البحث

التفاصيل

الشيخ عبد البديع صقر

الشيخ عبد البديع صقر
رجل الدعوة والتربية والثقافة
(1334 - 1407هـ = 1915 - 1986م)

في 13 ديسمبر 1986م جاءنا– ونحن في قطر- خبر وفاة أخينا الحبيب الداعية المعروف الأستاذ: عبد البديع صقر رحمه الله, غرقًا في إحدى الترع, وهو عائد في الليل من مدينة بلبيس، من بعد زيارة لها لإلقاء محاضرة, فانحرفت به السيارة وهو يقودها, فسقطت في الترعة, ووافاه الأجل.. ولم يعرف الناس بالحادث إلا بعد وقت, فتعذَّر إسعافه, وكتب الله له الشهادة بموته غريقًا, لا سيما وهو راجع من عمل دعوي في سبيل الله. فنسأل الله أن يكتبه في الشهداء والصالحين, وأن يحشره مع النبيين والصديقين.
من الرعيل الأول:
كان عبد البديع من الرعيل الأول من الإخوان, فقد عرف الدعوة منذ سنة 1936م, وكان قريبًا من الإمام حسن البنا, ويحكي عنه وقائع معلِّمة, ونودار لطيفة, وقد كتب له مقدمة لكتابه (كيف ندعو الناس؟). وقد عمل مدة معاونًا للمركز العام, أي مراقبًا للمبنى وأحواله.
تعرفي على عبد البديع:
عرفت عبد البديع أول ما عرفته وأنا طالب في الثانوي, حين قرأت رسالته اللطيفة (كيف ندعو الناس؟). فهذه الرسالة على وجازتها تتضمن نصائح داعية مجرِّب, قويِّ الملاحظة, خفيفِ الرُّوح, سهل العبارة, لا يميل إلى التعقيد أو التكلُّف, مخلص في دعوته, يدخل كلامه إلى القلوب بيسر, فأحببته قبل أن أعرفه.
في معتقل الطور
ثم قُدِّر لي أن ألتقيه في معتقل الطور, فوجدته كما توقعته, شخصية هادئة متواضعة, تراه دائمًا باسم الثغر, بشوش الوجه, فكِهًا خفيف الدم كما يقول المصريون.
وكان الإخوة الدعاة يعقدون اجتماعات, لتدارس شؤون الدعوة, وكيف يمكن تطويرها والارتقاء بها, منهم: الشيخ الغزالي, والشيخ سيد سابق, وعبد البديع صقر.. وعدد من الإخوان نسيتهم لطول الزمن, وكانوا يدعون بعض الشباب ليحضروا معهم, فحضرت معهم عِدَّة مرات.
إلى قطر:
ثم لم يقدَّر لنا أن نلتقي به بعد ذلك لقاء مباشرًا, إلا في قطر, حيث كانت قطر تريد مديرًا للمعارف التي كانت محدودة في ذلك الوقت, وكان المسؤول عنها الشيخ قاسم درويش فخرو رحمه الله, فطلب من الأستاذ محب الدين الخطيب, الكاتب والمحقِّق الإسلامي المعروف: أن يرشِّح له شابًّا نابهًا، يقوم بتوجيه المعارف في قطر, فرشَّح له الشاب النابه الكاتب الإسلامي المتألّق محمد فتحي عثمان, الذي كان قد تخرج في كلية الآداب قسم التاريخ, من جامعة القاهرة.
ولكن لظروف معينة, اعتذر الأستاذ فتحي عثمان, فرشَّح الإخوان بدله الأستاذ عبد البديع صقر.
وسافر إلى قطر, التي كانت تخطو الخطوات الأولى في سبيل نهضتها, وأظن أنها لم تكن فيها مدرسة إعدادية, فضلًا عن الثانوية, في ذلك الوقت, سنة 1954م.
ولم يكن هناك أي مدرسة للبنات, وكانت الحياة كلها بسيطة, أقرب إلى حياة القرية, أو البادية.
مع حاكم قطر الشيخ علي آل ثاني:
وكان ذلك في عهد الشيخ على بن عبد الله آل ثاني رحمه الله حاكم قطر، وكان رجلًا يحبُّ العلم والأدب, ومجلسه دومًا يضمُّ عددًا من العلماء والأدباء والشعراء, يُقرأ فيه ما تيسَّر من الكتب في هذه المجالات.
كما عُني الشيخ عليٌّ بطبع جملة وافرة من الكتب الشرعية والأدبية النافعة, وخصوصًا في الفقه الحنبلي, وفي التفسير والحديث والأدب والشعر.
وقد انضمَّ عبد البديع إلى مجلس الشيخ علي، وأضحى قريبًا منه, وكان يذهب إلى بعض البلاد ليختار المدرسين منها, وخصوصًا سوريا والأردن وفلسطين, إذ لم يكن يستطيع دخول مصر في عهد عبد الناصر.
ثم انضمَّ إليه عدد من المصريين، الذين نجوا من محنة الإخوان سنة 1954-1956م، التي اشتهرت بما فيها من قسوة وتعذيب, إلى حد سقوط بعض الأفراد شهداء تحت السياط. وكان من هؤلاء الناجين: كمال ناجي, وعز الدين إبراهيم, وعلى شحاتة, وعبد الحليم أبو شقة, وحسن المعايرجي, ومحمد الشافعي, وكلهم عملوا مع عبد البديع في المعارف في سنواته الأولى.
الإشراف على مكتبة حاكم قطر:
ثم تغيَّر الوضع في المعارف, بعد أن أصبح مسؤولًا عنها الشيخ خليفة بن حمد، ولي العهد ونائب الحاكم, وأُعفي عبد البديع ومن كان يساعده من المصريين, وكلَّف الشيخ عليٌّ حاكم قطر عبدَ البديع بأن يشرف على مكتباته في القصر وفي خارجه.
وظلَّ كذلك، حتى تنازل الشيخ علي عن منصبه إلى ابنه الشيخ أحمد بن علي, ليكون حاكم قطر. وقد قرَّب الشيخ أحمد عبد البديع منه, وكان مشرفًا على مكتبته الخاصَّة, بجوار المكتبات العامة, وكان يجالسه تقريبًا في كل مساء.
وصولي إلى قطر وتجديد صلتي بعبد البديع:
وقد وصلت إلى قطر, في السنة التالية لتولِّي الشيخ أحمد مقاليد الحكم, وجدَّدت الصلة بعبد البديع, بعد أن انقطعت منذ أيام الطُّور.
وكانت لنا لقاءات, أحيانًا في قصر الحاكم، أو في مكتبته بدعوة منه, أو في بيت عبد البديع, أو في بيتنا, أو في بيت الشيخ عبد المعز عبد الستار, حيث وصلنا معًا إلى الدوحة في سنة واحدة. كما كانت هناك صلة مودة بين أسرتي وأسرته، التي تتكوَّن من زوجته الفاضلة أم إبراهيم, وابنته الداعية الناشطة سناء, وابنيه النجيبين إبراهيم وأحمد.
وكان أخونا الأستاذ عبد البديع صقر قد اقترح عليَّ أنا والشيخ عبد المعز أن نزور الحاكم، فليس لائقًا برجال في منزلة الشيخ عبد المعز والشيخ القرضاوي أن يجيئوا إلى قطر للعمل فيها، ولا يزورون حاكمها. قلت له: أيضًا لا يليق بنا أن نقحم أنفسنا على الرجل، أو نفرض أنفسنا عليه، ولم تأتِ مناسبة معينة لذلك. قال: أنا آخذ لكم موعدًا منه. وأخذ لنا موعدًا لنزوره في مكتبته التي كان يشرف عليها الشيخ عبد البديع. وكان لقاء طيبًا، استقبلنا فيه الرجل استقبالًا حسنًا، ورحّب بنا في بلدنا الثاني، وتحدث معنا حديثًا كله مودة ومحبة. وكان غاية في الدماثة والتواضع وحسن الأدب. ثم دعا بالعشاء فتعشينا معه.
مدير دار الكتب القطرية:
وبعد ذلك ضُمَّت مكتبات حاكم قطر إلى وزارة المعارف (التربية والتعليم بعد ذلك), وأنشئت منها (دار الكتب القطرية)، وعُيِّن عبد البديع أول مدير لها. وقد ظلَّ في منصبه إلى أن غادر قطر سنة 1972م بعد الحركة التصحيحية التي قام بها الشيخ خليفة بن حمد, وَوَلي حكم البلاد بإقرار الأسرة الحاكمة, وتأييد الشعب القطري. 
وقد اعتقل بعض أتباع الشيخ أحمد فترة قليلة من الزمن، مثل الأستاذ عبد البديع صقر، ولكنه لم يؤذَ في معتقله، ولم توجه إليه أية إهانة، ثم ما لبث أن أفرج عنه. 
وقد اعتقل بعض الشباب التابعين للأستاذ عبد البديع، ولم يكن لهم في العير، ولا النفير، فكلمت قائد الشرطة في ذلك الوقت في شأنهم، فأفرج عنهم فورًا.

وانتقل الأستاذ عبد البديع إلى دولة الإمارات العربية المتحدة, حيث بقي فيها إلى أن انتقل إلى رحمة الله. 
تعاوننا في محنة عام 1965
ومن أهم الفترات التي التقينا فيها وعملنا معًا في قطر: سنة 1965م وما بعدها، حين أصاب الإخوان في مصر ما أصابهم من محنة عاتية, هانت إلى جانبها محنة 1954م على قسوتها.
وكان علينا نحن الإخوان في الخارج- وقد عافانا الله من البلاء- أن نعين أسر الألوف من المسجونين والمعتقلين, الذين فُصلوا من أعمالهم تعسُّفيًّا, وضُيِّق على أهليهم وعيالهم بكل سبيل. وقديمًا قالوا: قطعُ الأعناق, ولا قطع الأرزاق.
وكثيرًا ما كنا نجتمع في بيت عبد البديع: الشيخ عبد المعز, وكمال ناجي, وعز الدين إبراهيم, والفقير إليه تعالى, وبعض الإخوة, نجمع بعض التبرعات لتوصيلها إلى الأسرة المُمْتحنة, ولنتعاون مع الإخوة في بلاد الخليج, فيما يجب عمله, من تكثيف الدعاية المضادة لإعلام عبد الناصر الكاسح, ولا سيما في موسم الحج تلك السنة.
على كلِّ حال, كان عبد البديع رجلًا نشيطًا, يحمل الدعوة فكرة في رأسه, وعقيدة في قلبه, وسلوكًا في حياته. وكان مُحِبًّا لإخوانه, بارًّا بهم.
ندوة إخوانية في إستانبول:
وكنا قد اتفقنا أنا وعدد من الإخوان المصريين خاصة أن نلتقي في مدينة إستانبول؛ لنتدارس بعض القضايا المهمة الخاصة بالدعوة، ونقدم فيها ورقات للبحث والمناقشة. وكان الغالب على هذه القضايا الجانب الفكري وتأصيل المفاهيم، وخصوصا بعد أن دار جدل حام بين الإخوان بعد محنة 1965م داخل السجون وخارجها، وطار رذاذ منه إلى الخارج، وحدث التباس في عدد من القضايا، مثل قضية (الجاهلية)، وقضية (الحاكمية)، وقضية (التكفير).. وغيرها. وقد مرت بالجماعة ثلاث محن كبيرة في تاريخها: محنة عهد الملكية، ومحنتان أكبر منها وأقسى في عهد الثورة، كل محنة أكبر من أختها. ومن حق الجماعة، بل من واجبها، أن تراجع نفسها، وتقوِّم مناهجها على غرار ما تفعل وزارات التربية والجامعات والمؤسسات المختلفة في ضرورة مراجعة فلسفتها ومناهجها وسياساتها كل مدة من الزمن؛ لعلها تجد خللا فتسده، أو نقصًا فتكمله، أو عيبًا فتصلحه، أو خطأ فتصححه، وإن جماعة مضى على تأسيسها أربعون عاما لهي أجدر أن تراجع نفسها، وتقوم مسيرتها، طلبًا للتصحيح والتصويب والتعديل والتكميل والتحسين، والمؤمن دائما ينشد الأمثل والأحسن، كما قال تعالى في وصف المهتدين من أولي الألباب: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (الزمر: 18).
وقد شاركت في هذه الندوة بورقتين؛ إحداهما حول "التقليد والتمذهب في الفقه"، والأخرى حول "التصوف والصوفية"، ومحاولة تحرير موقفنا من هذين الأمرين. وكان المشاركون في هذه الندوة على ما أذكر: د.توفيق الشاوي، والأستاذ هارون المجددي، والأستاذ عبد البديع صقر، والشيخ أحمد العسال، ود.صلاح شاهين، وآخرين لم أعد أذكرهم لطول الزمن.
لطف معشره وفكاهته ونوادره:
وكان لطيفًا في معاشرته, في فكاهاته ونوادره, وكان يزور بعض إخوانه, وبعد فترة قليلة يقول: أعتقد أننا قد شرَّفنا! وينصرف.
وكان بيته مفتوحًا لإخوانه, وكان يدعو بعض الناس إلى الغداء عنده, ثم ينسى أن يخبّر أمَّ إبراهيم (زوجته)، فيعود إلى المنزل ليجد الضيوف داخلين معه, ولم يهيئ أهل المنزل لهم الطعام.
فيقدِّم لهم الموجود, ويعتذر لهم, قائلًا: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف:63].
وكان أحيانًا يؤخِّرهم حتى يصنع لهم ثريدًا, ويقول: الثريد هو الطعام الذي يقبل القسمة على أي عدد!
وكان يقول: على الداعية المسلم أن يفتح اعتمادًا دائمًا لتحمُّل البلاء في سبيل الله!
إنشاؤه (مدارس الإيمان) في الإمارات:
وبعد انتقاله إلى الإمارات, التقيته كثيرًا، ولا سيما في جمعية الإصلاح في دبي, حين أُدعى لإلقاء محاضرة هناك.
وقد أنشأ هناك (مدارس الإيمان) في دبي وفي الشارقة, وقد زرتها، ولمستُ فيها من نشاط وروح إسلامية سارية في جنباتها.
وظلَّ الرجل عاملًا لدينه ودعوته, حتى لقي ربه راضيًا مرضيًّا إن شاء الله. رحمه الله وغفر له, وتقبَّله في الشهداء الصالحين.


: الأوسمة



التالي
مواصلة لسلسلة النكات الدقيقة
السابق
رمضان طوق النجاة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع