البحث

التفاصيل

رحلتي مع المقاصد

تقديم

هذه الصفحات مَدِينة هي وصاحبها للأخ العزيز الأستاذ ناجي الناصر. فلولا فكرته وطلبه المتكرر الملحاح، لما كُتب لها أن تُكتب، بل لما خطر لي أن أكتبها في يوم من الأيام. فأشكره على حسن ظنه بي، ثم على متابعته وصبره على تسويفي مرة بعد مرة. وقد تعلمت من أخي الأستاذ الناصر أن المتابعة ركن أساسي من أركان الإدارة الناجحة .انظر مقدمة كتابه (الفوائد والعبر من رحلات أصحاب السير)، ص11 – 12

وقبل ذلك فإني أقدر له فكرته الفريدة الرائدة، فكرة تدوين (الفوائد والعبر من رحلات أصحاب السير)، فما أكثر ما ضاع ويضيع من الفوائد والعبر من التجارب والسير، بسبب عدم تدوينها وعدم نشرها.

حينما طلب الأستاذ الناصر أن يجعلني واحدا من أصحاب الرحلات، تعجبت من هذا الطلب؛ فأنا ليس لي رحلات! فعن أي رحلة سأكتب؟ لكن حين وضح لي المقصود بأصحاب الرحلات، وحين قرأت الجزء الأول من كتابه (الفوائد والعبر من رحلات أصحاب السير)، فهمت قصده ومرماه. وأدركت أنني فعلا صاحب رحلة يمكن تدوينها. إنها (رحلتي مع مقاصد الشريعة )

حينما فكرت في كتابة هذه النبذة عن رحلتي مع مقاصد الشريعة، كنت أعتقد أن هذه الرحلة قد بدأت مع كتاب عن (نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي)، الذي كنت أعددته وحررته في أواخر الثمانينيات من القرن الميلادي المنصرم. لكن حين أردت أن أكتب فعلا، تبين لي أن الأمر أقدم مما كنت أظن. فقد رجعَتْ بي الذاكرة شيئا فشيئا، حتى اكتشفت حقبة مبكرة من مسيرة اهتمامي بمقاصد الشريعة، حقبة يمكن تسميتها مرحلة الاهتمام اللاواعي بالمقاصد. وهذه المرحلة لها قصة وسياق زمني.

قال النبي صلى الله عليه و سلم : من تشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور.
من المنسوب إلى الإمام الشافعي : كلما أدبني الدهـ ** ر أراني نقص عقلي إذا ما ازددت علما ** زادني علما بجهلي (ديوان الإمام الشافعي ، وفيات الأعيان)
قال الإمام ابن عبد البر : من بركة العلم وآدابه الإنصاف فيه و من لم ينصف لم يفهم و لم يتفهم. (حامع بيان العلم وفضله)
قال الإمام ابن عبد البر : يقال ” إن من بركة العلم أن تضيف الشيء إلى قائله “. (جامع بيان العلم وفضله)

رحلتي مع المقاصد للدكتور أحمد الريسوني

مرحلة الاهتمام اللاواعي بالمقاصد


بداية القصة من أواخر الستينيات من القرن العشرين الميلادي. كان ذلك في مدينة القصر الكبير (شمال المغرب)، وبتحديد أدق في رحاب “الثانوية المحمدية”، وكانت تسمى يومها “المعهد المحمدي”. 

لقد كنت منذ صغري على شيء من الإيمان وحب الدين والمتدينين، وكان هذا الرصيد فطريا ساذجا غير ذي فاعلية، مثلما هو شأن معظم المغاربة، وخاصة الشباب. وقد بقيتُ على هذه الحال إلى نهاية المرحلة التعليمية الإعدادية، وكنت يومها فيما بين السادسة عشرة والسابعة عشرة من عمري. عندها ظهر الشر الذي يحرك الخير ويوقظه، وكما قال تعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} والشر الذي ظهر بيننا فأيقظنا في تلك الحقبة، يتمثل في شيوع موجة من الإلحاد ومن الثقافة الإلحادية الماركسية والوجودية. وكانت هذه الموجة مصحوبة بالتهجم والتهكم على الدين وكافة محتوياته… وقد راجت بيننا يومئذ نظرية داروين عن تطور الجنس البشري، ومقولة ماركس: “الدين أفيون الشعوب” ، وأن الدين جزء من البنية الفوقية للرجعية… 

كانت هذه الموجة الإلحادية تصدر أولا عن بعض الأساتذة اليساريين، ومن بعض الأساتذة الفرنسيين، ثم تخترق عقولا خاوية ونفسيات هشة لدى عدد من التلاميذ.

وهكذا دخلنا مع هؤلاء جميعا في سجالات محتدمة حول الدين وحول وجود الله، وحول الإيمان والإلحاد، وحول الماركسية والشيوعية، وحول الفلسفة الوجودية، المتمثلة يومئذ في مؤلفات الكاتبين الفرنسيين “جان بول سارتر” و”ألبير كامي”. وانقسم التلاميذ إلى مؤمنين وملحدين، فضلا عن كتلة اللامبالين، وإن كان أكثر هؤلاء على الإيمان الموروث. 

كنت قبل هذه المرحلة مقبلا بشغف على القراءات الأدبية الحديثة بمختلف شعبها. فلما فَتح علينا هذا التحدي الإلحادي أبوابه وألقى علينا شبهاته واتهاماته، تحولتُ بسرعة إلى القراءات الدينية والفلسفية والسياسية، لمواكبة السجال الفكري (الديني/اللاديني)، الذي اشتعل بيننا نحن التلاميذ أصدقاء الدراسة، وكان أحيانا يشتعل بيننا وبين بعض أساتذتنا المغاربة والفرنسيين.

وكان من آثار ذلك أني أجمعت أمري وبدأت أداء الصلاة، بدعوة من أحد أصدقائي المؤمنين (في ربيع سنة 1969). ثم بعد ذلك انخرطت في تأسيس بعض الجهود الدعوية الشبابية…

في هذا السياق كان علي أن أحاجج عن الدين وعقيدته وعباداته وسائر أحكامه، سواء مع المنتقدين المعترضين من أجل إبطال شبههم وصد غاراتهم، أو مع من ندعوهم للالتزام والتدين لترغيبهم وجلبهم إلى صف التدين. وفي الحالتين كان لا بد من تعليل أحكام الشرع وبيان مقاصد الشريعة وفلسفتها لمن لا يفهم منها شيئا، ولمن يتهمها ويطعن فيها.

كان علينا أن نجيب عن كثير من الأسئلة والشبهات القلقة والمحرجة التي كانت تواجهنا، من قبيل: الصيام يضعف الإنتاج؟ كثرة الصلوات وتعطيل الأعمال بسببها؟ الأضحية وإبادة الثروة الحيوانية؟ الزكاة تُرسخُ ثقافة التسول والصدقة وتمنع الثورة؟ تعدد الزوجات مضاد للكرامة والمساواة؟ عدم تحريم الرق في الإسلام؟ عقيدة القدر تعلم الاستسلام والقعود؟…

والحقيقة أن أي محاولة للإجابة على هذه التساؤلات والشبهات أو حتى التفكير فيها، إنما هي بحث عن مقاصد الشريعة في هذه القضايا.

وهنا كان لا بد لي – ولغيري من الأصدقاء الذين هم على شاكلتي – من التزود والاستمداد من بعض المؤلفات المعاصرة الميسرة، التي تُظهر محاسن الشريعة وحكمتها، وترد على مثل هذه الشبهات المثارة حولها… 

وكان من الكتب الجيدة التي لَـبَّتْ حاجتي في تلك المرحلة، كتاب (روح الدين الإسلامي) لعفيف عبد الفتاح طبارة. فكنت كثير القراءة فيه والتردد عليه؛ فهو يذكر للأحكام الشرعية مقاصدها وحِكَمها وفوائدها…

وكذلك استفدت من بعض كتب سيد قطب مثل (العدالة الاجتماعية في الإسلام) و(معركة الإسلام والرأسمالية) وبعض كتب محمد قطب مثل (شبهات حول الإسلام)

المهم أني أصبحت مضطرا لأن أبحث لكل حكم عن حِكمته، وأن أجد لكل سؤال جوابا ولكل شبهة ردا. وبهذا كنت أخوض في صميم مقاصد الشريعة وأبحث عنها من حيث لا أدري ولا أعي، بل من حيث لا أعرف حتى اسم “مقاصد الشريعة“.

رد مع اقتباس

رحلتي مع المقاصد للدكتور أحمد الريسوني

بداية التعرف العلمي على المقاصد


تخرجت من كلية الشريعة بجامعة القرويين بفاس سنة 1978، من غير أن تكون عندي أي فكرة علمية حول مقاصد الشريعة، ولكني بعد التخرج أصبحت أستاذا بالتعليم الثانوي (بثانوية الإمام مالك للتعليم الأصيل بمدينة مكناس)، فكان التلاميذ يثيرون كل الأسئلة القلقة التي تجول ببالهم وتتردد في ساحتهم. وكنت دائما متحمسا للإجابة والنقاش، بل كنت أشجعهم على تقديم أسئلتهم وآرائهم. وفي كثير من الأحيان كنت أجد شبهات وأفكارا بثها بينهم أساتذة آخرون، كأستاذ الفلسفة أو التاريخ أو اللغة الفرنسية، فأعمل على تفنيدها ونقضها. وكان هؤلاء الأساتذة يفعلون مثل ذلك مع أفكاري وأفكار أمثالي من الأساتذة “الإسلاميين”. لقد كانت الحرب سجالا بين الفريقين. وكان الاستنجاد بالمقاصد وبالتفكير المقاصدي والتعليل المقاصدي أمرا لا غنى عنه في هذه المعركة.

وكان من المواد التي أسند إلي تدريسها مادة أصول الفقه، فبدأت أُحَضر دروسي من مراجع أصولية مختلفة، وخاصة منها مؤلفات بعض المعاصرين كمحمد أبو زهرة وعبد الوهاب خلاف وعلي حسب الله ومحمد العربي اللُّوه.ووجدت هؤلاء يشيدون بالشاطبي وكتابه (الموافقات) وتميزه بالعناية فيه بمقاصد الشريعةفاقتنيت كتاب (الموافقات) وحاولت قراءته أو القراءة فيه، ولكني لم أمض فيه كثيرافقد اعترضني صعوبات بعد التوغل في الكتاب، فتوقفت. ولكني مع ذلك خرجت منه بتعرف أولي على الشاطبي وكتابه وعلى المعالم الأولى لمقاصد الشريعةكما كان من فوائد هذه المحاولة، أن بقيت نفسي عالقة بالكتاب راغبة في الرجوع إليه.
وبعد ست سنوات من التدريس بالثانوي، عدت إلى الرباط لاستكمال الدراسات العليا وهنا جاءت الخطوة العلمية الثانية على طريق المقاصد، ومع (الموافقات) بالذات. وذلك من خلال بحث تمهيدي أنجزته لنيل شهادة التخرج (شهادة الدراسات الجامعية العليا) سنة1986، وكان بعنوان (قواعد التفسير عند الإمام الشاطبي من خلال الموافقات). فحينها قرأت كتاب (الموافقات) قراءة فاحصة وكاملة، فانكشفت لي المقاصد بشكل جلي، وتشربتها وتعلقت بها، فقررت المضي في طريقها.

رد مع اقتباس

رحلتي مع المقاصد للدكتور أحمد الريسوني

التخصص في المقاصد

تخصصي في مقاصد الشريعة بدأ بفضل خطوتين متزامنتين كانتا حاسمتين في هذا الاتجاه:

الخطوة الأولى هي أنني في سنة 1986 سجلت رسالتي لنيل دبلوم الدراسات العليا (الماجستير) في المقاصد، وذلك في موضوع (نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي). وكانت بإشراف الأستاذ محمد بن البشير. وهي الرسالة التي نوقشت سنة 1989. وهذا البحث أتاح لي وفرض علي تتبعا ودراسة للمقاصد من بدايتها إلى نهايتها، مع عناية تامة بالشاطبي وتراثه

والخطوة الثانية هي أن أستاذي الجليل المفضال الدكتور محمد بن البشير حفظه الله – الذي كان آنذاك رئيسا لشعبة الدراسات الإسلامية بكلية الآداب بجامعة محمد الخامس – تنازل عن تدريسه لمادة المقاصد، التي كانت مقررة في السنة الرابعة، وأسندها إلي، رغم أني كنت يومها بدرجة “مساعد”، قبل أن أنتقل إلى درجة “أستاذ مساعد” بعد المناقشة والحصول على الماجستير. وكان العرف الجامعي يقتضي أن تسند هذه المادة – وتدريس طلاب السنة الرابعة عموما – لأستاذ بدرجة محاضر (مشارك) على الأقل.
وهكذا فمن خلال البحث في (نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي) الذي استمر ثلاث سنين، ومن خلال تدريس مادة المقاصد لعشرين سنة، كان لا بد أن يصبح تخصصي الأول، بل همي الأول، هو مقاصد الشريعة.

ومن جهة أخرى، فإن وجودي في قلب المعارك الدعوية الفكرية الإصلاحية، ظل يُحْوجني إلى التأسيس العلمي والتسلح المنهجي لخوض الصراع والتدافع، ولتجديد فكرنا وتراثنا، بما يواكب حاجاتنا وظروفنا الجديدةفمن هذه الجهة أصبحت المقاصد عندي – وما زالت – مشروعا تجديديا تأصيليا نهضويا، وليس مجرد حرفة علمية أكاديمية.

رد مع اقتباس

رحلتي مع المقاصد للدكتور أحمد الريسوني

من التخصص إلى التعمق والتوسع


التعمق والتوسع في دراسة مقاصد الشريعة جاءا نتيجةَ تطور طبيعي، وأيضا بفعل عوامل ضاغطة… 

فتدريسي للمقاصد في مستوى الإجازة (الباكلوريوس) استمر لمدة عشرين سنة بدون انقطاع. وفي عدد من السنوات دُعيت لتدريس المادة في جامعات أخرى غير جامعة محمد الخامس بالرباط التي كنت أعمل فيها. وفي سنوات لاحقة قمت بتدريس المادة في أقسام الدراسات العليا، في أكثر من جامعة كذلك.

وكان من طريقتي في التدريس أنني أعتمد محاور ثابتة تتكرر سنة بعد أخرى؛ كالتعريفات والتقسيمات، وموضوع المصلحة والمفسدة، وموضوع الضروريات الخمس، ومحاورَ أخرى أغيرها كل سنة أو سنتين. وكانت غالبا ما ترتبط بالقضايا المعاصرة كالحرية والكرامة والعدل، وكنت أعتمد فيها على بعض علماء المقاصد المعاصرين كابن عاشور وعلال الفاسي.

كما كان من طريقتي أيضا أنني أُعد محاضراتي لكل سنة بشكل جديد ومضامين متجددة، بحيث تكون عندي استدراكات وتعديلات جديدة في كل سنة، مما يجعل الدروس متطورة سنة بعد أخرى. حتى إن أحد طلابي السابقين، جاء مرة يستشيرني في أمور تتعلق ببحثه للدكتوراه، فحضر معي حصة دراسية للمقاصد، فلما خرجنا قال لي: لقد تغيرت الأمور يا أستاذ؛ نحن لم نسمع منك في هذه المادة شيئا مما سمعته هذا اليوم!

وإلى جانب التدريس بمختلف مستوياته، كنت أتولى الإشراف على بحوث الماجستير والدكتوراه في عدد من الجامعات المغربية، وكان نصيب المقاصد من هذه البحوث بالعشرات.

على أن الإشراف على الرسائل والأطروحات الجامعية لم يكن يقتصر على الطلبة المسجلين معي بصفة رسمية، بل كان – وما زال – الكثيرُ من الطلبة المسجلين مع أساتذة آخرين يـأتونني للمشاورة والمذاكرة، وبعضهم يفعلون ذلك عن بعد، بوسائل الاتصال المختلفة. وكثير من هؤلاء الباحثين كنت مشرفا فعليا لهم، ولو أنهم كانوا مسجلين مع غيري. 

هذا بالإضافة إلى أن الرسائل والأطروحات التي كانت تقدم للمناقشة بإشراف أساتذة آخرين، وهي في المقاصد أو ذات صلة بها، ، كنت أدعى للمشاركة في مناقشتها في مختلف الجامعات المغربية.

رد مع اقتباس

رحلتي مع المقاصد للدكتور أحمد الريسوني

وختاما، فخلاصة رحلتي:


أن المقاصد أصبحت روحَ فقهي وفهمي للدين ولكل شيء، وأصبحتْ منهجَ تفكيري ومنهج سلوكي وتصرفي في كل شيء. وأصبحتُ دائما أتمثل عبارة الشاطبي رحمه الله: “فإن المقاصد أرواح الأعمال” (الموافقات – 2 / 344) . وعلى منواله أقول: المقاصد أرواح النصوص الشرعية، والمقاصد أرواح الأحكام الشرعية، والمقاصد روح الشريعة. وبالجملة: رُوحُ كل شيء مقاصده. وكل شيء بلا مقاصد فهو جسد بلا روح.


: الأوسمة



التالي
مبادرة "الحل السلمي من أجل مستقبل الجزائر"
السابق
أكرم ضياء أحمد العُمري

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع