البحث

التفاصيل

كتاب : فقه الجهاد .. . الحلقة [ 61 ] : الباب السادس : جيش الجهاد الإسلامي "واجباته وآدابه ودستوره" الفصل الثاني : واجبات الجيش المسلم عند خوض المعركة (3 من 3)

الرابط المختصر :

 

• ( 4 ) وحدة الصف وعدم التنازع:

والواجب الرابع: هو وحدة الصفِّ عند المعركة، وعدم التنازع في الأمر، والوقوف جبهة متراصَّة أمام العدو. كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4[

وما ذكرناه في غزوة أُحد، دلالة على الواجب الثالث: طاعة الله ورسوله، يمكن أن نذكره هنا أيضا دلالة على عدم التنازع، فقد تنازع الرماة فيما بينهم، وتنازعوا مع أميرهم عبد الله بن جبير، وهو ما علَّق به القرآن على الغزوة في قوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} [آل عمران:152[

وقد ذكر البخاري رحمه الله الحديث في كتاب الجهاد في (باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب)، وذكر فيه الآية الكريمة: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46[

كما ذكر فيه حديث أبي موسى الأشعري، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا وأبا موسى إلى اليمن قال: "يسِّرا ولا تعسِّرا، وبشِّرا ولا تنفِّرا، وتطاوعا ولا تختلفا" [1[

وذكر العلاَّمة ابن النحاس في آداب الحرب الموجبة للنصر: (عدم التنازع الموجب للفشل والوَهْن، فإنهم إذا اجتمعوا كانوا كالحزمة من السهام، لا يُستطاع كسرها جملة، وإذا تفرقت سهل كسرها سهما سهما)[2[

يشير إلى قول الشاعر:

إن القداح إذا اجتمعن فرامـها بالكسر ذو حَنَقٍ وبطش أيَّدِ

عَزَّت فلم تُكسَر، وإن هي بُدِّدت فالكسر والتوهين للـمـتبدِّدِ [3[

وقال العلاَّمة ابن عاشور: (النهي عن التنازع يقتضي الأمر بتحصيل أسباب ذلك: بالتفاهم والتشاور، ومراجعة بعضهم بعضا، حتى يصدروا عن رأي واحد. فإن تنازعوا في شيء رجعوا إلى أمرائهم، لقوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83]، وقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]، والنهي عن التنازع أعمُّ من الأمر بالطاعة لولاة الأمور، لأنهم إذا نُهوا عن التنازع بينهم، فالتنازع مع ولي الأمر أولى بالنهي)[4[

• هدفان أساسيان : كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة :

والإسلام يسعى أبدا إلى هدفين أساسيين: كلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة.

الأول يعني: وحدة المعبود سبحانه، فهو رب الناس، ملك الناس، إله الناس.

والثاني يعني: وحدة العابدين. فلا ينبغي أن يختلفوا اختلافا تتفرَّق به كلمتهم، وتتباغض معه قلوبهم. فهذا هو الذي أضاع أهل الكتاب من قبلهم: أنهم اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم، أو جاءتهم البينات، بغيا بينهم، كما قصَّ القرآن علينا ذلك في قصة بني إسرائيل: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرائيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس:93[

إن المسلمين قد جمعتهم وحدة العقيدة، ووحدة الشريعة، ووحدة الآداب، ووحدة المفاهيم، ووحدة القِبلة، ووحدة المصير، فلا يجوز أن يفرِّقهم شيء مما يفرق الناس في الدنيا، ولا سيما في وقت الحرب، فإن من طبيعة الشدائد أن تجمع ولا تفرِّق، وأن تقرِّب ولا تباعد، وقد قال الشاعر يخاطب الحمام:

فإن يكُ الجنس يا ابن الطلح فرَّقنا .. إن المصائب يجمعن المصابين[5[!

ومما يساعد المجاهدين على اتحاد الكلمة، وعدم التنازع في الأمر: إخلاص الجميع لله، وفناؤهم في حبِّ دينهم، وإرضاء ربِّهم، بحيث ينبغي أن ينسى كلُّ منهم حظَّ نفسه، ويذكر حقَّ ربِّه، فلا يستعبده طلب مال ولا جاه، ولا يستخفُّه بريق الأضواء، ولا الجري وراء الظهور والشهرة والمحمدة، فقد انحصرت كلُّ آماله ورغباته في أن تكون كلمة الله هي العليا.

ومن شأن المخلصين لله ألا يتنازعوا، لأن كل واحد ينكر نفسه، ولا يستنكف أن يعمل جنديا تحت قيادة غيره. وفي حديث أبي هريرة، عند البخاري: "طوبى لعبد آخذ بعِنان فرسه في سبيل الله، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة"[6[

وقد عزل أمير المؤمنين عمر: القائدَ المحنَّك خالد بن الوليد عن القيادة، فعمل تحت إمرة أبي عبيدة بن الجرَّاح، راضي النفس، مطمئنَّ الضمير، ناصحا له، مشيرا عليه، مساعدا له، ولم يعترض أو يعتزل، أو يحاول التشويش أو إثارة فتنة، فقد جنَّد نفسه لنصرة الإسلام، أيًّا كان موقعه، في زمام القافلة أو في مؤخرتها[7] . فنعم القائد هو، ونعم الجندي، رضي الله عنه.

• ( 5) الصبر:

والواجب الثالث للمجاهدين عند لقاء العدو، هو: الصبر، {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46[

والصبر يعني: حبس النفس على ما تكره، تقرُّبا إلى الله. وهو خُلق أصيل من أخلاق الإسلام.

ويعتبر: نصف الإيمان[8]، فالإيمان نصف شكر، ونصف صبر. لأن الإنسان بين حالتين: نعمة يمنحها الله له، وبلاء يبتليه الله به، وواجبه في حالة النعمة: الشكر، وفي حال البلاء: الصبر. وقد روى مسلم في صحيحه، عن صهيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كلَّه خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن. إن أصابته سرَّاء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضرَّاء صبر، فكان خيرا له" [9[

وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم:5]، والصبَّار الشكور هو: المؤمن.

وإذا كان الصبر مطلوبا في كلِّ حين، وفي كلِّ حال، فهو أشدُّ ما يكون طلبا عند الأزمات والشدائد، التي تضيق فيها الصدور، وتهِن العزائم، وتتزلزل القلوب. ومنها: ساحات القتال ومواجهة الأعداء، فالصبر هنا فريضة وضرورة، فريضة يوجبها الدين، وضرورة تحتِّمها الحرب. وهو (الصبر حين البأس) الذي أثنى عليه القرآن، في بيانه لحقيقة البرِّ وأهله الصادقين، فقال: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177[

وكثيرا ما تتكافأ قوى المتقاتلين من الفريقين، ويكون أجدرهما بالنصر، أوفرهما من الصبر. بل كثيرا ما تنتصر القِلَّة على الكثرة بالصبر، وفي القرآن الكريم: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ * الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:66،65]، فانظر كيف وضع قيد (الصبر) في حال القوَّة والضعف {عِشْرُونَ صَابِرُونَ} {مِائَةٌ صَابِرَةٌ} ثم ختمها بقوله: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ{

وقد قال العرب في أمثالهم: الشجاعة صبر ساعة.

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:153-157[

أراد الله تعالى بهذه الآيات: أن يهيِّئ نفوس المؤمنين لمواجهة ما تحمله من أعباء ثقال، وأن يستعينوا عليها بخُلق الصبر، وعبادة الصلاة، وهي داخلة فيما ذكرنا من طاعة الله ورسوله، وأن يحتسبوا مَن يُستشهد منهم عند الله، ولا يقولوا عنه: ميت، بل هو حي يُرزق عند ربِّه، وإن كانوا لا يشعرون بذلك. وعليهم أن يوطِّنوا أنفسهم على الاستعداد لاستقبال أنواع من البلاء تنتظرهم: من الخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات، ولكنه هنا يبشر الصابرين الذين لا تهزمهم المصائب، ولا تزلزلهم الكوارث، بل يستقبلونها بالصبر والتسليم لأمر الله :{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، ومعنى: {إِنَّا لِلَّهِ}، أيْ نحن ملكه يتصرَّف فينا كما يشاء، ومعنى: {إِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، أنا سنجد عنده حسن الجزاء، وهو يوفِّي الصابرين أجرهم بغير حساب.

• أنواع الصبر ومراتبة :

إن الصبر في الإسلام أنواع ومراتب.

‌أ- فهناك الصبر على بلاء الله تعالى، وما ينزل بالإنسان من آفات الحياة الدنيا من فقر ومرض، وغربة، وألم وعذاب، وفقد حبيب وغير ذلك، وهذا مثل صبر أيوب عليه السلام، الذي ذكره الله في القرآن، وأثنى عليه قائلا: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44[

‌ب- وهناك الصبر عن معصية الله تعالى، فقد يقع المكلَّف تحت وطأة الإغراءات بالمعصية، وقد يزيِّنها له الشيطان، فيعتصم بالصبر، ويستعلي عليها، ويرفض الحرام، وهذا مثل صبر يوسف عليه السلام، الذي راودته {الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23]، ولما لم ينجح معه سلاح الإغراء لجأت إلى سلاح التهديد أمام النسوة قائلة: {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:32،33[

ولقد نجح يوسف في الامتحان، وصبر عن المعصية، كما صبر على المحن الأخرى، وكانت عاقبته كما قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90[

‌ج- وهناك الصبر على طاعة الله تعالى، كما قال تعالى لرسوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} [مريم:65]. وهذا هو صبر الذبيح إسماعيل، الذي قال له أبوه الخليل إبراهيم: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102]، وقد وطَّن نفسه على الصبر على تنفيذ أمر الله، ولو كان فيها تقديم رقبته ودمه لله عزَّ وجلَّ.

‌د- وهناك الصبر على مشاق الدعوة إلى الله، وما في طريقها من عقبات، وهو طريق الرسل جميعا، كما قالوا لقومهم: {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم:12].

وقد قال تعالى لخاتم رسله محمد: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الاحقاف:35[

‌ه- وهناك الصبر على مشاقِّ الجهاد، وما يستلزمه من بذل الأنفس والأموال، وتحمُّل الآلام والمشقَّات. كما قال تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177]، فالصبر في البأساء: أي في حالة الفقر والعَوَز. والضرَّاء: في حالة المرض والألم. والصبر حين البأس: في حالة الحرب[10[

وقال تعالى معقِّبا على غزوة أُحد: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142[

وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]، فزاد هنا مع البأساء في الأموال، والضرَّاء في الأبدان: الزلزلة في الأنفس والقلوب.

وقال تعالى في سورة محمد، وتُسمَّى سورة القتال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31[

وأثنى سبحانه على جماعة من المؤمنين من قبلنا، وقد قتل منهم مَن قتل في المعارك مع أعدائهم، فقال: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146].

وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تتمنَّوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، ولكن إذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف" متفق عليه [11[

• مما يعين المجاهد المسلم على الصبر :

ومما يعين المجاهد المسلم على الصبر: أن يعلم أن كلَّ ما يصيبه من جوع وظمأ وشدة وتعب وألم في سبيل الله: مرصود له في سجله عند الله، مكتوب في ميزان حسناته، لا يضيع منه مثقال ذرَّة، كما قال تعالى في شأن المجاهدين: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة:120،121[

ولقد كان الصحابة رضي الله عنهم أوفر الناس حظا من الصبر عند لقاء الأعداء، كما قال سعد بن معاذ للرسول صلى الله عليه وسلم، يوم بدر: وإنا لصُبُر في الحرب، صُدُق عند اللقاء، فلعل الله يريك منا ما تقرُّ به عينك[12] . وقد كان.

ومما يعين المؤمن على الصبر: أن يعلم أن أعداءه من أهل الباطل يصبرون على نصرة باطلهم وما يجرُّهم إليه من تبعات ومغارم، أفلا يصبر أهل الحقِّ على نصرة حقِّهم؟!

يقول الله تعالى عن المشركين وموقفهم من رسول الله: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} [الفرقان:42[

وفي موضع آخر يقول: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:6].

ومن هنا كان المطلوب من المسلم أن يصابر هؤلاء، أيْ: يغلب صبرُه صبرهم، وتهزم عزيمته عزائمهم. كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200[

• ( 6 ) الإخلاص وتجنب البطر والرياء:

والواجب السادس للمجاهدين عند المعركة: أن يصحِّحوا نيتهم، ويطهِّروا قلوبهم من كلِّ قصد دنيوي، وأن يتميَّزوا عن أعدائهم المشركين، الذين خرجوا من مكة، وجاؤوا قرب المدينة في بدر، لا من أجل إحقاق حقٍّ، ولا إبطال باطل، بل بَطَرًا ورئاء الناس وصدًّا عن سبيل الله، كما عبَّر عن ذلك زعيمهم والمتحدِّث باسمهم: أبو جهل بن هشام، حين عرض عليه بعض عقلائهم: أن يرجعوا بجيشهم، ما دامت قافلتهم قد سلمت لهم، ولم يمسسها سوء، ونجا بها أبو سفيان ومن معه، ولكنه ركبه الغرور، وسحرته القوة المادية والعسكرية التي معه، فأبى أن يعود، وقال في تحدٍّ وصلف: والله لا نرجع حتى نرد بدرًا (وكان بدر موسمًا من مواسم العرب يجتمع لهم به سوق كل عام) فننحر الجُزر، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان، ويسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدًا بعدها[13[!

فهذه هي أهدافه، التي يسعى إليها ويحرص عليها: نحر الجزور، وشرب الخمور، وعزف القيان، والظهور بمظهر القوة أمام العرب!

أما أهداف المسلمين، فيجب أن تغاير هذه الأهداف، وأن تتمحَّض لوجه الله تعالى، لنصرة دينه، وإعلاء كلمته، كما قال تعالى: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال:7،8[

• تنبيه مهم: الأمة كلها مخاطبة بما خوطب به المقاتلون:

الواجبات الستة التي ذكرناها والتي أمرت بها الآيات: يجب مراعاتها والالتزام بها فكرا وسلوكا، على المجاهدين الذين يلاقون العدو ويقاتلونه خصوصا، ولكنها - من وجه آخر - واجبة على الأمة عموما في حالة الحرب.

ذلك: أن الآيات الكريمة خاطبت المؤمنين عامة بقولها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، فالتكليف موجَّه أساسا إلى الأمة كلِّها، وإن كان الجيش والمقاتلون عليهم العبء الأكبر.

فالأمة جمعاء مطالبة أيام المواجهة مع الأعداء: أن تثبت ولا تتزعزع، وأن تتضرَّع إلى الله بالذكر والدعاء، ولا يكون شعبها ممَّن أغفل الله قلبه عن ذكره واتَّبع هواه، وكان أمره فُرُطا ... وأن تطيع الله ورسوله، وتبتعد عن المعاصي والمنكرات، فإن المعاصي أخوف عليهم من أسلحة عدوهم ... وأن تعتصم الأمة بحبل الله جميعا ولا تتفرَّق، كما تفرَّق الذين من قبلها، بل الواجب أن تنسى خلافاتها، ولا يعلو صوت على صوت المعركة، فليس وراء التنازع إلا الفشل وذهاب الريح، وتمكن الأعداء ... وعلى الأمة أن تصبر على متطلَّبات الحرب، وأن جرَّ ذلك عليها من الآلام والمتاعب وضيق المعيشة: ما جرَّ، فقد قال تعالى: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104[

على الأمة كلِّها: أن تتميَّز عن أعدائها بتجريد النيَّات لله، وتطهير القلوب من أدران الرياء والبطر، وسائر معاصي القلوب التي هي أشدُّ خطرا من معاصي الجوارح. فإن الله تعالى إنما ينزل نصره على قدر ما في القلوب من نقاء وإخلاص، كما قال تعالى: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح:18[

يجب على الأمة المسلمة في حالة الحرب والجهاد: أن تتميَّز بحياة الطهارة لا التلوُّث، وحياة الاستقامة لا الانحراف، وحياة الجدَِ لا الهزل، وأن تعلو إلى مستوى يليق بالجهاد، ويستوجب النصرة، فإنما النصر للمؤمنين، وبالمؤمنين.

ويتأكد هذا المعنى في عصرنا بجلاء ووضوح، فلم تعُد الحرب مقصورة على المقاتلين، كما كان في الأزمنة السالفة. بل يشترك المجتمع كلُّه في الحرب، بصور شتَّى، بعضهم بطريق مباشر، وبعضهم بطريق غير مباشر. بعضهم يعمل في الميدان، وبعضهم يعمل في المصنع، وبعضهم يعمل في المخبز، يعِدُّ الخبز للجيش، وبعضهم يعمل لتوفير المياه لهم، أو تهيئة الكساء والغطاء لهم، وبعضهم يحافظ على الجبهة الداخلية أن تتفكَّك أو تنهار، وبعضهم تتأثَّر بالحرب صناعته، وبعضهم تتأثَّر زراعته، وبعضهم تتأثَّر تجارته، وبعضهم تتأثَّر حِرفته، وقد يقاطَع المجتمع اقتصاديا من قِبَل أعدائه وحلفائهم، فيتأثَّر اقتصاده كلُّه من جرَّاء ذلك، كما هو مشاهد في عصرنا.

وبهذا تنعكس آثار الحرب على المجتمع كلِّه بنسب متفاوتة، وتفرض عليه أعباء شتَّى، يجب أن يتحمَّلها صابرا محتسبا.

ويذكر الناس في الحرب العالمية الثانية قول تشرشل رئيس وزراء بريطانيا، وأحد قادة الحرب يومئذ لشعبه: إنما أعدكم بالعرق والدمع والدم، حتى تنتصروا! وإنما قال ذلك ليعدَّهم نفسيا لتحمُّل تبعات الحرب، وما أثقلها! فالمؤمنون أولى بتحمُّل نتائج الحرب من غيرهم، لأن حربهم أبدا في سبيل الله.

{الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76[


: الأوسمة



السابق
تفكيك منظومات الاستبداد (٦) : الاستبداد كثقافة مجتمع

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع