البحث

التفاصيل

روح القرآن - سورة الفاتحة

الدكتور علي بن حمزة العمري (فك الله اسره) 

روح القرآن - سورة الفاتحة
 ما أندى هذه السورة حتى في مسماها، إنها الفاتحة، بها يُفتتح الكتاب ..
إنها سورة "الشافية"، التي تشفي الصدور، وتريح الضمير ..
إنها سورة "الكافية"، التي تكفي لرسم طريق الإنسان في الحياة ..
إنها سورة أم الكتاب، في ظلالها يستشرف المؤمن كل خطوات العمارة، وقصص العبر، وبصائر الطريق ..
1- (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ) يبدأ الله سبحانه وتعالى كتابه العزيز بكلمة (بِسْمِ)، والباء في اللغة للاستعانة، أي: أبدأ مستعينًا بالله، ومن أول حرف يشعر المسلم أن الله أوجده لمهمة في الحياة. و"اسم" مأخوذ من السُّمو، فلا يفكر المسلم إلا في معالي الأمور، ولا يتحرك إلا فيما يذكر اسمه في علو. و(اللَّهِ) مأخوذ من الإله، وهو المعبود وحده، والسلطة العلوية لله سلطة رحمة في أولها وآخرها.
(الرَّحْمَٰنِ) الذي يعطف على خلقه، (الرَّحْمَٰنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)) [الرحمن: 1-4]. فالرحمة تقتضي المحبة، والتعليم، والتوجيه، وكمال الخلق لجميع الخلق، و (الرَّحِيمِ)  عطف خاص على المؤمنين الذين رأى الله في فعالهم مقتضى محبته، وتمام الخشوع له.
والمؤمن عندما يتقرب إلى الله بالحب والعبودية يعلم أنه - جل جلاله - يحب عباده المؤمنين، فيلين لهم، ويتسامح معهم، ويتودد ما استطاع لإرضائهم؛ لينالوا حب الله ورحمته،"ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ". [رواه الترمذي: وصححه الألباني].
والرحمة للنفس باستقامتها وطمأنينتها، والرحمة بالقريب من الأهل والأبناء تكون بالتربية الشاملة والعطف التام، والرحمة بالحيوان تكون بالرفق به، والرحمة بالأشجار بتركها تسبِّح، وتُجمِّل الحياة، والرحمة بالجماد بأن نترك الجميل في مكانه منظرًا وبهاءًا.
2- (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) هذه الآية كمال الحمد لله، بها يبدأ كل متحدثٍ كلامه؛ ولذا فهي سنة خطيب الجمعة، فمسرَّات المؤمن من تمام حمد الله. و (الْحَمْدُ) كمال الثناء على الله. (رَبِّ الْعَالَمِينَ) إن الله تعالى يود عند الثناء عليه أن تتذكر أنه (الرب) الذي ربَّاك أيها العابد وآواك وأعطاك؛ فتحس بالحب والوفاء، والذل والتسليم له. هكذا شاء أن يكون الحمد له مستغرقًا في نفسك تمام الرضا عنه.
وهو إن أعطاك، فقد أعطى العالمين (رَبِّ الْعَالَمِينَ)، فكل الخلائق تحت لطفه، وتتنعم من جميل خيره، في البر والبحر والجو، في منظر الطفل المبتسم، ومداعبة الهواء اللطيف، وعند غياب الشفق، وعند لقمة هنية بعد جوع، وعند لمسة طاهرة يوم عفاف، وعند رزق يساق فتكمل الزينة، وعند روح تشرق بالذكر وقيام السحر، فتهفو النفوس للعالم الأسنى.
3- (الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ)، تكرار الرحمة هنا لإدراك أن عطاء الله في ربوبيته هو لمسة ود لهذا العبد الضعيف، فربُّ هذا الكون سخَّر كلَّ شيء في كونه لعبده رحمة منه وفضلاً.
4- (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) إن المؤمن وهو يشعر بعظمة الله ويشكره على ما أولاه من نعم، يزيد قربه لربه وإيمانه به، فالله هو الذي يملك الأيام والأزمان؛ فيالعظمة هذا الخالقِ مالكِ (يَوْمِ الدِّينِ)، وهو يوم القيامة، الذي يُدان فيه الناس على ما فعلوا. وهنا يطمئن فؤاده، فهو تحت عدالة السماء ، وكفاية الخالق.
5- (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) لابد هنا أن يتم هذا الإعلان، فما بعد عطاء الله وتمام رحمته إلا الإقرار بعبوديته الخالصة، (إِيَّاكَ) أنت وحدك يارب، (نَعْبُدُ) نعبدك بكل شيء فينا، بجوارحنا وأحاسيسنا وأعصابنا ومخنا ولحمنا وجلدنا، كلنا نعبد، وهذا مقام العبودية الذي كان يتمثل في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في الركوع: "خَشعَ لَكَ سَمْعِي، وَبَصَرِي، وَمُخِّي، وَعَظْمِي، وَعَصَبِي". [رواه مسلم].
(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فلا نهضة ولا توفيق إلا بإعانتك وحدك يارب، ولن يكون عملٌ دائمٌ، ولا توفيق مستمر، إلا إذا أعنتَ وحدك، ومددتَ عبادك بمعونتك.
ومقتضى الاستعانة أن يتقدم العامل خطوة أو خطوات، ويطلب الاستعانة التي تقويه في الطريق، وتؤمِّنه في السبيل.
6- (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) وهذا هو أول دعاء في القرآن، وما أجلَّه. (اهْدِنَا) كلنا، اهد جوارحنا، وأفكارنا، وسلوكنا، واهدنا كلنا بوصفنا مسلمين، اهد حيراننا، واهد حالنا؛ لنقوم بأداء الرسالة.
والصراط المستقيم هو الإسلام، ومنهج الحق والعدل، الذي لا لبس فيه، فهو واضح، إنه (الصِّرَاطَ) الطريق الآمن، وهو (الْمُسْتَقِيمَ) الذي لا صعوبة في سلوكه، ولا عقبة في وروده.
إنه يدل على خير الدنيا ومنافعها، فلا خوف على دنيا من الالتزام بما يدل عليه الصراط المستقيم من أوامر وإرشادات في الطريق.
7- (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ومع أن الصراط واضح، لكن الثبات عليه للنهاية يتطلب التأكيد والإصرار على المضيِّ في الطريق نفسه.
فهو ليس طريق فرد يغير في الأفكار والنظم، بل صراط كل الجماعة المؤمنة الملتزمة بالأوامر الربانية، الذين ظهرت آثار هدايتهم في الالتزام بالعقيدة الصافية، والأخلاق الراقية، والدعوة الحكيمة الوسطية المتزنة (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ). [البقرة: 143].
و (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) هو طريق الهداية، الذي أراده الله، وهو طريق الجنة، بصحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) [المائدة: 16].
أوليست هذه النعم كافية لمن سلك الطريق؟!
(غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) إنهم قوم تجرأوا على الله، وضيعوا حدوده، ولم يشاءوا سلوك الصراط المستقيم، فعاندوا بأفكارهم وفعالهم، وتحرروا عن المنهج السوي، في ظواهرهم وبواطنهم، فغضب الله عليهم، وأشدهم اليهود، الذين لم يرحموا إنسانًا، ولا مسلكًا يرضي الخلق في الأرض.
وكذا (الضَّالِّينَ) الذين يتلاعبون بالنصوص، ويحرفون الحقائق، ويلبسونها على الناس، بغية مآرب آنية، وتوافه مادية، تتناقض في ازدواجيتها مع الحقيقة والمنهج الواضح، وأشدهم وضوحًا النصارى، الذين كتبوا بأيديهم زورًا ما يجمِّل لهم خطاياهم باسم الدين، ويتبعهم كل منحرف، يُؤَوِّل النصوص الشرعية، لمكسب عارض.
إن رسالة المسلم في الحياة ليست عبثية، بل هي رسالة ذات هدف، ومعايير، ومنهج تحرك، ومصدَّات تمنع من مسالك الغضب والضلال.


: الأوسمة



التالي
الوطن والمواطن بين الصيحة والبطحة
السابق
الإعتكاف

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع