البحث

التفاصيل

كتاب : فقه الجهاد . الحلقة [ 60 ] : الباب السادس : جيش الجهاد الإسلامي "واجباته وآدابه ودستوره" الفصل الثاني : واجبات الجيش المسلم عند خوض المعركة (2 من 3)

 

• ( 2) ذكر الله:

والواجب الثاني للمجاهدين: هو ذكر الله، بل ذكر الله كثيرا. إن ذكر الله تعالى في هذا الوقت: عُدَّة رُوحية للمجاهدين، وحصن حصين يلوذ به المقاتلون، فيجدون فيه الأمن عند الخوف، والثبات عند البأس، واليقين عند الحَيرة، والأمل عند اليأس. ذلك أن (الله) هو صاحب القوة التي لا تُغلب، والقدرة التي لا تعجِز، والجند الذي لا يُهزم، هو على كل شيء قدير، وهو بكل شيء عليم، وهو الفعَّال لما يريد، وهو مالك الخزائن التي لا تنفد، والذي يعزُّ مَن يشاء، ويذلُّ مَن يشاء، ويؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممَّن يشاء، وإن النصر لا يأتي إلا من عند الله، كما قال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:126]، وهو الذي وعد أن ينصر من ينصره {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40[

كما أعلن القرآن: أن مَن نصره الله تعالى فلن يغلبه غالب، ولن يهزمه عدو، قال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:160[

هذا الإله العظيم يجب على المجاهدين أن يذكروه عند لقائهم، لإيمانهم أنه معهم، يسمعهم ويراهم، وأنه لن يتخلَّى عنهم، وأنه المدافع عنهم، والناصر لهم، وأنه وليهم ومولاهم، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [غافر:51]، {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:257]، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11[

وإذا كان فارس مغوار مثل عنترة العبسي في الجاهلية يقول مخاطبا حبيبته:

ولقد ذكرتُكِ والرماحُ نواهل ... مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها ... لمعت كبارق ثغـركِ المتبـسـم

فكان ذكر حبيبة قلبه هو الذي يعينه في هذا الموقف الرهيب، فإن المؤمن لا يذكر هنا إلا ربَّه الذي خلقه فسواه، والذي منحه فأعطاه، والذي وفَّقه وهداه، والذي رزقه وكفاه، والذي لا يقدر على نصره سواه. ولا سيما أن قتال المؤمن إذا قاتل إنما يكون أبدا في سبيل الله وحده، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:74]، فغاية القتال لدى المسلم ليست غاية مادية، ولا عنصرية، ليست اقتناص دنيا، أو كسب شهرة، أو إعلاء جنس على جنس، أو إقليم على إقليم، أو طبقة على طبقة. بل يقاتل المسلم لهدف واحد: أن تكون كلمة الله هي العليا.

• ذكر الله تعالى بالقلب وباللسان :

وذكر الله يكون بالقلب، ويكون باللسان. بل الأصل في الذكر أن يكون بالقلب، لأن الذكر في اللغة: مقابل النسيان، كما قال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24]. والنسيان من صفات القلوب لا الألسنة.

فالمطلوب من كلِّ مؤمن: ألا ينسى ربه في حال من الأحوال، فهو يذكر قدرته تعالى عند العجز، ويذكر قوته عند الضعف، ويذكر علمه عند الجهل، وأنه القادر على أن يُطعمه من الجوع، وأن يُؤمِّنه من الخوف، وأن ينجِّيه من كلِّ كرب، ويجعل له مخرجا من كلِّ مأزِق.

يذكر المؤمن ربه عند ضعفه فيشعر بالقوة، ويذكره عند حَيرته فيشعر بالطمأنينة، وعند أزمته فيحسُّ بالسكينة، {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28[

يحذر المؤمن أن يكون من الغافلين عن الله، الذين لا يخطر الله ببالهم، كالذين قال الله فيهم: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19[

كما يحذر المؤمن أن يكون من المنافقين الذين قال الله فيهم: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142]، فلا يكفي المؤمن أن يذكر الله ذكرا عارضا، أو في بعض الأحوال، إنما المطلوب من المؤمنين أبدا: أن يذكروا الله ذكرا كثيرا، أي في كلِّ حين، وعلى كلِّ حال، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الأحزاب:41،42[

• ذكر الله باللسان نوعان : ثناء ودعاء :

وذكر الله باللسان أيضا مطلوب، وهو نوعان: ذكر ثناء، وذكر دعاء. كما في الفاتحة، كلُّها ذكر لله، فأولها ثناء، وآخرها دعاء.

فذكر الثناء مثل قوله: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وذكر الدعاء، هو الذي يتضمَّن طلبا من الله تعالى، مثل دعاء أصحاب طالوت: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:250[

ومثل دعاء الرِّبِّيين الذين قاتلوا مع الأنبياء: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:147[

ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم منزل الكتاب، ومجريَ السحاب، وهازم الأحزاب: اهزمهم وانصرنا عليهم"[1[

وقال البَرَاء بن عازب: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، ينقل التراب (أي في حفر الخندق) وقد وارى التراب بياض بطنه، وهو يقول:

"اللهمَّ لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا

فـأنزلن السكينة عـلينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا

إن الأُلـى قد بغَوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا" [2[

فهو هنا ينشد شعر عبد الله بن رواحة.

ومن الذكر: ما يكون في صورة ثناء، وهو يتضمَّن دعاء، كما في ذكر أيوب عليه السلام: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]، فهو هنا لم يسأل شيئا، ولكن بيَّن حاله، وما أصابه، وأثنى على ربه بما هو أهله {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}. ولكن في هذا الثناء على الله دعاء بلسان الحال، وربما كان أبلغ من لسان المقال. ولهذا قال تعالى عقب ذلك: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:84[

ومثل ذلك: ذكر ذي النون (يونس) عليه السلام، حين التقمه الحوت في البحر: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]، فهذه الكلمات الموجزة تضمَّنت ثلاثة عناصر:

1. التوحيد في قوله: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ{

2. والتنزيه في قوله: {سُبْحَانَكَ}، أي أنزِّهك عن كلِّ نقص وظلم.

3. والاعتراف بالذنب، وهو رُوح التوبة، في قوله: {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ{

وهذه الكلمات تتضمَّن دعاء مبطَّنا واستغاثة بربه عند الكربة، وقد نادى في الظلمات، كما سمَّاها القرآن: ظلمة البحر، وظلمة الليل، وظلمة بطن الحوت. والدعاء في هذه الحالة يكون خالصا لله تعالى، لأنه دعاء المضطر، والله سبحانه يجيب المضطر إذا دعاه، كما قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ...} [النمل:62]، جعله أمرا ثابتا من أوصاف الله تعالى، مثل خلق السماوات والأرض، وإنزال الماء من السماء، وجَعلِ الأرض قرارا، وجَعلِ خلالها أنهارا، إلى غير ذلك.

فلا عجب أن يستجيب الله لذي النون، كما قال تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:88[

وجاء في الحديث: "دعوة أخي ذي النون ما دعا بها مكروب إلا فرَّج الله عنه: {لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]"[3[

وقد ذكرنا فيما سبق في متطلَّبات الحرب والقتال عند المسلمين: الاستعانة بسلاح الدعاء، لما له من أثر رُوحي لا يعرف قيمته إلا المؤمنون.

وهو عند اللقاء والمواجهة أوجب، حيث يكون المقاتل أفقر إلى عون الله، ويكون القلب أشدُّ خلوصا لله، ويدعوه دعاء المضطر المحتاج إلى مولاه، فهو أهل أن يُعان ويُستجاب له.

• أفضل الأذكار :

هذا وأفضل الأذكار: ما جاء في القرآن الكريم على ألسنة الأنبياء والمؤمنين، كما في أدعية إبراهيم وموسى وغيرهم. أو تعليما من الله تعالى كما في خواتيم سورة البقرة. وبعد ذلك: ما جاء في صحيح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ويحسُن أن يُوزَع على الجنود والمقاتلين: هذه الأذكار في مطويَّات صغيرة مكتوبة، أو تُذاع عليهم من إذاعات محلية موجَّهة.

• الذكر بين الإخفاء والجهر في القتال :

وقال الإمام القرطبي: (حكم هذا الذكر: أن يكون خفيًّا؛ لأن رفع الصوت في موضع القتال رديء ومكروه إذا كان الذاكر واحدا. وإذا كان من الجميع عند الحملة فحسن، لأنه يفتُّ في أعضاد العدو)[4] اهـ.

وروى أبو موسى الأشعري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره الصوت عند القتال [5]. وهذا في غير الذكر الجماعي الذي يراد به إرعاب العدو بالتهليل والتكبير. فقد كانت صيحة (الله أكبر) في المعارك تزلزل قلوب المشركين، وتشدُّ من عزائم المؤمنين. كما صحَّ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في غزوة خيبر: "الله أكبر، خربت خيبر. إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذَرين"[6] . ومثل ما ذكرناه من قبل:

"فـأنزلن السكينة عـلينا .. وثبت الأقدام إن لاقينا"

فهو دعاء في صورة نشيد جماعي بالصيغة الجهرية، ليقوِّي قلوب المؤمنين، ويزلزل المشركين.

• ( 3 ) طاعة الله ورسوله:

والواجب الثالث: طاعة الله ورسوله، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال:1]. وطاعة الله تعني: امتثال أوامره، واجتناب نواهيه، بإقامة العبادات، وعمل الصالحات، والتزام أحكام الشرع في المعاملات، والوقوف عند حدود الله تعالى، بإحلال ما أحلَّ، وتحريم ما حرَّم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، وتغيير المنكر إذا وقع باليد أو باللسان أو بالقلب، حسب الاستطاعة، واجتناب أذى الخلق وظلمهم، بل الواجب بذل العون لهم، وإسداء المعروف إليهم، وكفُّ الشرِّ عنهم.

وطاعة الرسول إنما وجبت لأنه مبلِّغ عن الله تعالى، ولا ينطق عن هواه، كما قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3،4]، لهذا اعتبرت طاعته من طاعة الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} [النساء:80[

قال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور:54]، وقال: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور:56[

وطاعة الله ورسوله مطلوبة وواجبة في كلِّ حين، وفي كلِّ حال، ولكنها أوجب ما تكون في هذه الحال، وفي هذا الموقف، حين يواجه المسلمون أعداءهم، ويتلاقى الفريقان. فتكون الطاعة هنا مددا للجندي المسلم، ضدَّ أعدائه المعرضين عن الله، الناسين له. ولذا أمر القرآن بالمحافظة على الصلوات في كلِّ الأحوال، وخصوصا في حالة الحرب. يقول تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة:238،239]. فقد أمر بالمحافظة على الصلوات والقنوت لله عزَّ وجلَّ، ثم خصَّ حالة الخوف إذا قامت الحرب بالذكر، فأمر بالصلاة رجالا، أي راجلين مشاة، أو ركبانا على الخيل قديما، أو على الدبابة أو المصفَّحة أو الطائرة أو غيرها من آليات الحرب المعاصرة. فيجب على المسلم ألا يهمل الصلاة وهو في هذه الحال، بل يصلي كيف أمكنه الصلاة، ماشيا أو راكبا، بركوع وسجود، أو بالإيماء والإشارة ... إلى جهة القبلة إن أمكنه، أو إلى أي جهة كانت، {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ} [البقرة:115]، بوضوء وطهارة كاملة إن تيسَّر ذلك، أو بتيمُّم يقوم مقام الوضوء، حتى مَن لم يتمكَّن من التيمُّم صلى صلاة فاقد الطهورين، وفي القرآن الكريم: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، وفي الحديث: "إذا أمرتُكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"[7] . متفق عليه.

وقد ذكرنا من قبل: كيف عني القرآن الكريم بذكر كيفية الصلاة في حالة الحرب، المعروفة في الفقه الإسلامي باسم (صلاة الخوف) بحيث تؤدى جماعة، وخلف إمام واحد، وفي هذا يقول تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} [النساء:102].

ومن أهمِّ الوصايا في هذا الجانب: وصية عمر بن الخطاب أو عمر بن عبد العزيز إلى قائد جيوش المسلمين، وفيها: أما بعد، فإني آمرك ومَن معك من الأجناد بتقوى الله على كلِّ حال، فإن تقوى الله أفضل العُدَّة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب. وآمرك ومَن معك أن تكونوا أشدَّ احتراسا من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوفُ عليهم من عدوهم. وإنما يُنصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عُدَّتنا كعُدَّتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا نُنصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا. واعلموا أن عليكم في مسيركم حَفَظَة من الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا: إن عدونا شرُّ منا، فلن يُسَلَّط علينا [وإن أسأنا]، فرُبَّ قوم قد سُلِّط عليهم شرٌّ منهم، كما سُلِّط على بني إسرائيل - لما عملوا بمساخط الله - كُفَّار المجوس، {فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً} [الإسراء:5]. واسألوا الله العون على أنفسكم، كما تسألونه النصر على عدوكم. أسأل الله ذلك لنا ولكم[8[

• طاعة القائد المسلم :

وتتضمَّن طاعة رسول الله معنى مهمًّا يُحتاج إليه في فقه الجهاد، وهو: أن الرسول كان قائد المعركة، فطاعته فيها معنى (طاعة القائد). وهذا أمر ضروري في الحروب: الطاعة والنظام. ولذا قال عليه الصلاة والسلام: "مَن أطاعني فقد أطاع الله، ومَن عصاني فقد عصى الله، ومَن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني"[9[

وقال فيما رواه ابن عمر: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحبَّ وكره ما لم يُؤمر بمعصية، فإن أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة"[10[

• سبب محنة المسلمين في أحد :

وقد وقع للمسلمين في غزوة أُحد درس مهم، حين نظَّم النبي الصفوف، ووزَّع الأدوار، وجعل الرماة على الجبل، وأمرهم ألا يغادروا أماكنهم بحال، حتى يأتيهم أمر منه، ولكنهم خالفوا، فوقعت البلوى، وأُصيب المسلمون بما أُصيبوا به، ونزل في ذلك القرآن: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران:152[

عن البَرَاء بن عازب رضي الله عنهما يحدِّث قال: جعل النبي صلى اللهم عليه وسلم على الرجَّالة يوم أُحد - روى البخاري وكانوا خمسين رجلا - عبد الله بن جبير، فقال: "إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أُرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم، فلا تبرحوا حتى أُرسل إليكم".

فهزموهم. قال: فأنا والله رأيتُ النساء يَشْتَدِدْن (يسرعن)، قد بدت خلاخلهنَّ وأَسْوُقهنَّ رافعات ثيابهنَّ، فقال أصحاب عبد الله بن جبير: الغنيمة! أي قوم، الغنيمة! ظهر أصحابكم، فما تنتظرون؟ فقال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى اللهم عليه وسلم؟ قالوا: والله لنأتينَّ الناس، فلنصيبنَّ من الغنيمة. فلما أتوهم صرفت وجوههم، فأقبلوا منهزمين، فذاك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم. فلم يبقَ مع النبي صلى اللهم عليه وسلم غير اثني عشر رجلا، فأصابوا منا سبعين، وكان النبي صلى اللهم عليه وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة: سبعين أسيرا وسبعين قتيلا.

فقال أبو سفيان: أفي القوم محمد؟ ثلاث مرات، فنهاهم النبي صلى اللهم عليه وسلم أن يجيبوه. ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ ثلاث مرات. ثم قال: أفي القوم ابن الخطاب؟ ثلاث مرات. ثم رجع إلى أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا، فما ملك عمر نفسه، فقال: كذبتَ والله، يا عدو الله! إن الذين عددتَ لأحياء كلُّهم، وقد بقي لك ما يسوءك! قال: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، إنكم ستجدون في القوم مُثلة لم آمر بها ولم تسؤني.

ثم أخذ يرتجز: أُعلُ هُبَل، أُعلُ هُبَل! قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا تجيبونه؟". قالوا: يا رسول الله، ما نقول؟ قال: قولوا: "الله أعلى وأجلُّ"!

قال: إن لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم. فقال النبي صلى اللهم عليه وسلم: "ألا تجيبونه؟". قال: قالوا: يا رسول الله، ما نقول؟ قال: "قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم"[11!

كانت محنة المسلمين في أُحد، وتقديم سبعين شهيدا من أبطالهم في المعركة: نتيجة منطقية لعصيان أمر قائدهم، واستجابتهم لشهوات أنفسهم في الحرص على عَرَض من الدنيا. ولهذا نزل القرآن يواسيهم في هذه المحنة من ناحية، ويردُّها إلى أسبابها التي أدَّت إليها، ويحمِّلهم مسؤوليتها من ناحية أخرى. فقال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165[

ومعنى {أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا}: أيْ قتلتم في بدر سبعين من المشركين، وأسرتم سبعين، في حين قُتل منكم في هذه الغزوة سبعون.

• أهمية مشاورة القائد للجنود :

وليس معنى طاعة القيادة: أن يستبدَّ القائد بالأمر كلِّه، ولا يشاور من معه، وإذا شاورهم يضرب بآرائهم عُرض الحائط، فهذا خلاف هَدْي رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي كان يشاور أصحابه في كلِّ أموره، وكثيرا ما كان ينزل عن رأيه إلى رأيهم.

فقد شاور في غزوة بدر قبل الغزوة حتى اطمأنَّ إلى موقف الأنصار، وهم جمهرة الناس، وشاور في أثناء الغزو، ونزل على رأي الحُبَاب بن المنذر، وشاور بعد المعركة، في شأن الأُسارى، واختلف عليه أبو بكر وعمر، فقال: "لو اتفقتما على رأي ما خالفتكما"[12] . ورجَّح رأي أبي بكر، في أخذ الفداء.

وكذلك شاور في غزوة أُحد، فلما رأى الأكثرية - وجلُّهم من الشباب - تُؤثر الخروج للقاء العدو، ولا تنتظره حتى يدخل المدينة فيحاربه أهلها كلُّهم، حتى النساء والصبيان، فنزل عند رغبتهم، ودخل ليلبس عُدَّة الحرب، وكأنهم لاموا أنفسهم، أن أنزلوا رسول الله على رأيهم، فقالوا: لعلنا استكرهناك، يا رسول الله! إن شئتَ بقيتَ في المدينة.

فقال: "ما كان لنبي لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه"[13] ، وبهذا علمهم ضرورة الحزم، وعدم التردُّد، وكثرة القيل والقال.

 


: الأوسمة



التالي
فرع الاتحاد بفلسطين يقيم ملتقى دعوي يستهدف سكان مخيم النصيرات
السابق
الدين للجميع .. فالدعوة للجميع

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع