البحث

التفاصيل

كتاب : فقه الجهاد الحلقة [ 47 ] : الباب الخامس : منزلة الجهاد ،وخطر القعود عنه، وإعداد الأمة له الفصل الثاني : منزلة الرباط

 

• أهمية الإقامة في الثغور :

ومن توابع الجهاد: الرباط. وهو الإقامة في الثغر لإعزاز الدين، ودفع خطر الأعداء عن المسلمين. والمراد بالثغر: مكان ليس وراءه إسلام.

فالمرابطون بمثابة الحُرَّاس لحدود البلاد الإسلامية من هجوم المشركين والأعداء المعتدين.

وكلما كان الثغر أشدُّ خوفا، واحتمال الخطر عليه من الأعداء أكبر: كانت المرابطة فيه أفضل وأعظم أجرا.

واشترط الإمام مالك: أن يكون الثغر المُقام فيه غير وطنه - يعني بلده الذي نشأ فيه - وذلك لأن إقامته ببلده جبرية لا فضل له فيها.

ولكن من العلماء مَن نظر في ذلك بأنه قد يكون وطنه، وينوي بالإقامة فيه دفع العدو، فينال بذلك أجر المرابطين. ومن ثَمَّ اختار كثير من السلف سكنى الثغور لهذا السبب [1[.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقيمون بالمدينة دون مكة، لمعان منها: أنهم كانوا مرابطين بالمدينة، فإن الرباط هو المُقام بمكان يخيفه العدو، ويخيف العدو. فمَن أقام فيه بنية دفع العدو فهو مرابط، والأعمال بالنيات) [2[

وقال: (المُقام في ثغور المسلمين - كالثغور الشامية والمصرية - أفضل من المجاورة في المساجد الثلاثة، وما أعلم في هذا نزاعا بين أهل العلم. وقد نصَّ على ذلك غير واحد من الأئمة؛ وذلك لأن الرباط من جنس الجهاد، والمجاورة غايتها أن تكون من جنس الحج، كما قال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة:19[

واستشهد بالأحاديث والآثار الواردة .

وهذه المرابطة في سبيل الله أفضل من الإقامة للعبادة بمكة والمدينة وبيت المقدس، حتى قال أبو هريرة: لأن أرابط ليلة في سبيل الله: أحبُّ إليَّ من أن أوافق ليلة القدر عند الحجر الأسود [3[.

فقد اختار الرباط ليلة على العبادة في أفضل الليالي عند أفضل البقاع.

وكذلك بعث الإمام عبد الله بن المبارك إلى صديقه الزاهد العابد الفضيل بن عياض يرغبه في اللحاق به في الرباط، وترك الإقامة في الحرمين الشريفين، فقال له:

يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمتَ أنك بالعبادة تلعب!

مَن كان يخضِب خدَّه بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضَّب [4[.

ذكر الإمام البخاري في كتاب الجهاد: باب فضل رباط يوم في سبيل الله. وأورد فيه: قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200[

كما أورد حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والرَّوحة يرُوحها العبد في سبيل الله أو الغَدوَة خير من الدنيا وما عليها" [5[

قال الحافظ في (الفتح): (الرباط: ملازمة المكان الذي بين المسلمين والكفار لحراسة المسلمين منهم.

قال: واستدلال المصنف بالآية: اختيار لأشهر التفاسير، فعن الحسن: {اصْبِرُوا}: على طاعة الله. {وَصَابِرُوا}: أعداء الله في الجهاد {وَرَابِطُوا}: في سبيل الله. وعن محمد بن كعب القرظي، وزيد بن أسلم: قريب من ذلك [6[

قال ابن قتيبة: أصل الرباط أن يربط هؤلاء خيلهم، وهؤلاء خيلهم، استعدادا للقتال. ثم استُعمل لملازمة الثغور بنيَّة الحراسة. وإن لم يكن مع المرابطين خيل أصلا.

قال: وفي الموطأ عن أبي هريرة مرفوعا: "وانتظار الصلاة، فذلكم الرباط" [7]، وهو في السنن عن أبي سعيد [8]، وفي المستدرك عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف: أن الآية نزلت في ذلك، وأوضح بأنه لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو فيه رباط [9] انتهى. قال الحافظ: وحمل الآية على الأول أظهر، وما احتجَّ به أبو سلمة لا حُجَّة فيه. ولا سيما مع ثبوت حديث الباب (بل وأحاديث أخرى كثيرة)، فعلى تقدير تسليم أنه لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يمنع ذلك من الأمر به، والترغيب فيه) [10]. فقد صحَّت الأحاديث بأنه بشَّر أمته بفتح ممالك كسرى وقيصر، وتكون عندئذ لأرض الإسلام ثغور عدَّة.

• منزلة الرباط في الإسلام:

قال الإمام ابن قدامة: معنى الرباط: (الإقامة بالثغر، مقوِّيا للمسلمين على الكفار. والثَّغر: كل مكان يخيف أهله العدو ويخيفهم. وأصل الرباط من رباط الخيل؛ لأن هؤلاء يربطون خيولهم، وهؤلاء يربطون خيولهم، كلٌّ يعِدُّ لصاحبه، فسُمَّى المُقام بالثغور رباطا وإن لم يكن فيه خيل. وفضله عظيم، وأجره كبير. قال أحمد: ليس يعدل الجهاد عندي والرباط شيء، والرباط دفع عن المسلمين، وعن حريمهم، وقوة لأهل الثغر ولأهل الغزو، فالرباط عندي أصل الجهاد وفرعه، والجهاد أفضل منه للعناء والتعب والمشقَّة.

وقد روي في فضل الرباط أخبار؛ منها ما روى سلمان، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجرى عليه رزقه، وأَمِن الفتَّان". رواه مسلم [11[

وعن فَضَالَة بن عُبيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كلُّ ميت يُختم على عمله، إلا المرابط في سبيل الله، فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة، ويؤمَّن من فَتَّان القبر". رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح [12[

وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه، أنه قال على المنبر: إني كنتُ كتمتكم حديثا سمعتُه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كراهية تفرُّقكم عني، ثم بدا لي أن أحدثكموه، ليختار امرؤ منكم لنفسه، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "رباط يوم في سبيل الله، خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل". رواه أبو داود، والأثرم، وغيرهما [13[

• أقل الرباط وتمامه:

إذا ثبت هذا؛ فإن الرباط يقلُّ ويكثُر، فكل مدَّة أقامها بنيَّة الرباط، فهو رباط، قلَّ أو كثر؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رباط يوم"، و"رباط ليلة". قال أحمد: يوم رباط، وليلة رباط، وساعة رباط. وقال: عن أبي هريرة: "مَن رابط يوما في سبيل الله، كُتب له أجر الصائم والقائم، ومَن زاد زاده الله" [14[

وروى سعيد ابن منصور بإسناده، عن عطاء الخُراساني، عن أبي هريرة قال: رباط يوم في سبيل الله، أحبُّ إليَّ من أن أوافق ليلة القدر في أحد المسجدين: مسجد الحرام، أو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومَن رابط أربعين يوما فقد استكمل الرباط [15[

وتمام الرباط أربعون يوما. روي ذلك عن أبي هريرة، وابن عمر، وقد ذكرنا خبر أبي هريرة. وروى أبو الشيخ، في كتاب (الثواب)، بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تمام الرباط أربعون يوما" [16]. وروى عن نافع، عن ابن عمر، أنه قدم على عمر بن الخطاب من الرباط، فقال له: كم رابطت؟ قال: ثلاثين يوما. قال: عزمتُ عليك إلا رجعتَ حتى تتمَّها أربعين يوما [17[

وإن رابط أكثر، فله أجره، كما قال أبو هريرة: ومَن زاد، زاده الله.

• أفضل الرباط الإقامة بأشدِّ الثغور خوفا:

وأفضل الرباط المُقام بأشدِّ الثغور خوفا؛ لأنهم أحوج، ومقامه به أنفع.

وهذا يختلف من عصر لآخر، ومن حال لأخرى، فمن البلاد ما يكون مخُوفا مهدَّدا من جيرانه الكفار، فيسلم هؤلاء الكفار، وتدخل بلادهم في أرض الإسلام، فيصبح البلد المخُوف آمنا، وينتقل الخوف إلى مكان آخر.

• الرباط في الشام:

ولهذا كانت الإقامة في الشام في عصر الإمام أحمد: رباط من أفضل الرباط، لأنها كانت مهدَّدة من الدولة الرومية البيزنطية، فلما دخلت هذه الدولة في الإسلام تغيَّر الحال، يقول ابن قدامة في (المغني(:

(قال أحمد: أفضل الرباط أشدُّهم كَلَبًا. وقيل لأبي عبد الله: فأين أحبُّ إليك أن ينزل الرجل بأهله؟ قال: كلُّ مدينة معقِل للمسلمين، مثل دمشق. وقال: أرض الشام أرض المحشر، ودمشق موضع يجتمع إليه الناس إذا غلبت الروم. قيل لأبي عبد الله: فهذه الأحاديث التي جاءت: "إن الله تكفَّل لي بالشام" [18]. ونحو هذا؟ قال: ما أكثر ما جاء فيه. وقيل له: إن هذا في الثغور، فأنكره، وقال: أرض القدس أين هي؟ "ولا يزال أهل الغرب ظاهرين". هم أهل الشام. ففسَّر أحمد الغرب في هذا الحديث بالشام، وهو حديث صحيح، رواه مسلم [19]، وإنما فسَّره بذلك؛ لأن الشام يُسمَّى مغربا، لأنه مغرب للعراق كما يُسمَّى العراق مشرقا، ولهذا قيل: ولأهل المشرق ذات عِرْق. وقد جاء في حديث مصرِّحا به: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحقِّ لا يضرُّهم مَن خذلهم، حتى يأتي أمر الله، وهم بالشام". وفي حديث، عن مالك بن يُخَامِر، عن معاذ بن جبل، قال: "وهم بالشام". رواه البخاري في صحيحه [20]. وفي خبر عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال طائفة بدمشق ظاهرين". أخرجه البخاري في (التاريخ) [21]. وقد رُويت في الشام أخبار كثيرة، منها حديث عبد الله بن حَوَالَة الأسدي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ستجندون أجنادا: جندا بالشام، وجندا بالعراق، وجندا باليمن" فقلتُ: خِرْ لي يا رسول الله. قال: "عليك بالشام، خيرة الله من أرضه، يجتبي إليها خيرته من عباده، فمَن أبى فليلحق باليمن، ويسقى من غُدُره (أي من أحواضه)، فإن الله تكفَّل لي بالشام وأهله". رواه أبو داود بمعناه [22] انتهى.

• الإقامة ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس:

قلت: وأعتقد أن القدس أرض الإسراء والمعراج وأرض فلسطين كلها: داخلة في مُسمَّى الشام، والمرابطة فيها - ولا سيما في عصرنا - من أفضل القُرُبات إلى الله، لأنهم يتعرَّضون لأخطار هائلة لا يتعرَّض لها غيرهم، من قتل للأنفس، واعتقال للشخصيَّات، وسَوْق إلى السجون والمعتقلات، وتدمير للمنازل، وتحريق للمزارع، واقتلاع للأشجار، وامتهان للمقدَّسات، ونزع للملكيَّات، وانتهاك للحُرُمات، وبناء للجدار العازل. فلا غرو أن يكون أجر المرابط فيها أكثر وأعظم من غيره. وقد روى عبد الله بن أحمد وجادة عن أبيه، والطبراني، عن أبي أمامة الباهلي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرُّهم مَن خالفهم - إلا ما أصابهم من لأواء - حتى يأتي أمر الله، وهم كذلك". قالوا: وأين هم، يا رسول الله؟ قال: "ببيت المقدس، وأكناف بيت المقدس" [23[

ومما لا ريب فيه: أن فلسطين كلَّها من أكناف بيت المقدس، بل الشام كلُّها - الأردن وسورية ولبنان - من أكناف بيت المقدس، بل أحسب أن مصر أيضا من أكناف بيت المقدس.

• دلالة حديث عثمان:

أورد ابن النحاس في كتابه (مشارع الأشواق) في فضائل الجهاد: حديث عثمان رضي الله عنه: "رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل، فليختر كل امرئ لنفسه ما شاء" [24[

قال ابن النحاس: (وفي حديث عثمان هذا: دليل واضح على أن إقامة المرابط يوما واحدا بأرض الرباط: أفضل من الإقامة ألف يوم في غيره من الأماكن، سواء كان مكة أو المدينة، أو بيت المقدس. ولهذا خاف عثمان رضي الله عنه أن يتفرَّق الناس عنه إذا أعلمهم بذلك، رغبة في الرباط والإقامة ببلاده، ولولا أنه يعلم أن ذلك يعمُّ مكة والمدينة لما خاف تفرُّقهم وخروجهم من المدينة إلى بلاد الرباط.

وقد خرَّج ابن عساكر من طريق زيد بن جَبِيرة - وهو متروك - عن يحيى بن سعيد، عن أنس رضي الله عنه، قال: وحُدِّثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "ليوم أحدكم في سبيل الله خير من ألف يوم في أحد المسجدين مسجد الحرام، ومسجد المدينة" [25[

• نزول جملة من الصحابة والتابعين بساحل الشام مرابطين :

قال ابن النحاس: وقد خرج من مكة والمدينة من الصحابة والتابعين وتابعيهم خَلق لا يعلمهم إلا الله، ونزلوا بساحل الشام مرابطين إلى أن ماتوا أو أكرمهم الله بالشهادة.

وروى ابن المبارك: أن الحارث بن هشام رضي الله عنه - قال المؤلف: وهو أخو أبي جهل لأبويه - خرج من مكة للجهاد، فجزع أهل مكة جزعا شديدا، فلم يُر أحد طَعِم إلا خرج يُشيعه، فلما كان بأعلى البطحاء، وقف ووقف الناس حوله يبكون، فلما رأى جزعهم رقَّ، فبكى، وقال: يا أيها الناس، إني والله ما خرجت رغبة بنفسي عن أنفسكم، ولا اختيار بلد عن بلدكم، ولكن كان هذا الأمر (يعني: الإسلام)، فخرجت رجال، والله ما كانوا من ذوي أنسابها ولا في بيوتاتها، فأصبحنا - والله - لو أن جبال مكة ذهبا فأنفقناها في سبيل الله ما أدركنا يوما من أيامهم، والله لئن فاتونا في الدنيا لنلتمسنَّ أن نشاركهم به في الآخرة، ولكنها النُّقلَة إلى الله عز وجل ... وتوجَّه إلى الشام فأصيب شهيدا [26[

قال ابن الأثير في الصحابة: خرج إلى الشام مجاهدا بأهله وماله حتى استشهد يوم اليرموك [27] انتهى.

وذكر أبو الحجَّاج المِزِّي الحافظ في تهذيب الكمال: أن الحارث هذا شهد بدرا وأُحدا مشركا، وأسلم يوم الفتح، وكان شريفا كبير القدر.

وقال مصعب بن عبد الله: خرج الحارث بن هشام مع أهله إلى الشام، فتبعه أهل مكة يبكون، فرقَّ وبكى، ثم قال: أما لو كنا دارا بدار، وجارا بجار، ما أردنا بكم بدلا، ولكنها النُّقلَة إلى الله عزَّ وجلَّ، فلم يزل حابسا نفسه ومن معه بالشام مجاهدا، حتى ختم الله له بخير) [28] انتهى.

قلت: وكانت الشام في ذلك الوقت تعتبر من الثغور، التي تحتاج إلى حُرَّاس ومرابطين؛ فقد كانت متاخمة لدولة الروم البيزنطية، والتي كانت تناوش المسلمين وتهدِّدهم باستمرار.

وتقدم قبله قصة إبراهيم اليَمَاني مع الثوري، وأمره له أن ينزل بسواحل الشام، ويترك ما عزم عليه من النزول إلى (جدة) والحجِّ في كل عام، والعمرة في كل شهر، ونحو ذلك [29]. وكذلك - تقدم في الباب الثاني - قصة بلال، وخروجه من مدينة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشام بنية الجهاد، وقوله لأبي بكر رضي الله عنه: إن كنتَ أعتقتني لنفسك فامنعني، وإن كنتَ أعتقتني لوجه الله، فدَعني [30[

وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إجماع العلماء على أن إقامة الرجل بأرض الرباط مرابطا: أفضل من إقامته بمكة والمدينة، وبيت المقدس [31[

وحكى ابن المنذر في الأوسط عن الإمام أحمد بن حنبل، أنه سئل: المُقام بمكة أحبُّ إليك أم الرباط؟ قال: الرباط أحبُّ إليَّ.

وقال أحمد أيضا: ليس يعدل عندنا شيء من الأعمال الغزو والرباط [32] انتهى.

وقد سأل رجل الإمام مالكا رحمه الله: أيهما أحبُّ إليك: أقيم بالمدينة الشريفة، أو أقيم بالإسكندرية؟ فقال: بل أقِم بالإسكندرية.

ومنها: أن صلاة المرابط بأرض الرباط مضاعفة، وكذلك صومه وذكره، وقراءته، ونفقته، وقد تقدَّم باب في فضل العمل الصالح في سبيل الله، ولا شكَّ أن المرابط مثل المجاهد، كلاهما في سبيل الله) [33[.

• نقل النساء والذرية إلى الثغور:

قال ابن قدامة: ومذهب أبي عبد الله (يعني: أحمد بن حنبل): كراهة نقل النساء والذرية إلى الثغور المَخُوفة. وهو قول الحسن، والأوزاعي؛ لما روى يزيد بن عبد الله، قال: قال عمر: لا تنزلوا المسلمين ضفة البحر. رواه الأثرم بإسناده [34[

ولأن الثغور المَخُوفة لا يُؤمن ظفر العدو بها، وبمَن فيها، واستيلاؤهم على الذرية والنساء.

قيل لأبي عبد الله: فتخاف على المتنقل بعياله الإثم؟ قال: كيف لا أخاف الإثم، وهو يعرِّض ذريته للمشركين؟ وقال: كنت آمر بالتحوُّل بالأهل والعيال إلى الشام قبل اليوم، فأنا أنهى عنه الآن؛ لأن الأمر قد اقترب. وقال: لا بد لهؤلاء القوم من يوم. قيل: فذلك في آخر الزمان. قال: فهذا آخر الزمان. قيل: فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يُقرع بين نسائه، فأيتهنَّ خرج سهمها خرج بها. قال: هذا الواحدة، ليس الذرية.

قال ابن قدامة: وهذا من كلام أحمد محمول على أن غير أهل الثغر لا يستحبُّ لهم الانتقال بأهلهم إلى ثغر مَخُوف، فأما أهل الثغر فلا بد لهم من السكنى بأهلهم، ولولا ذلك لخَرِبت الثغور وتعطَّلت. وخصَّ الثغور المَخُوفة، بدليل أنه اختار سكنى دمشق ونحوها، مع كونها ثغرا؛ لأن الغالب سلامتها، وسلامة أهلها [35[.


: الأوسمة



التالي
الميثاق الإسلامي وحدة الامة الإسلامية (٣)
السابق
كروية الأرض ودورانها.. إعجاز علمي وسَبْق قرآني رسالة جديدة للملحدين

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع