقين يُعبِّر عنها))، فكان السجن له خلوة، وكان يشكر الله على ذلك شكرًا عظيمًا...

يصف ابنُ القيم في كتابه (الوابل الصيب) ص 66-67 حالَ الشيخ وحالَ نفسه آنذاك فيقول: ((قال لي مرة: ما يَصنَعُ أعدائي بي؟ أَنا جَنَّتي وبُستاني في صدري– يعني بذلك إيمانَه وعِلمَه-، أين رُحتُ فهي معي لا تفارقني. إنَّ حَبْسي خلوة، وقَتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سِياحة. وكان يقول في مَحْبِسه في القلعة: لو بَذَلْتُ مِلءَ هذه القلعة ذهبًا ما عَدَل عندي شُكرَ هذه النعمة، أَو قال: ما جزيتُهم على ما تَسبَّبوا لي فيه من الخير.

وكان يقول في سجوده وهو محبوس: اللهم أَعِنِّي على ذكرك وشكرك وحُسنِ عبادتك ما شاء الله– أي كثيرًا جدًا-.

وقال لي مرة: المحبوسُ من حُبِس قلبُه عن ربه تعالى، والمأسورُ من أَسَرَه هواه. ولما دخل القلعة وصار من داخل سُورها، نَظَر إليه فقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13].

وعَلِم الله: ما رأيتُ أحدًا أطيبَ عيشًا منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخِلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدهما، ومع ما كان فيه من الحَبْس والتهديد والإرْجَاف، وهو مع ذلك من أَطيب الناس عيشًا، وأَشرحهم صدرًا، وأَقواهم قلبًا، وأَسَرِّهم نفسًا، تلوحُ نَضرةُ النعيم على وجهه.

وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءَت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض، أَتيناه، فما هو إلا أَن نراه ونَسمَع كلامه، فَيَذهَب عنا ذلك كُلُّه، وينقلبَ انشراحًا وقوةً ويقينًا وطمأنينة، وكان يقول: إِنَّ في الدنيا جنة من لم يَدخلها لا يَدخل جنة الآخرة.

فسبحان من أَشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح له أَبوابها في دار العمل، فأَتاهم من رَوْحِها ونسيمها وطيبها ما استَفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها)). انتهى النص الثاني الذي أَشرت إليه وعلقته على (رسالة المسترشدين) للمحاسبي المطبوعة من أَربع سنوات، وقد سُقْت هذا النص لبيان صفات السلف التي تحدث عنها المحاسبي، وجدَّدها شيخ الإسلام ابن تيمية في سيرته رحمه الله تعالى. فأَين دعوى أولئك الكائدين أني أكفِّره؟ حاشاه من هذا ورحمه الله تعالى، ورزقنا التأسِّيَ به فيما يُلِمُّ من مِحَن وابتلاءٍ واعتداء وافتراء.

الإمام ابن القيم:

وأَما الشيخ ابن القيم رحمه الله تعالى، فهو إمام من أَجلَّةِ أَئمة المسلمين، ودعوى أُولئك الحانقين أَني كفَّرتُه، يَرُدُّها عليهم أَسوأَ ردٍّ: نُقُولي الكثيرةُ عنه في تعليقاتي وكتبي، وقيامي بخدمة كتابه (المنار المنيف في الصحيح والضعيف)، وإبرازُه بالمظهر اللائق به، وترجمتي له الترجمة الكريمة الطافحة بالإجلال والتقدير والمحبة والاحترام. وسأشير إلى مواطِن تلك التعليقات التي نقلتُها عن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في بعض كتبي، بعد أَن أَنقل هنا نصَّ الترجمة التي كتبتُها وقدمت بها لكتابه (المنار المنيف)، وهو مطبوع في بيروت سنة 1390، فقد قلت في ص 7، 8، 9، ما يلي بالحرف الواحد:

أقوال أبي غدة في ابن القيم:

((ترجمةُ المؤلف: هو الإمام المحقِّق البارع الفَذُّ المُتْقِن المتفنِّن، ذو الذهن الوقاد، والقريحة السيالة، والقلم العذب البليغ المِطواع، والبيانِ المشرق الحيِّ الأخَّاذ، والروحانيةِ الفياضة؛ الشيخُ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي، المشهور بابن قيم الجوزية، الدمشقي الحنبلي رحمه الله تعالى ورضي عنه. واشتهر بابن قيم الجوزية، لِمَا أنَّ والده– وهو عالم مشهور بعلم الفرائض– كان قَيِّمًا للمدرسة الجَوْزية الكائنة اليوم في سُوق البُزُورية بدمشق، فعُرف الشيخ (بابن قيم الجوزية).

وترجمة هذا الإمام باستيفاءٍ تَخرج في مجلَّد كبير، وهو جدير أَن تُخرَج عنه دراسة شاملة: في حياته وإمامته وآرائه وفتاواه وانفراداته وتلامذته ومؤلفاته، وأَثره الفكري الحيِّ في صفوف أَهل العلم من زمنه إلى يومنا هذا، فلقد كان أَبو عبد الله مقتدًى به على الأجيال المتعاقبة، وقَبَسًا من نور شيخه الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله تعالى.

وأنا سأجتزئ بسطور من ترجمته، بقدر ما يتسع المقام فأقول: وُلِد هذا الإمامُ سنة 691هـ في قرية زُرَع، من قرى حَوْران قرب دمشق، وتلقَّى العلمَ عن مشايخ تلك الديار في عصره، فسَمِع الحديث من الشهاب النابلسي العابر، والقاضي تقي الدين بن سليمان، وعيسى المُطعِم، وأَبي بكر بن عبد الدائم، وإسماعيل بن مكتوم، وفاطمة بنت جوهر، وغيرهم. وقرأ العربية على أبي الفتح والمجد التونسي، وقرأَ الفقه على المجد الحَرَّاني، وأَخذ الأُصول عن الصفيِّ الهندي، وأَخذ علم الفرائض عن أَبيه وكانت له يَدٌ باسطةٌ في هذا العلم.

وقرأَ على الشيخ تقي الدين بن تيمية شيخِ الإسلام، ولازَمَه ستَّ عشرةَ سنة، منذ عاد الشيخ من مصر سنة 712هـ إلى وفاته سنة 728هـ، وكان الشيخ ابن القيم إذ ذاك في ريعان شبابه، وذِروة قوَّته ونشاطِهِ، واكتمالِ مَداركه، فقد كانت سِنُّهُ حينَ عودة الشيخ إلى الديار الشامية 21 سنة، مع الاستعداد الفِطري العلمي الكامِل الذي مَنَحَهُ الله إياه، والحافظةِ القوية العجيبة، والقُدرْةِ الباهرة على هَضْمِ المشكلات العلمية وتذليلها، وتحرير مواضعِ النزاع منها، وحُسْنِ الفَصل فيها.

ولا ريب أَنه ازداد من ذلك وتَقوَّى فيه من ملازمته للشيخ ملازمةَ الظل الشاخص 16 سنة، يَنْهَلُ ويَعُلُّ من غزير علومه، ويتضلَّع ويَتروَّى من عظيم مَداركه وفهومه، حتى صار لسانَ حاله، والمعروفَ بالتلمذة عليه من بين العديد الكثير من سائر تلامذته، وهو الذي هذَّب كتبه، ونَشَر علمه. ولمَّا حُبِسَ الشيخ في المرة الأخيرة في قلعة دمشق، حُبِس معه، منفردًا عنه، ولقي من الشدائد والمِحَن الشيء الكثير، ولم يُفرَج عنه إلا بعد وفاة شيخه رحمهما الله تعالى.

وقد تلقَّى العلمَ عن ابن القيم ناسٌ كثيرون في حياة شيخه، وإلى أَن مات، وانتفعوا به، وغَدَا من شيوخ مِصْرِه وعَصْرِه، وممن تلقَّى عنه الحافظُ ابنُ رجب الحنبلي، وقد ترجم له في كتابه (ذيل طبقات الحنابلة) ترجمة واسعة كريمة 2/447-452، وحكى من فنون فضائله وعظيم إمامته وكثير عبادته: الشيءَ الكثير، وعدَّد من مؤلَّفاته قرابة خمسين مؤلَّفًا– بل قد قاربت مؤلفاته المائةَ في التفسير والحديث، والفقه والأصول، والعقائد والديانات، والطب والنحو والعربية والأدب والتصوف، والأخلاق والقضاءِ والفروسية وغيرها من العلوم والفنون.

وقد طُبع كثير من مؤلَّفاته، وكلُّها شاهدُ صدق بِسعة باعه، وعظيمِ اطلاعه، ورسوخِ إمامته في العلوم التي أَلَّف فيها، وما تَرَى له كتابًا في علم، إلا وتجد له فيه مزيَّةً بارزة على من ألَّف في ذلك العلم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)).

هذا ما ترجمت به للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، في أَول كتابه (المنار المنيف) على سبيل الاختصار، وهذا الكتاب قد فرغتُ من خدمته وتحقيقه في يوم الأحد 12 من رجب سنة 1389هـ بالرياض، كما هو مطبوع في آخر مقدمتي له في ص18، وهو مطبوع في بيروت سنة 1390هـ كما أسلفت.

فأَين دعوى أُولئك أَني كفَّرته- رحمه الله تعالى-؟ وكيف يُجمع بين التكفير لمثل هذا الإمام والترحُّم عليه والترضِّي عنه، وذكر مَحاسنه ومزاياه واحترامه وإجلالِه؟! وحُقَّ لكل قارئ بصير عندما يقرأُ افتراءَهم بأَني كفَّرتُه أَن يقول: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}.

وهذا الكلام الذي سُقته الآن في ترجمة الشيخ الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، صَدَر مني قبل نحو ست سنوات كما يدل على ذلك تاريخ الفراغ للمقدمة كما سلف ذكره آنفًا، ولم أُنشئه الآن حديثًا ليمكن أَن يقال من قِبَلهم أو قِبَل غيرهم: إني قلتُه تصنُّعًا أو تكلُّفًا، فهذا تاريخُ كتابته وطبِعه ينطق عليهم بالحق.

بقي عليَّ بعد هذا أَن أُشير إلى مواطن نُقُولي الكثيرة عن الشيخ ابن القيم في كتبي التي خدمتها وحققتها أو أَلَّفتها، ونظرًا لطول ذلك وكثرته، فإني أَرى أَن أقتصر على الإشارة إلى ذلك في ثلاثة كتب من كتبي:

أحدها: (رسالة المسترشدين) للمحاسبي، فأَرجو القارئ الكريم أَن ينظر تعليقاتي الطويلة العديدة على هذا الكتاب في طبعتِهِ الأُولى بحلب سنة 1384، أَو طبعتِهِ الثانية في بيروت سنة 1391، ليشهد منها منزلة الإمام ابن القيم في نفس كاتب هذه (الكلمات)، وأَكتفي بالإحالة هنا إلى الطبعة الثانية لوجودها وشيوعها في المملكة، فلينظر القارئ منها المواطن التالية ص45، 46، 50، 52، 53، 62، 64، 65، 81، 82، 101، 103، 111، 128، 129، 136، 139، 155، 158، 181.

وأَذكر من تعليقاتي ونُقُولي عن الشيخ ابن القيم في (رسالة المسترشدين) نموذجين اثنين، فقد قلت في تعليقي عليها من عشر سنوات، في ص46 من الطبعة الثانية ما يلي بالحرف الواحد:

((وللشيخ الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى كلامٌ في الخَطْرة والفِكرة وما إِليهما، في غاية الدقة والنفاسة، وما أَصدقه وما أَحقَّه! كأَنه خَرج من مِشكاة النُّبوَّة، وأَنا ناقله لك– على طوله– راجيًا منك أن تتدبَّره، ففيه الخيرُ لك في دينك ودنياك، قال رحمه الله تعالى في كتابه (الفوائد) ص31 و173-174 (دافِع الخَطْرة، فإن لم تفعل صارت شهوة...). إلى آخر ما نقلته هناك نحو صفحتين.

وقلتُ في تعليقي عليها أيضًا من عشر سنوات، في ص52 من الطبعة الثانية: ((قال الشيخ ابن القيم رحمه الله تعالى في (الفوائد) ص32: ((من خلقه الله للجنة، لم تَزل هداياها تأتيه من المكاره، ومن خلقه الله للنار، لم تزل هداياها تأتيه من الشهوات)). ثم نقلتُ عن كتابه (إعلام الموقعين) أكثر من صفحتين. وهكذا سائر تعليقاتي عنه رحمه الله تعالى)( ).

مكتب الشيخ في بيروت هو مكتبة الشيخ زهير الشاويش!

كان الشيخ أبو غدة في السنوات التي لا يستطيع فيها العودة إلى سورية وإلى حلب، يذهب إلى بيروت، كما كنا كلنا نذهب إليها، وخصوصًا إخواننا السوريين، الذين حُرِّمَت عليهم العودة إلى أوطانهم، ما دام ذلك الحكم النصيري البعثي، (الأسد وأولاده وعصابته البعثية).

كان الشيخ الزرقا والأساتذة علي الطنطاوي والمبارك والأميري، يذهبون كلهم إلى بيروت، حتى من سكن في سوق الغرب أو بحمدون أو حمانا وقرنايل، حتى من ذهب إلى طرابلس وما حولها، وكان كثيرٌ من هؤلاء يلتقون في مكتب الشيخ زهير الشاويش، صاحب المكتب الإسلامي، الذي كان أولًا في سورية، ثم لما تغيرت سورية من الداخل، وأصبح كل من فيها مضيَّقًا عليهم، رحل أخونا زهير رحمه الله إلى بيروت، واختار منزله وحديقته ومكتبه في حي الحازمية، وكان يأوي إليه كل إخواننا المغضوب عليهم من النظام السوري أو من النظام المصري، وخصوصا الذين يعملون مع الكتب التي يحتاج إليها من يعمل في التأليف أو الشرح أو التحقيق، مثل الشيخ عبد الفتاح والشيخ الألباني ومثلي، وكانت مكتبة الشيخ الشاويش تضم كل الذين لا يشبعون من الكتب، مهما توسعوا فيها، ولهذا كثيرا ما اجتمعنا في مكتب الشيخ زهير، أو قل: في منزله، فمكتبه ما هو إلا جزء من منزله الكبير والجميل الواقع على الشارع الذي يوصل الراكب إلى سوق الغرب وإلى عالية وبحمدون.

لقاء الشيخين الألباني وأبي غدة في منزل الشاويش:

وقد راجعت ما كتبت في مذكراتي عن الشيخين: الألباني وأبي غدة، فوجدت هذه النواة:

(مما أذكره من أيام بيروت: أني لقيتُ فيها الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، المحدث الشهير للمرة الثانية. فقد كنتُ لقِيتُه أولَ مرة في المدينة المنورة، في حجتي الثانية في صيف سنة 1964م، وتناقشنا في قضية التصوير الفوتوغرافي، حيث أخذ عليَّ أني أبيحه، كما أباحه العلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي، مفتي الديار المصرية في عصره، وغيره من العلماء، والشيخ الألباني يحرمه تحريمًا قاطعًا، وقد ذكرت له الأحاديث الصحيحة التي استثنت من الصور "ما كان رقمًا في ثوب"( ). وبيان العلة في التصوير: أنه "مضاهاة خلق الله"( ). وهذا التصوير لا يضاهي خلق الله، بل هو خلق الله نفسه، انعكس على الورق، كما تنعكس الصورة في المرآة، ولا غرو أن يسميه أهل الخليج (عكسًا)، ويسمون المصوِّر (العكَّاس)، والصور (العُكُوس). ولكن الشيخ أصرَّ على رأيه، ولم يتزحزح قِيدَ شعرة.

واليوم ألقى الشيخ مرة أخرى، أظن ذلك كان سنة 1969م، وكان ذلك في منزل صديقنا وصديقه الشيخ زهير الشاويش، المحقق المعروف، وصاحب المكتب الإسلامي في دمشق وبيروت. وأظنه كان قد انتهى من تخريج أحاديث كتابي (الحلال والحرام في الإسلام) و(مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام). وقد حييتُه على جهوده في خدمة السُّنَّة، ولا سيما في مجال التخريج والتصحيح والتضعيف، وتحقيق المصادر، ثم شكرته على عنايته بتخريج أحاديث كتبي. وقلت له: إنني ممن يدعون إلى ضرورة إيجاد قنطرة بين أهل الفقه وأهل الحديث، ليكونا معًا في خدمة العلم ونصرة الشريعة بالحق، وقد كان بعض السلف يقولون: لو كان الأمر بأيدينا لضربنا بالجريد كل فقيه لا يشتغل بالحديث، وكل محدِّث لا يشتغل بالفقه.

وكان من تفضُّله ولطفه: أن رحب بالتعاون بينه وبيني، باعتباره محدِّثًا مشهورًا، وباعتباري من المشتغلين بالفقه، ومن الدارسين للحديث.

كما تعرفت في منزل الشيخ الشاويش على علَّامة حلب الشيخ عبد الفتاح أبي غدة، الذي سمعت عنه قبل أن أراه، بوصفه من العلماء المضلعين في الفقه والحديث واللغة، وغير ذلك من علوم الشرع واللغة.

ولكل من الشيخين مشربٌ يخالف مشربَ الآخر، فالألبانيُّ سلفيٌّ قُحٌّ متعصِّب لسلفيَّته، لا يجيز التأويل في العقيدة، ولا التمذهب في الفقه، إلى غير ذلك مما يتميز به الاتجاه السلفي، الذي يطلق عليه بعض الناس (الوهَّابي) نسبة إلى مجدد التوحيد في الجزيرة العربية الشيخ محمد بن عبد الوهاب.

وأبو غدة حنفيٌّ معروف بانتسابه إلى مذهب أبي حنيفة، أشعريٌّ معروف بانتمائه إلى مذهب أبي الحسن الأشعري، معتزٌّ بتتلمذه على علامة الأتراك الشيخ محمد زاهد الكوثري، وكيل مشيخة الإسلام في تركيَّة في عصر الخلافة، قبل أن يلغيها أتاتورك.

وقد قال لي الأخ الشيخ زهير الشاويش: إن أبا غدة أعلم تلاميذ الكوثري، وأرسخهم قدمًا.

ومن المعروف: أن الكوثريَّ عدوُّ السلفية، وعدوُّ ابنِ تيمية، وله كلامٌ شديد في ابن تيمية، تجاوز فيه الحد، ولا يوافقه عليه منصِف.

اجتمع الشيخان في منزل الشيخ زهير بمنطقة الحازمية في لبنان، أو قل: في مكتبته العامرة. وبدأ بينهما نقاشٌ خفيف حول مسألة حديثية، لكنه يُخفي وراءه مخزونًا من المرارة والحِدَّة، لم تظهر في ذلك الوقت، لكنها ظهرت واشتدت واحتدت وتطورت بعد ذلك.

كان البادئ هو الشيخ أبا غدة، إذ قال للشيخ الألباني: نرى في كتب فضيلتك بعضَ أشياء لا نعرف وجهها؟

قال الألباني: مثل ماذا؟

قال أبو غدة: مثل تعقيبك على حديث رواه البخاري بقولك: صحيح، أولَا يكفي أن يكون رواه البخاري في صحيحه الذي تلقته الأمة بالقبول، حتى تعقِّب عليه بالتصحيح؟

وهنا تدخلت أنا محاولًا أن ألتمس وجها لتصحيح الشيخ، وقلت: لعله يريد بقوله: صحيح: أن الحديث ليس من الأحاديث التي انتُقِدت على البخاري!

وهنا قال الألباني: لا، ليس هذا ما أقصده. بل هذا منهج لي، التزمته، ومضيتُ عليه: أن أعقِّبَ على كل حديث بالتصحيح أو التحسين أو التضعيف.

قال أبو غدة: تعقِّب على البخاري؟ أصح كتاب بعد كتاب الله؟ ألا تخشى أن يفهم القارئ من ذلك: أن جامع البخاري فيه الصحيح والضعيف، ولا بد من التمييز بينهما، كما في سائر الكتب التي جمعت بين الصحيح والضعيف؟

إلى هنا توقفت المناقشة على ما أذكر، ولكنها احتدمت، بل اشتعلت بعد ذلك في تقريرٍ كَتَبَه الشيخ أبو غدة على تخريج الألباني لشرح عقيدة الطحاوي، ورُفِعَ إلى جامعة الإمام محمد بن سعود.

ثم في رد الشيخ الألباني الشديد على هذا التقرير.

ثم في رد الشيخ أبي غدة على الرد.

ثم في التعليق على هذه المعركة من الشيخ الشاويش بـ(كلمات) من عنده، وقد كان هواه مع الألباني، باعتبارهما من مشرب واحد، ولا سيما قبل أن يختلفا، ويشتد بينهما الخلاف في أمور غير فكرية ولا علمية.

لقد كانت معركة بين أهل العلم بعضهم وبعض، لا لزوم لها، أثارت غُبارًا ودُخانًا زكم أنوفَ الفريقَيْن، وأصاب كلًّا منهما بأضرار وآثار، كان بالإمكان تفاديها، لو كان حسن الظن، والتسامح، والجدال بالتي هي أحسن: شعار الفريقين.

وإذا كان الله تعالى قد نهانا أن لا نجادل أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، وهم لا يؤمنون بديننا ولا بكتابنا، ولا بنبينا، فكيف بجدالنا مع أهل الإسلام، وكيف إذا كانوا من أهل العلم وحملة كتاب الله، وخدام سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!!

{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10])( ).

أثر زيارته لمركز بحوث السنة والسيرة

وقد وجهت إلى الشيخ أبي غدة الدعوة بوصفي مديرًا لمركز بحوث السنة والسيرة، لنسعد به بيننا فصلًا أو أكثر، فرحب الشيخ، ففرحنا به، كما يفرح المؤمن بلقاء أخيه المؤمن.

وقد كان لوجود الشيخ أثر في أبنائنا وبناتنا الموظفين والموظفات في المركز، فقد أعطاهم دروسًا منهجية في الحديث وعلومه، ولا سيما في تخريج الحديث، وفي اللغة والنحو، وقد أحبَّه طلابه، وانتفعوا بعلمه الغزير، وبتجربته الثرية، وبأدبه الرفيع، ولا سيما أننا لم نُوَفَّق في توظيف أساتذة للمركز، كما طلبنا وتمنَّينا، ووقف الروتين عائقًا دون ذلك، وظلَّ أخونا العالم الأزهري الجليل الشيخ الدكتور موسى شاهين لاشين، هو الأستاذ والخبير الوحيد في المركز، لم يهيئ لنا الروتين الإداري الصارم أن نُعزِّزه بثان، فضلًا عن ثالث ورابع، ولم يستطع وحده أن يفعل شيئًا ذا بال، ومن هنا انتدب لتدريس الحديث في كلية الشريعة.

استجازتي من الشيخ عبد الفتاح أبي غدة

وقد انتهزت وجود الشيخ أبو غدة في الدوحة، فطلبت منه أن يجيزني في علم الحديث، على طريقة أسلافنا في ذلك، وكنت قد أخذت إجازة قديمة من المحدِّث المغربي المعروف الشيخ أحمد بن الصدِّيق الغُماري، حين زار مصر أيام عبد الناصر حوالي سنة 1957م( ).

والحقيقة أني لم أُعْنَ من قبل بطلب الإجازات من العلماء، وإلا لكنت أخذتُ من عدد من المحدِّثين الكبار الذين لقيتهم، مثل الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا (الساعاتي)، والشيخ أحمد محمد شاكر، والشيخ حبيب الرحمن الأعظمي، وغيرهم.

ولكنِّي رأيت في إجازة الشيخ أبي غدة شرفًا وبركةً، لما أعتقده فيه من فضل وخير وصدق، وقد رفض أول الأمر، وقال: مثلُك يُجيز ولا يُجاز، أنا الذي أطلب منك.. 

وهذا من تواضعه رحمه الله، ولكني أصررت على طلبي، وقلت: أنا أتبرَّك وأتشرَّف بهذه الإجازة، فلا تحرمني منها، فكتب لي هذه الإجازة بخطه، تقبَّله الله في العلماء الربانيين الصادقين:

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى تابعيهم بإحسان من العلماء العاملين، من الفقهاء والمحدثين، وسائر أهل العلم المتقين.

أما بعد، فيقول العبد الضعيف: عبد الفتاح بن محمد أبو غدة، الحلبي منشأً ودارًا، تاب الله عليه، وغفر له ولوالديه: قد طلب مني الإجازة في الحديث الشريف وعلومه أخي وصديقي العلامة الدرَّاكة الداعية الجليل، والمحدِّث الفقيه الحاذق النبيل، الأستاذ المفضال الشيخ جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن عبد الله القَرَضاوي، الغني عن التعريف، حفظه الله تعالى ورعاه، ونفع به العباد والبلاد وأولاه، وهو صاحب التصانيف المفيدة الرائقة، والآثار النافعة الفائقة، الشاعر المفكر الإسلامي، الموهوب المحبوب، وهو غني عما طلب، بما آتاه الله تعالى من العلوم الواسعة، والمواهب العالية الساطعة، فامتنعت أول الأمر من تلبيته، إجلالًا وتقديرًا لفضله ومنزلته، متى استقت البحار من الركايا؟ ولكنه أصر واستمر، فأجبته إلى طَلِبته، فأقول:

أجزت أخي العلامة الجليل الشيخ يوسف القرضاوي، بما أجازني به شيوخي الأجلة رحماتُ الله عليهم، في بلاد الشام ومصر والحرمين الشريفين والهند وباكستان والمغرب واليمن والعراق وغيرها من البلدان، ليكون ذلك اتصالًا منه بساداتنا المحدثين الكبار، وعلمائنا الأفاضل الأخيار، والإجازةُ لمستحقيها وأهليها سنة أولئك الأئمة الأبرار.

فأجيزه بما أجازوني به، وبكل ما صح لي وعنِّي روايته وكتابته، ليتصل سنده بسندهم، ويكون في سلك قافلتهم، وتنالني دعواته الصالحة، وأوصيه ونفسي– كما أوصاني به شيوخي وأساتذتي- بتقوى الله تعالى في السر والعلن، والتوقير لأهل العلم والدين، والسلف الصالحين، وأن يكون خير معلِّم لمن يتعلم من العلم والدين، رحمةً وشفقةً، وأمانة وورعًا، وإتقانًا في التوقيع عن رب العالمين، والله ولي المتقين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

وكتبه الفقير إلى الله تعالى عبد الفتاح أبو غدة

في الدوحة من قطر يوم الثلاثاء 4 من ذي الحجة سنة 1413ه.


: الأوسمة



التالي
الاتحاد يدين ويستنكر بشدة الهجوم الذي وقع على قرية سوبانو بمالى
السابق
الشيخ الفقيه عبد الله بن زيد المحمود

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع