البحث

التفاصيل

الثورة وصياغة إنسان جديد/ أ. د. عمار طالبي

الرابط المختصر :

الثورة وصياغة إنسان جديد/ أ. د. عمار طالبي

 

يبدو أن هذه الهبة الشعبية المزلزلة للوضع السياسي يكمن فيها بعمق تغيير ثقافي أعاد للإنسان كرامته الفطرية التي تأبى الظلم والاستهانة بها، وإذا كان أمر تضليل الفرد وتغليطه ممكنا فإنه لا يمكن تضليل شعب دائما -كما يقال- ويمكن لسياسي أن يغرر بشعبه بإيديولوجية مضللة مدمرة كما فعل هتلر، فدمر ذاته، ودمر شعبه، فإن السياسة إذا أرادت أن تتكيف مع تطور وضع أمة ما وشروط طموحها من الضروري أن توضع مشكلة الثقافة، فلا يمكن للسياسة أن تقطع صلتها بالثقافة فإنها إذا تقطعت عنها تفقد وظيفة الأمة، وبعدها العالمي، فإنك إن تمارس سياسة فإنه بمعنى من المعاني أن تغير الإطار الثقافي بما يتفق مع تطورها لتمارس عبقريتها، أن تمارس السياسة فإن ذلك مرادف لممارسة الثقافة، فعلاقة السياسة بالثقافة تمر بالضرورة كما يرى مالك بن نبي بتحديد عمل الدولة مع نظام المراقبة الضرورية لجهاز التنفيذ، ونظام حماية المواطن من أن ينحرف عن هذا العمل، وتوفير التوتر أو الحماس الضروري للطاقات الاجتماعية للوصول إلى الهدف، ولا يكفي هذا كله بل يجب أيضا أن يكون هذا الهدف متكيفا مع التطور العادي للأمة، ومع الشروط الطموحة لهذا التطور، وأن يقع تكييف ذلك مع مصائر العالم، فإن السياسة المنفظة عن اتجاه العالم وروحه ليس لها أي حظ في مجال الفعالية، وفي هذا الوضع تأتي الثقافة بالضرورة. فأنت عندما تفتح مدرسة فإنك تفتح بابا للثقافة، وإبعاد اللاثقافة.

وإذا كانت المدرسة تبقى وسيلة جوهرية للثقافة وتمنح للسياسة بعدها القومي والعالمي، فإنها غير كافية فقد تخرج المدرسة أشباه مثقفين، ليست المدرسة المكان حيث تتوفر الكراسي، والسبورات التي يكتب عليها التلاميذ الحروف أو المعادلات فقط وإنما هي كما يرى مالك بن نبي: المعبد الذي يتلقى فيه الضمير وحي القيم التي تؤسس التراث الإنساني، فمحمد صلى الله عليه وسلم مع صحابته مدرسة تؤدي إلى العالم رسالة حضارة، فرسالة المدرسة الأصيلة ودلالتها أن تؤدي وظيفة ثقافية وبالتالي وظيفة سياسية، لأن السياسة تجد بعدها القومي والعالمي بفضل تفتحها، الذي يعطي الثقافة وقيمها التي اكتسبها الروح الإنساني عبر ملايين السنين فعمل الدول الذي يتماهى مع عمل الفرد، يؤدي إلى التماهي مع عمل الإنسانية نفسه. فأنت ترى ملامح التغير الاجتماعي والثقافي في هذه المسيرات الشعبية الجامعة الهادئة السلمية، فهذه الملامح تشير إلى الإقلاع إلى أفق مستقبل يفتح أبوابا للحضارة، والخروج من التخلف، ومن ذلك عدم الرضا بالاستبداد والخنوع للسيطرة والقمع. إن هذا يقظة للكرامة التي هي جوهر فطرة الإنسان الحر.

فالثورة إذا حددناها إنما هي عملية التغير والتحول ولكن هذا التغيير له أسلوبه وطبيعته فيجب أن يكون أسلوبه سريعا، ليتفق مع المعنى الثوري، وهنا يأتي الإشكال في أنه كيف يتكيف هذا التغيير مع المعنى الثوري؟ من هذا يبدأ الغموض، وتتولد المعاني المتباينة.

الثورة يجب أن تسجل في كل النفوس محتوى هذا التغيير بدقة ووضوح حتى لا تترك مكانا للغموض، فإذا بقيت الأمور في غموض فإن إمكانية الانحراف والاختراق قد تغتال هذه الثورة بمضاداتها التي تحمل شعارها، ولكن تعمل على تدميرها من داخلها، فتصبح ثورة مزيفة بدل ثورة أصيلة جذرية ضرورية، فهذه الطاقة الثورية عندما تنطلق في ظروف مناسبة فإنه لا يضمن ذلك المحافظة على اتجاهها ولا تنحرف عن غايتها.

إن نجاح ثورة أو فشلها، إنما بقدر ما تحتفظ بمحتواها أو تضيعه في الطريق، ومن هنا يجب توفر شروط ضرورية، فإنه إذا لم يتغير الإنسان لم تكن هذه الثورة ثورة إذا قصد منها تحقيق رغبات ذاتية ومصالح مؤقتة كالأجور وغيرها، فبدون نوع من الزهد والتضحية لا توجد هناك روح ثورية حقيقية ويفقد التعبير الثوري كل معناه إذا لم يتوفر هذا الشرط في نفوس الثائرين.

إن تغيير السلطة السياسية، وإعادة التنظيم الإداري والقضائي، وإعادة تنظيم الاقتصاد كلها تدخل في معنى التغيير الثوري، لكن إذا لم تتغير نفس الإنسان وفكره، فإن كل هذه التغييرات تفقد معناها ودلالتها وتصبح وهمية، يمكن رفع الدخل السنوي للفرد ورفع الأجور ولكن ليس هذا المعنى الثوري الحقيقي، فالقانون في فلسفة التاريخ: غير نفسك تغير التاريخ.

وهنا ندرك معنى قوله تعالى:{إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} في فلسفة الاجتماع والتاريخ.

 

إن الديناميكية الاجتماعية أو الحراك الاجتماعي ضرورة لضمان مسلمتين:

  1. القوت لكل فم.
  2. كل الأيدي يجب أن تعمل كما حدد ذلك مالك بن نبي****** فالثورة الحقيقية إنما هي الطاقة الاجتماعية وليست مجرد القوة المالية.

فإن استثمار الطاقة الاجتماعية هو الاستثمار الحقيقي في الإقلاع الثقافي والاقتصادي، لا تستطيع أية ثورة كبرى أن تغير الإنسان حقيقة دون قاعدة أخلاقية أو فكرية صلبة Malek bennabi Article de presses” ولا يمكن أن تزعم ثورة بهذا المعنى أنها تضمن عدالة اجتماعية لشعب دون أن تمنح هذا الشعب معنى كرامته أي تعيد إليه جوهر ذاتيته.

وقد وجدت هذه الكرامة في الثورة الفرنسية بإعلانها المشهور طقوس الإنسان وحقوق المواطن.

وتنمية الإنسان من جديد لم يكن أمرا غفلت عنه الثورة الإسلامية أو أهملت ترقيته، منذ ما يقرب من خمسة عشر قرنا، فقد جاءت آية في شأن هذه الترقية السامية فجعلته تيار روحانيا وزمانيا، الأمر الذي يستحق كل انتباه:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}، فهذه الكرامة العليا لا تتضمن حقوق الإنسان فحسب ولكن تتضمن كل واجباته، فإن “اليد العليا خير من اليد السفلى.

فهذا الحديث يلخص لنا ويبين كل أخلاقية الثورة في إعطاء الحقوق مع الحفاظ على الكرامة.

حفظ الله حركية أمتنا وصانها من كل ما يراد لها من مكايد، ومن أشباه الثائرين.

 


: الأوسمة



التالي
يارب .. مناجاة - بقلم: د. سلمان العودة
السابق
ابن عثيمين… وآثام علماء الأمة وفقهاء

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع