البحث

التفاصيل

العلامة محمود شلتوت شيخ الأزهر

الرابط المختصر :

العلامة محمود شلتوت
شيخ الأزهر
(1310 - 1383 هـ = 1893 - 1963 م)
الشيخ محمود محمد شلتوت، الفقيه المجدد الذائع الصيت، الذي كنت أزوره في بيته في حي (الظاهر) قبل أن ينتقل إلى مصر الجديدة. وأستفيد من فقهه ونظراته التجديدية، وكنا تعودنا أن نزوره جماعة: أنا والأخ أحمد العسال، والأخ أحمد حمد، وكنا ثلاثتنا متلازمين في هذه الزيارات للمشايخ الكبار، وقد قال لنا الشيخ شلتوت مرة: أرجو أن تظلوا مترابطين، وأن تظل أخوتكم دائمة، ولا تفرق الأيام بينكم، كما حدث لإخوة قبلكم. وكنا نستغرب هذا الكلام الذي ليس له أية مقدمات، ثم أثبتت الأيام صدقة.
وكان مما نحرص عليه ثلاثتنا محاضرات (دار الحكمة) في تفسير القرآن الكريم، ذلك المورد العذب الذي ازدحم عليها القُصَّاد في تلك الفترة، وكان الذي يقوم بهذه المحاضرات أربعة من رجال العلم المشاهير في ذلك الوقت. أولهم: الفقيه المفسِّر الشهير الشيخ محمود شلتوت، الذي ذاع صيته، وانتشرت دعوته إلى التجديد، وغدت له شعبية واسعة بين الناس بأحاديثه الصباحية في إذاعة القاهرة، هو والشيخ محمد المدني، حتى إن السيدة أم كلثوم سئلت مرة عن أحب الأصوات التي تحب أن تسمعها، فقالت: صوت الشيخ محمود شلتوت.
والمفسِّر الثاني كان الفقيه المعروف الأستاذ الشيخ عبد الوهاب خلاف أستاذ الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق، وصاحب كتاب (أصول الفقه) وغيره من الكتب الشرعية.
والثالث كان الأستاذ عبد الوهاب حمودة أستاذ اللغة العربية بكلية الآداب. ونسيت الرابع.
وكان للشيخ شلتوت أحاديثه الصباحية في إذاعة القاهرة في التفسير، وكان يحضِّر درسه التفسيري تحضيرًا جيدًا، وكان له نظرات ووقفات تأملية في كتاب الله، أودعها بعد ذلك في مقالاته التي نشرها في مجلة (رسالة الإسلام)، التي كانت تصدر عن (دار التقريب) بين المذاهب في القاهرة، ثم خرجت بعد ذلك في كتاب في التفسير حول الأجزاء العشرة الأولى.
وكنت أنا وأخي أحمد العسَّال، كُلِّفنا بنقلها من المجلة لتأخذ صورة الكتاب، حتى إن الشيخ شلتوت رحمه الله- وقد كان وقتها شيخًا للأزهر- أذن لي بأن أملأ الفجوات التي أراها بقلمي وأسلوبي الخاص، ثقة منه بي.
لهذا فكرنا جديًّا أن ننتقل من الأوقاف إلى الأزهر، فهو مكاننا الطبيعي، ولا سيما أن شيخنا العلامة محمود شلتوت هو الآن شيخ الأزهر، وإمامه الأكبر، وبيننا وبينه من قديم مودة مكينة، وصلة متينة، ونعتقد أننا إذا ذهبنا إليه وكلمناه في نقلنا إلى الأزهر، فلن يتأخر عن تلبية طلبنا.
وهذا ما حدث بالفعل، فقد زرنا الشيخ في بيته، وحدثناه عن وضعنا في الأوقاف، ورغبتنا في الانتقال إلى بيتنا - بيت العائلة- بالأزهر، فرحب الشيخ بنا كل الترحيب، وقال: الأزهر داركم وموئلكم، وأنتم أبناؤه البررة، والأب يرحب بعودة أبنائه إليه، وإن اغتربوا فترة عنه. وطلب الشيخ الأكبر من صهره ومدير مكتبه الأستاذ أحمد نصار أن يكلم الأستاذ الدكتور محمد البهي المدير العام لإدارة الثقافة الإسلامية، لينقلنا إلى إدارته، فرحب بذلك وأيده. بل طلب الإسراع بإنجاز الإجراءات اللازمة التي كثيرا ما تطول بين الوزارات والمؤسسات المختلفة.
وانتقلنا إلى الأزهر لنعمل في مراقبة البحوث والثقافة، التابعة للإدارة العامة للثقافة الإسلامية، تحت إشراف مديرها العام الأستاذ الدكتور محمد البهي أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية أصول الدين وكلية اللغة العربية.
فكر الدكتور البهي فيما يسند إليّ أنا وزميلي العسال من عمل، ثم قال: لدينا عمل كبير لا ينجزه غيركما، وهو أن ننشر تراث الشيخ شلتوت على الناس في كتب كبيرة، ولا بد أن نجمع هذا التراث من مظانه المختلفة في الصحف والمجلات، وفيما لدى الشيخ الأكبر من مقالات أو مسودات. وأنتما أهل لتجميع ذلك وتنسيقه وطباعته وتصحيحه، ومطبعة الأزهر رهن إشارتكما.
وكان الشيخ شلتوت ـ رغم شهرته وذيوع صيته ـ لا يكاد يوجد له كتب يقرؤها الناس، غير كتاب شارك فيه العلامة محمد علي السايس، وهو كتاب "المقارنة بين المذاهب الفقهية" المقررة على السنة الرابعة من كلية الشريعة جامعة الأزهر.
وله كتاب آخر كان في أصله محاضرات ألقاها على طلبة الدراسات العليا بكلية الحقوق، عنوانه: "فقه الكتاب والسنة: القصاص". وله رسالة صغيرة عن "القرآن والقتال"، وأخرى عن: "القرآن والمرأة" وثالثة عن "منهج القرآن في بناء المجتمع".
وما عدا ذلك له فتاوى وبحوث في جوانب شتى، نشرها في بعض المجلات، أو بعض الصحف اليومية، أو بثتها الإذاعة المصرية، من ذلك ما كان في مجلة (الرسالة) التي كان يصدرها الأستاذ الزيات، وما كان في مجلة (الأزهر)، وما كان في مجلة (رسالة الإسلام) التي تصدر عن (دار التقريب بين المذاهب الإسلامية) بالقاهرة.
وكانت الخطوة الأولى هي التنقيب عن هذا التراث في مظانه المختلفة، وتجميعه من كل من عنده شيء منه.
وبعد أن تجمع لدينا كم كبير من تراث الشيخ، ترجح لنا أن نضعه في أربعة كتب كبيرة:
الأول: يتضمن الجانب الفقهي والأصولي أو التشريعي من كتابات الشيخ، والذي كان قد كتب فيه رسالة صغيرة الحجم، سماها: (الإسلام عقيدة وشريعة)، وفيه أفرغنا كتاب (فقه القرآن والسنة)، وبعض ما كتبه الشيخ حول هذا الجانب من العقيدة والشريعة.
والثاني: يتضمن (فتاوى الشيخ) التي أصدرها ونشرها في مناسبات مختلفة، وهي فتاوى تتسم بالتجديد والجرأة، وتجمع بين الأصالة والمعاصرة معًا. وقد أودعنا فيه كل ما عثرنا عليه من فتاوى الشيخ.
والثالث: يتضمن المقالات الدعوية والتوجيهية في شتى جوانب الدين والحياة، وهو الذي اختار له الدكتور البهي عنوان (من توجيهات الإسلام).
والرابع: يتضمن مقالات (التفسير) للقرآن، التي نشرت في مجلة (رسالة الإسلام)، وكان جمعها أسهل من غيرها؛ لأنها مكتوبة منشورة مرتبة، فلا تحتاج أكثر من التجميع.
العمل على إخراج تراث الشيخ وثقته بي:
كنت أرى أن من القربات إلى الله أن نعمل على إخراج علم الشيخ شلتوت إلى النور، لتنتفع به الأمة، وأن أي جهد نبذله فهو- إن شاء الله- في ميزاننا، وإن ضاع عند الناس، فلن يضيع عند الله. 
وعند جمع تراث الشيخ شلتوت، مع أخي أحمد العسال، كنا نراجع الشيخ في بعض الفقرات التي تكون لنا عليها ملاحظة، فيقرنا عليها، وأحيانًا يوكلني بإتمام ما أراه ناقصًا.
وأذكر أنَّا عرضنا عليه أن بعض الآيات في سورة الأنفال، لم تأخذ حقها من الشرح رغم أهميتها، فقال لي: سُدّ هذه الفجوة بما تراه. ذلك تفويض مطلق. وكان الأخ العسَّال كلما مر على هذه الفقرة ونحوها يقول: هذه قرضاوية. فأقول له: قد أصبحت بإقرار الشيخ شلتوتية!
والحقيقة أن ثقة الشيخ بي كانت غير محدودة، فكثيرًا ما أحال إليَّ بعض الأشياء المعضلة لألخصها له، مثل رأي ابن القيم في (فناء النار) وقد لخصته له من كتابيه: (شفاء العليل في القدر والحكمة والتعليل) و(حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح).
وأحيانًا يحيل عليَّ بعض الاستفتاءات لأرد عليها بقلمي. مثل فتوى إفطار الجنود في الصوم عند قتال العدو، وقد كتبتها وسلمتها للشيخ ونشرت باسمه.
زيارة المودودي للشيخ شلتوت في بيته:
وأذكر أنه عندما زار المودودي مصر، طلب مني الدكتور البهي، أن أصحبه ليزور إدارات الأزهر المختلفة، وصحبته إلى مكتب الشيخ شلتوت في مكتبه، ورحَّب به كثيرًا، وأشاد بفضله ومنزلته في تجديد الفكر الإسلامي، وكان الشيخ شلتوت قد علَّق في إحدى مقالاته على رسالة (نظرية الإسلام السياسية) للأستاذ المودودي، وقد أودعناها كتابه (من توجيهات الإسلام). ودعاه الشيخ شلتوت إلى زيارته في بيته، ومن الجميل أن الشيخ شلتوت عند زيارته له طلب منه أن يفسر له سورة الفاتحة، وحاول المودودي أن يعتذر فأصر الشيخ، وفسرها الضيف تفسيرًا مختصرًا جميلًا. وهذا من أدب العلماء الكبار بعضهم مع بعض.
رأي الشيخ شلتوت في أول كتاب لي (الحلال والحرام):
أول نسخة أهديتها من كتابي الأول (الحلال والحرام) أهديتها إلى شيخنا الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت الذي تصفح الكتاب طويلًا، ومدحه بكلمات شجعتني، وسررت بها. مع أني خالفته في بعض المسائل. وحينما أهديت نسخة منه للشيخ عبد الرحيم فودة، وقال لي: أود أن أهنئك يا شيخ يوسف على أمرين: الأول: على منهجك الرائع، وأسلوبك السلس، وترجيحاتك الموفقة في كتابك "الحلال والحرام". والثاني: مخالفتك بصراحة لرأي شيخك وشيخ الأزهر الشيخ شلتوت في مسألة فوائد البنوك الربوية ونحوها. وهذه شجاعة قلما تتوافر إلا لمثلك. قلت: منهج الشيخ شلتوت هو التحرر من الجمود والتقليد، وأظنه لن يطالبنا بالتحرر من تقليد أبي حنيفة ومالك لتقليده هو. إني أعتقد أني وإن خالفت الشيخ شلتوت في بعض آرائه، فإني على منهج شلتوت في اتباع الدليل الراجح حيث لاح للباحث، والنظر إلى القول لا إلى قائله، فإن الرجال يعرفون بالحق، ولا يعرف الحق بالرجال.
التقريب بين المذاهب الإسلامية:
كان الشيخ من أعضاء (دار التقريب بين المذاهب الإسلامية)، وألقى حديثَا دينيًّا في صبيحة افتتاح إذاعة القاهرة، دعا فيه إلى توحيد كلمة المسلمين ولم شملهم، والقضاء على الخلافات بين المذاهب، بإدخال دراسة المذاهب في الأزهر.
 وينسب إلى العلامة الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر أنه فتوى بجواز التعبد بالمذهب الجعفري. على أساس أنه - في الجانب الفقهي - قريب من مذاهب أهل السنة، إلا في أشياء قليلة، لا تخرجه عن جواز التعبد به في الجملة: في الصلاة والصيام، والزكاة والحج، والمعاملات. وهذه الفتوى لم أرها في نص مكتوب.
أنا عايشت الشيخ شلتوت عدة سنوات، وكنت من أقرب الناس إليه، وأخرجت كتب الشيخ شلتوت الأربعة الأساسية.. كتاب (الإسلام عقيدة وشريعة)، وكتاب (فتاوى الشيخ شلتوت)، والأجزاء العشرة الأولى في كتاب التفسير، وكتاب (من توجيهات الإسلام)، وكانت ضائعة في الصحف والمجلات والإذاعة، فجمعتها أنا وزميلي الأخ أحمد العسال، فتراث الشيخ شلتوت أنا أعلم الناس به، وما رأيت هذه الفتوى في حياتي قط، ولم أسمع عنها، ولا سمعته تكلم بها.
الوسطية عند الشيخ شلتوت:
والشيخ شلتوت ممّن ركّز على الوسطية وتجليتها في عصرنا: فقال في تفسير (الصراط المستقيم) في تفسير سورة الفاتحة: (إن من يتتبّع حالة العالم في عصوره المتتابعة قبل الإسلام، فإنه سيجد أن العالم كان يتردّد بين طرفين من إفراط وتفريط، وكان ذلك شأنه في كل شيء: في العقائد، في الأخلاق، في صلة الإنسان بالحياة، في علاقة الفرد بالمجتمع، في علاقة الأمم بعضها ببعض، في طريقة التشريع، إلى غير ذلك من سائر الشئون. وقد جاء الإسلام فأدرك أن العالم لا يصلح بواحدة من هاتين الخطتين، وأنهما منافيتان للفطرة الإنسانية والطبيعة البشرية، منافيتان لسنن الاجتماع التي تقضي بالوقوف عند الحدّ الوسط في كل شيء لضمان البقاء والصلاح، وعدم التعرض للانحلال والفساد، وأدرك الإسلام ذلك فجاءت شريعته وسطًا لا إفراط فيها ولا تفريط، ووقعت أحكامها ومبادئها، مهما تنوّعت وتشعبت في هذه الدائرة، التي رسمها كتاب الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143]. {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]) . وفصل الشيخ هذه الوسطية تفصيلا فريدا فبين رحمه الله أن الإسلام وسط في عقيدته بين الذين ينكرون الإله، ويزعمون أن هذه الحياة الدنيا ليست إلا وليدة المصادفات والتفاعلات المادية، وبين الذين يقولون بالتعدد، ويتخذون مع الله أندادًا، وأنه وسط في أخلاقه بين الذين يتحلّلون من كل الفضائل والذين يشتطّون في تصوّر الفضيلة والتزام طرف التشديد فيها، فقررت الأخلاق الإسلامية أن الفضيلة وسط بين رذيلتين: لا جبن ولا تهور، لا بخل ولا تبذير، لا استنكبار ولا استخذاء، لا جزع ولا استكانة. وهو في صلة الإنسان بالحياة وسط بين المادية البحته، التي لا تعرف شيئًا وراء ما يقع عليه الحسّ من طعام وشراب، ولذَّات وشهوات، وغلبة وبطش، وجمع للأموال، وتكاثر وتفاخر، والروحية البحتة التي تزهد في الحياة وتُعرض عنها إعراضًا تامًّا، فلا زواج، ولا سعي، ولا عمل، ولكن تبتّل مطلق وإهمال للأسباب!
إلى آخر ما ذكر وفصل رحمه الله.
مؤلفاته 
ترك الشيخ الإمام محمود شلتوت ثروة طائلة من الأبحاث والدراسات القيمة، ومن أهم مؤلفاته:
فقه القرآن والسُّنة، القرآن والقتال، مقارنة المذاهب، الإسلام عقيدة وشريعة، المسؤولية المدنية والجنائية في الشريعة الإسلامية، وهي الرسالة التي ألقاها الإمام في مؤتمر القانون الدولي المقارن في لاهاي، وقد نال بها عضوية جماعة كبار العلماء، الفتاوى، وهي تعبر عن رأي الإمام في كثير من المشكلات العصرية والاجتماعية،  تفسير القرآن الكريم (الأجزاء العشرة الأولى)، ويمتاز هذا التفسير بجعله السورة وحدة متكاملة مترابطة متسلسلة، كما يمتاز هذا التفسير بالتزامه تفسير القرآن بالقرآن، وتنقية تفسيره من الإسرائيليات وأمثالها من الأساطير، وقد راعى فيه القصد والاقتصار على المعاني القرآنية دون استطراد.
وفاته
عرجت روحه إلى بارئها في مساء ليلة الجمعة (ليلة الإسراء والمعراج)، وأدَّى المصلون عليه صلاة الجنازة في السابع والعشرين من شهر رجب سنة 1383هـ الموافق 13 من ديسمبر سنة 1963م.


: الأوسمة



التالي
العلامة محمد عبد الله دراز
السابق
الاتحاد يستهجن الهجمات على غزة .. وبوادر اتفاق لوقف إطلاق النار بين الطرفين

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع