البحث

التفاصيل

كتاب : فقه الجهاد ..الحلقة [ 53 ] : الباب الخامس : منزلة الجهاد ،وخطر القعود عنه، وإعداد الأمة له الفصل السادس : توفير الموارد المالية اللازمة للجهاد

الرابط المختصر :

 

• تطلب الجهاد لنفقات هائلة :

ومما يتمِّم موضوع إعداد الأمة للجهاد: إعداد الموارد المالية اللازمة لنفقات الجهاد والمجاهدين.

فمما لا ريب فيه، ولا خلاف عليه: أن الجهاد - بمعنى القتال - يتطلَّب نفقات هائلة، يعرفها الخبراء في هذا الفنِّ، ولا سيما في عصرنا؛ من شراء الأسلحة بأنواعها وألوانها.

ولم تعُد الأسلحة في عصرنا: سيفا ورمحا وقوسا ونبلا، ولم تعُد المعدات فرسا تحتاج إلى علف محدود الكُلفة، ولم تعُد مجرد سفينة شراعية في البحر تصنع من الخشب، حتى المنجنيق لم يكن شيئا باهظ التكاليف كأسلحة اليوم.

إن القوَّات المسلحة اليوم تحتاج إلى أسلحة برية، وأسلحة بحرية، وأسلحة جوية، والأسلحة البرية فيها: الدبابات والمجنزرات والمصفحات وغيرها.

والأسلحة البحرية: فيها السفن والبوارج والزوارق الحربية، وحاملات الطائرات العملاقة، والغواصات التي تعمل تحت الماء، وغيرها.

والأسلحة الجوية، فيها الطائرات المقاتلة، والمروحيات وقاذفات الصواريخ، وحاملات الرؤوس النووية، والطائرات من غير طيار ، وغيرها . ومن ذلك: الأقمار الصناعية وسفن الفضاء، إلى المروحيات الصغيرة.

والأسلحة لم تعُد مقصورة على البنادق والرشاشات بصنوفها المختلفة، بل غدا هناك قنابل مختلفة الأنواع والأحجام والأهداف والقدرات، ومنها: القنابل الصاروخية والنووية والهيدروجينية، وغيرها مما يسمُّونه (أسلحة الدمار الشامل)، وقد أمسى مملوكا للأقوياء، محظورا على الضعفاء. وهناك القنابل الذكية، والقنابل العنقودية.

ثم الإنفاق على الجيوش والمقاتلين يستلزم نفقات يومية غير قليلة ولا يسيرة؛ نفقات المأكل والمشرب والملبس والمسكن والفراش والغطاء والإضاءة والتدفئة أو التبريد، والترفيه المباح، ونفقات العلاج والدواء، إلى نفقات التدريب المستمر، وغيرها.

ثم تأمين الجبهة الداخلية وتقويتها، لتظلَّ سندا ومددا للجبهة العسكرية.

فمن أين مصادر التمويل لهذا كله؟

ونبادر فنقول: إن الجيش المسلم المجاهد، أو القوَّات المسلَّحة المسلمة تتكون من أصناف أو مستويات ثلاثة:

1- الجند العاملون، وهم عمدة الجيش وأساسه، وهم المتفرِّغون للجندية.

2- جند الاحتياط، وهم الذين يُدعَون عند الحاجة فيلبُّون، بعد أن استوفوا حظَّهم من التدريب والإعداد العسكري، وقضوا مدَّتهم ثم خرجوا من الجيش.

3- الجند المتطوِّعون، وهم المدرَّبون في العادة، المستعدُّون للَّحاق بالجيش العامل، إذا هُدِّدت الأمة، أو اعتدى على حرماتها معتدٍ أثيم.

فالصنفان الأولان يمولان من ميزانية الدولة، وأما الصنف الثالث فهو يموِّل نفسه، أو يموِّله أناس خيِّرون. وقد يتطوَّع الشخص بنفسه، ولكنه يحتاج إلى التسليح وإلى النفقة الشخصية. ولذا كان لا بد من حديث عن (الموارد المالية) للجهاد، أيا كان القائمون به:

• مصادر تمويل الجهاد:

وفي ضوء الفقه الإسلامي: نجد مصادر عدَّة لتمويل جيش الجهاد، والقوَّات المسلَّحة، من جملة موارد مالية:

• ( 1 ) موارد الدولة وبيت المال:

فمنها: موارد الدولة من أملاكها، مثل مورد النفط في عصرنا، وما أشبهه من المعادن التي تملكها الدولة، وتدرُّ الملايين، بل البلايين.

ومنها: موارد بيت المال العام من الفيء والخراج وخُمس الغنيمة، وكانت في العصور الإسلامية هي المصدر الأساسي لتمويل الجيوش الإسلامية، وتهيئة (العطاء) الثابت للجنود. والعطاء بمثابة (الراتب) في عصرنا، وكان يُعطَى كلَّ سنة، والأولى أن يُعطَى الآن كلَّ شهر، لحاجات الناس العاجلة، والمتجدِّدة باستمرار.

وقد رأينا سيدنا عمر يرفض الاستجابة للصحابة الذين طلبوا منه توزيع الأرض المفتوحة على المقاتلين، ورأى - ومعه علي ومعاذ - أن تبقى الأرض وقفا على الأجيال الإسلامية، وينفق من رَيعها على أعطيات الجند الذي يذود عن بيضة الإسلام. فكان ينظر إلى المستقبل، ويقول: أريد أمرا يَسَع أول الناس وآخرهم [1].

وفي عصرنا أصبحت نفقات الجيوش على ميزانية الدولة العامة ، فقد باتت نفقات هائلة لا يمكن تركها لموارد أخرى غير مضمونة دائما ، وهو اعتبار يؤيده النظر الشرعي .

• ( 2 ) الزكاة من مصرف (في سبيل الله):

ومنها: مصرف (في سبيل الله) من مصارف الزكاة، فجمهور الفقهاء على أن المقصود به الجهاد.

قال العلاَّمة ابن النحاس في (مشارع الأشواق)

(يدفع إلى الغازي من الزكاة - وإن كان غنيا - قدر حاجته لنفقة وكسوة، راجعا وذاهبا ومقيما هناك، وإن طال مُقامه، ويدفع إليه فرس - إن كان يقاتل فارسا - وسلاح.

قال الرافعي: يُعطَى ما يشتريهما به، ويصير ذلك ملكا له، أي: إذا أراد الإمام، فإنه لا يتعيَّن دفعهما تمليكا. بل لو رأى الإمام استئجارهما، فله ذلك.

قال بعضهم: ويُعطَى بعضه عياله. قال الرافعي: وليس ببعيد. ويشترط ألا يكون الغازي ممَّن له أسم في ديوان المرتزقة، فإن كان له حقٌّ في الديوان، لم يعطَ من الزكاة شيئا. هذا مذهب الشافعي [2]، وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يُصرَف إلى أغنياء الغزاة من الزكاة شيء [3[

وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:60]: هم الغزاة وموضع الرباط، يعطَون ما ينفقون في غزوهم، سواء كانوا أغنياء أو فقراء، وهذا هو قول أكثر أهل العلم. وهو تحصيل مذهب مالك [4[

وقال محمد بن الحكم: ويعطى من الصدقة في الكُراع والسلاح وما يحتاج إليه من آلات الحرب، وكفِّ العدو عن الحوزة، لأنه كلَّه في سبيل الغزو ومنفعته.

قال القرطبي: وفي صحيح السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحلُّ الصدقة لغني إلا لخمسة: لغازٍ في سبيل الله، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل له جار مسكين فتصدَّق على المسكين، وأهدى المسكين للغني". رواه مالك مرسلا، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار [5]، ورفعه مَعمَر، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخُدْرِي عن النبي صلى الله عليه وسلم [6[

وروى أبو زيد وغيره، عن ابن القاسم، أنه قال: كان يعطى من الزكاة الغازي، وإن كان معه في غزاته ما يكفيه من مال، وهو غني في بلده. وهذا هو الصحيح لظاهر الحديث المذكور.

وروى ابن وهب، عن مالك: أنه يعطى منها الغزاة ومواضع الرباط، فقراء كانوا أو أغنياء [7]) [8] انتهى.

• ( 3 ) الوقف الخيري:

ومنها: ما يُوقف على الجيش الإسلامي من الموسرين المسلمين، ومن أمرائهم وأهل الثراء فيهم، من أرض زراعية يُوقف رَيعها على الجهاد والمجاهدين، أو عائد محلات تجارية أو نحوها. وقد كانت (الأوقاف) في فترات كثيرة من التاريخ الإسلامي من موارد التمويل لكثير من أعمال الخير، ومنها: التعليم والطبِّ والجهاد.

وقد وقف سيدنا خالد بن الوليد: أدراعه وسلاحه في سبيل الله [9[

وقد اختلف الفقهاء في (وقف النقود). والذي أرجِّحه جواز وقف النقود، تشجيعا لاتجاهات الخير في أنفس الناس، بل أرى جواز وقف النقود سنين معيَّنة عشرين سنة أو أكثر أو أقل، لجهة من جهات الخير، ومنها: الجهاد، أو الدعوة، أو التعليم، ونحوها. على أن تستغلَّ في معاملات غير مخُوفة المخاطر، ومتَّفقة مع أحكام الإسلام.

• ( 4 ) مساهمات أهل الخير:

ومنها: مساهمات الأفراد في تجهيز المقاتلين، باعتبار ذلك ضربا من الجهاد بالمال، وقد أمر الله المؤمنين أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، واعتبر ذلك من دلائل الإيمان: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15]، واعتبر ذلك من التجارة الرابحة المنجِّية من العذاب الأليم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [الصف:10،11[

وهناك فرصة لمَن لم تمكِّنه ظروفه الصحية أو الاجتماعية أو النفسية من الجهاد بالنفس: أن يجاهد بالمال، فيجهِّز مقاتلا بديلا عنه، فكأنما شارك في القتال بذلك. وفي هذا جاء الحديث الصحيح: "مَن جهَّز غازيا في سبيل الله فقد غزا" [10[

وتستطيع إدارة الجيش: أن تعيِّن الحدَّ الأدنى لقيمة تسليح المقاتل الواحد وتجهيزه، بما يلائم من السلاح، وأدناه: رشاش ومقادير معينة من الذخيرة، ونفقته الخاصة لمدة شهر، أو ستة أشهر، أو سنة مثلا، فكم يساوي ذلك: عشرة آلاف أو عشرين ألفا من الدنانير أو الجنيهات أو الريالات أو الدراهم أو غيرها من العملات؟ فمَن أراد أن ينال أجر الغزو دفع هذا المبلغ لتجهيز الغازي.

ومنها: أن يجهِّز المقاتل المتطوِّع نفسه بالسلاح المناسب له، مثل البندقية أو المدفع الرشاش، ومعه بعض الذخائر، ويمكن أيضا التزوُّد ببعض القنابل، وهذا إذا فتح الجيش الباب للمتطوِّعين المحتسبين، ليقوموا بدورهم مختارين، ملتزمين بأوامر الجيش وتوجيهاته. وينبغي للجيش المسلم ألاَّ يحرم نفسه من بركات هؤلاء المؤمنين المتحمِّسين، أو المحاربين القدماء، فقد يكون من ورائهم خير كثير، على أن يضع لذلك من الشروط والمواصفات والضوابط ما يراه لازما، حتى لا يتسرَّب إلى الجيش عناصر قد تكون أداة خلل وفساد.

وقد لا يكون هناك دولة تنظِّم أمر الجهاد، لسبب من الأسباب، فتقوم الجماعة المسلمة بما يجب أن تقوم به الدولة، من تنظيم أمر الجهاد وموارده، وقَبول المعاونات المختلفة من الداخل والخارج، كما رأينا في جهاد أفغانستان للشيوعيين، وفي جهاد البوسنة والهرسك للصربيين المعتدين، وكما في جهاد الفلسطينيين ضد الصهاينة المغتصبين، لسنين طويلة. فالاعتماد في تمويل الجهاد حينئذ على الشعوب والجماهير المسلمة،وما تبذله من أموالها في سبيل الله.

• الأحاديث النبوية المرغبة في الإنفاق في سبيل الله :

وفي ذلك جاءت الأحاديث النبوية مرغِّبة في الإنفاق في سبيل الله. وأكتفي هنا ببعض الأحاديث أنقلها من كتابنا (المنتقى من الترغيب والترهيب) للحافظ المنذري رحمه الله:

1 - عن خُرَيم بن فَاتك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن أنفق نفقة في سبيل الله كُتبت له بسبعمائة ضعف" [11]. رواه النسائي، والترمذي وقال: حديث حسن، وابن حِبان في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح الإسناد [12[

2 - وعن زيد بن خالد الجُهَنِي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَن جهَّز غازيا في سبيل الله فقد غزا، ومَن خلف غازيا في أهله بخير فقد غزا". رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي [13[

ورواه ابن حبان في (صحيحه)، ولفظه: "مَن جهَّز غازيا في سبيل الله، أو خلفه في أهله: كتب الله له مثل أجره، حتى إنه لا ينقص من أجر الغازي شيء" [14] ورواه ابن ماجه بنحو ابن حبان، ولم يذكر "خلفه في أهله" [15[

3 - وعن أبي سعيد الخُدْرِي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى بني لِحْيان: "ليخرُجْ من كل رجلين رجل". ثم قال للقاعد: "أيكم خلف الخارج في أهله، فله مثل أجره". رواه مسلم، وأبو داود، وغيرهما [16[

4 – وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَن جهَّز غازيا في سبيل الله فله مثل أجره، ومَن خلف غازيا في أهله بخير، أو أنفق على أهله فله مثل أجره". رواه الطبراني في (الأوسط)، ورجاله رجال الصحيح [17[

5 - وروى مسلم، عن أنس، أن فتى من أسلم، قال: يا رسول الله! إني أريد الغزو، وليس معي ما أتجهَّز به! قال: "ائت فلانا، فإنه كان قد تجهَّز فمرض". فأتاه، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئك السلام، ويقول: أعطني الذي تجهَّزت به. قال: يا فلانة، أعطيه الذي تجهَّزتُ به، ولا تحبسي عنه شيئا. فوالله، لا تحبسي منه شيئا، فيبارك لك فيه [18[!

وهكذا كانوا يتعاونون في تمويل الجهاد، لينال كلٌّ منهم حظَّه من المثوبة والأجر عند الله، هذا بنفسه، وهذا بماله.

6 - وعن أبي أمامة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصدقات ظلُّ فسطاط في سبيل الله، ومَنِيحَة خادم في سبيل الله، أو طَرُوقَة فحل في سبيل الله". رواه الترمذي وقال: حديث حسن [19[

(طَرُوقَة الفحل) بفتح الطاء، وبالإضافة: هي الناقة التي صلحت لطرق الفحل، وأقل سنِّها: ثلاث سنين وبعض الرابعة، وهذه هي الحِقَّة. ومعناه: أن يعطي الغازي خادما، أو ناقة هذه صفتها؛ فإن ذلك أفضل الصدقات [20[

• تسابق الصحابة على الجهاد بالمال:

وكان الأغنياء من المسلمين يُسهمون بسخاء في تمويل الجيش المسلم عندما تشتدُّ حاجته، كما رأينا موقف عثمان بن عفان رضي الله عنه في تجهيزه لجيش العُسرة، في غزوة تبوك، وكانت غزوة ذات أهمية خاصة، حيث سيواجه الرسول والمسلمون أكبر قوة عسكرية في العالم يومئذ، وهي دولة الروم البيزنطية، التي تحتلُّ بلاد الشام ومصر وإفريقية وغيرها. وهي على مسافة بعيدة من المدينة، ويحتاج كلُّ مجاهد إلى رَكوبة يمتطيها، كما أنها كانت في وقت حرج، وقت جني الثمار، الذي ينتظره الناس عادة، مع شدَّة الحرِّ في ذلك الوقت.

ورأينا من تنافس الصحابة في ذلك ما تقرُّ به أعين المؤمنين.

روى الدارمي، عن زيد بن أسلم، عن أبيه قال: سمعت عمر قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدَّق، فوافق ذلك مالا عندي، فقلتُ: اليوم أسبق أبا بكر، إن سبقتُه يوما! فجئتُ بنصف مالي، فقال رسول الله: "ما أبقيتَ لأهلك؟". قلتُ: مثله. قال: فأتى أبو بكر بكلِّ ما عنده، فقال: "يا أبا بكر، ما أبقيتَ لأهلك؟". فقال: أبقيتُ لهم الله ورسوله! فقلتُ (القائل عمر): لا أسابقك إلى شيء أبدا [21[!

وكانت هذه الصدقة بمناسبة تجهيز جيش العُسرة.

وهكذا كان أفراد المسلمين لا يبخلون بمالهم عن نصرة دينهم إذا دعا داعي الجهاد، موقنين أن الله تعالى يُخلف عليهم ما أنفقوه، كما قال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سـبأ:39]، وقال تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [الأنفال:60[.

وكان هذا البذل من المسلمين لنصرة الله ورسوله، من أشدِّ ما يزعج المنافقين ويقلقهم، فكانوا يحرِّضون بعضهم بعضا: أن يقبضوا أيديهم عن الإنفاق على نصرة الرسول وصحبه، لعلهم ينفضُّون عنه، لعلمهم بأهمية عنصر المال في تأييد الدعوات، يقول تعالى في سورة المنافقين: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:7[

وقد روى البخاري في كتاب التفسير من صحيحه، عن حذيفة في قوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195]، أنه فسَّر {التَّهْلُكَةِ}: بترك النفقة في سبيل الله [22[

وروى ابن أبي حاتم، عن ابن عباس وعكرمة والحسن ومجاهد وعطاء وابن جبير وقتادة، وغيرهم نحو ذلك. ذكر ذلك القرطبي والسيوطي وغيرهما.

وروى أبو داود وغيره نحو ذلك عن أبي أيوب الأنصاري: أن الإلقاء باليد إلى التهلكة: أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد [23[

• ( 5 ) ضريبة الجهاد ترتب على الموسرين:

ومنها: ما يرتَّب على الأغنياء عند (عجز بيت المال) كليًّا أو جزئيًّا، عن القيام بهذا الأمر، من ضرائب أو أعباء مالية، لسدِّ حاجة الجهاد والمجاهدين، وهو ما أشار إليه إمام الحرمين في (الغياثي)، ومنه اقتبس تلميذه الغزالي في (المستصفى)، وبعدهما الشاطبي في (الاعتصام)، وذكروا ضوابطه وشروطه [24[

قال الشاطبي في الاعتصام: (إذا قرَّرنا إمامًا مطاعًا مفتقرًا إلى تكثير الجنود لسدِّ الثغور، وحماية الملك المتَّسع الأقطار، وخلا بيت المال، وارتفعت حاجات الجند إلى ما لا يكفيهم، فللإمام إذا كان عدلاً أن يوظِّـف على الأغنياء ما يراه كافيًا لهم في الحال، إلى أن يظهر مال في بيت المال، ثم إليه النظر في توظيف ذلك على الغلاَّت والثمرات وغير ذلك؛ كيلا يؤدِّي تخصيص الناس به إلى إيحاش القلوب، وذلك يقع قليلاً من كثير، بحيث لا يجحف بأحد ويحصل المقصود، وإنما لم ينقل مثل هذا عن الأولين لاتِّساع بيت المال في زمانهم بخلاف زماننا... فإنه لو لم يفعل الإمام ذلك النظام بطلت شوكة الإسلام، وصارت ديارنا عرضة لاستيلاء الكفار) [25[

وهل يعتبر ما يؤخذ من ذوي الأموال في تلك الحالة إقراضا لبيت المال يُردُّ عند الميسرة، وتوافر أموال تكفي لتحقيق المطالب الدورية الناجزة، ولأداء القرض؟ أو هو واجب على القادرين، أدَّوه طائعين أو مجبورين، ولا يجب على بيت المال ردُّه؟

والذي نرجحه هنا: أن ما أخذ لمثل هذه الحالة المهمة من الدفاع عن حوزة الأمة، ووزِّع على القادرين بالقسط، كل حسب ماله وثروته، وصُرف في حقِّه كما ينبغي، فهو من الحقوق الواجبة في المال بعد الزكاة، وهو من الجهاد بالمال الواجب على أهله، ومثله لا يعتبر قرضا لبيت المال، فلا يجب ردُّه.

ويقوم مقام هذا الآن: (الضرائب) التي تُؤخذ من المواطنين، وغدت في كثير من البلاد هي المورد الرئيس لخِزانة الدولة، وهي جائزة بشروطها، كما بيَّنا ذلك في كتابنا: (فقه الزكاة) [26[

ويمكن للدولة المسلمة: أن تطلب من بعض كبار الأغنياء - عند الحاجة - قروضا لسداد أغراض مطلوبة تعجز ميزانيتها عن الوفاء بها، على أن تردَّها إليهم عند الميسرة. وذلك بعد أن يكون قد أسهموا بنصيبهم في معونة الجهاد مع سائر الناس.

• ( 6 ) المكاسب الخبيثة أو التي فيها شبهة:

ومن الموارد التي يمكن أن يُستفاد منها هنا: ما كان خبيثا من المكاسب، مثل (فوائد البنوك) التي اتَّفقت مجامع الفقه الإسلامي كلُّها - في الأزهر، ورابطة العالم الإسلامي، ومجمع الفقه الدولي الإسلامي، وغيرها - على تحريمها، وأنها (الربا الحرام) [27]. فما جاء المسلم منها: وجب أن يتعفَّف عنه، ولا يُدخِله في ملكه، كما لا يَدَعه للبنك الربوي، بل يأخذه لا لينتفع به، بل ليضعه في وجوه الخير، ومنها: الجهاد في سبيل الله، ولا سيما ما كان فيه مقاومة للاحتلال وتحرير أرض الإسلام من المعتدين.

ويزداد تأكُّد ذلك بالنسبة للفوائد في البنوك الأجنبية، في أوربا وأمريكا وغيرهما، فبعض الخليجيين يودوعون فوائض أموالهم، وهي أحيانا تعدُّ بالمليارات، ولها فوائد تعدُّ بالملايين وعشرات الملايين، وهذه لا يجوز بحال من الأحوال أن تُترَك لهذه البنوك، لأنها تعطيها للجمعيات الخيرية عندهم، وهي إما جمعيات يهودية، أو جمعيات كنسية، كثيرا ما تكون (تنصيرية) أي إن هذا المال الذي هو مال المسلمين في الأصل، ينتهي إلى أن يُستخدَم في فتنة المسلمين وإخراجهم من دينهم.

وللمجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي قرار واضح وحاسم في هذا الأمر، يرجى مراجعته، وسنضعه في ملاحق هذا الكتاب[28[.

فهذه المكاسب الخبيثة محرَّمة على مَن اكتسبها من الحرام، حلال لجهات الخير، فمن المعلوم شرعا: أن مصرف المال الحرام، هو: الفقراء وجهات الخير، ومنها: سبيل الله والجهاد ، بلا نزاع من أحد من المسلمين ، ولا سيما إذا قلّت أو ضاقت الموارد الأخرى .


: الأوسمة



التالي
حوارات الأستاذ الدكتور أحمد الريسوني حول لباس المرأة: اللباس الساتر للمرأة مسألة قرآنية راسخة..
السابق
إيجاب التكافل الاجتماعي

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع