البحث

التفاصيل

تأملات في مؤتمر العلماء والدعاة

ازدانت مدينة اسطنبول، في الأسبوع الأول من شهر نوفمبر الأغر، بشعارات وألوان الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

لقد أخذت المدينة التركية السياحية زخرفها، ففتحت شوارعها، وفنادقها ومساجدها، وأسواقها، لما يزيد على الألف عالِم، جاءوا من كل أنحاء العالم ليشهدوا منافع للأمة الإسلامية، من خلال عقد المؤتمر العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

كان حقا حدثا علميا وسياسيا، بالغ الأهمية، امتزجت فيه إرادة العلماء الأجلاء بإرادة المسؤولين الأتراك الأصلاء، فأحدث ذلك كله، النجاح العظيم الذي خرج به المؤتمرون، مطلين به على العالم مقدمين رسائل ذات دلالات كبرى، ومنها:

الكثافة التي مثلها عدد العلماء والدعاة والباحثين، شيبا وشبابا، وكهولا، نساء ورجالا، فكان ذلك أبلغ رد على تحدي الفرق الباغية، التي صنّفت الاتحاد العالمي وعلمائه، في خانة الإرهاب، وكبرت كلمة تخرج من أفواههم.

النقاش العلمي الموضوعي الذي ساد المؤتمر العلمي الذي واكبه اللقاء التنظيمي والذي كان تحت عنوان “الإصلاح والمصالحة” فرسم العلماء، بهذا المؤتمر، طريقا منهجيا لفك الاشتباكات، وحل النزاعات التي تطبع الأمة الإسلامية، بالتصالح والتصارح والتصافح، والصلح خير، رائدهم في كل ذلك قول الله تعالى: ﴿… إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ…﴾[سورة هود، الآية: 88].

قدم العلماء للعالم المتحضر رسالة بليغة مفادها، أن العلماء الربانيين، الذين يشكلون الاتحاد العالمي، هم دعاة حوار، ومجادلة بالتي هي أحسن، وليس كما يقدمهم المغرضون من الحاقدين على الإسلام الصحيح، والمتآمرين على مفكري الأمة.

القيام بعملية التغيير السلسة ممثلة في تسليم مشعل القيادة العلمائية إلى الصفوة الرائدة، الوفية للخط العلمائي الأصيل، فتم ذلك كله في انضباط، والتزام، ومسؤولية، تجسيدا لآمال الأمة في النهوض بها، تحت راية العلماء الربانيين.

امتزاج القناعات، والاتجاهات التي تميز، العلماء الوافدين على المؤتمر وقد جاءوا من أستراليا، وأمريكا، وكندا، وأوروبا، وإفريقيا، ومن معظم أقطار العربية الإسلامية، إلا الذين حبسهم حابس المنع، بالسجن أو العجز. لقد انضوى الجميع تحت خيمة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الذي خرج أكثر قوة، وأعظم إشعاعا، وأشد عزما على مواصلة المسيرة الإحيائية، لبعث أمتنا نحو غد أفضل، وإخراجها من الكهف المظلم الذي أرداها فيه، الاستبداد، والظلم، ومانتج عنه من إرهاب وعنف، خلّف الدماء والدموع في كل الربوع.

إنّ المتأمل في هذا اللقاء العلمائي العالمي الذي احتضنته مدينة اسطنبول التاريخية ليكشف عن روح إسلامية دقيقة وعميقة الأبعاد يسكنها هاجس الاستجابة للتحديات والاستهانة بكل الحواجز والعقبات.

فمما لا شك فيه أن الأمة الإسلامية ستعرف صفحة جديدة في سيرتها، تتجلى في إصلاح المفاهيم، وتدقيق التعاليم، وتوحيد الأقانيم، والأقاليم.

ولعل مما طبع هذا اللقاء، وأضفى عليه طابعا مميزا، هو الحضور النوعي، للعلماء الجزائريين، ذكورا وإناثا، وهو ما محى صورة اليتم التي كانت تطبع الحضور الجزائري المحتشم في اللقاءات الماضية. وقد تجلى هذا الحضور في العدد الذي بلغ حوالي عشرين عالم وعالمة، وفي الإسهام النوعي في النقاش والمشاركة الفاعلة. كما التأكيد في الندوة العلمية حول المصالحة على التجربة الجزائرية كمنهج لفك النزاعات ناهيك أنّ بعض الوفود طالب باتخاذ التجربة الجزائرية في المصالحة نموذجا يقتدى في الإصلاح بين المتنازعين.

ومما زاد هذا الحضور رفعة وأهمية الوعي الحضاري الوطني الذي تميز به الجزائريون حيث، تجلى ذلك في الحضور التعارفي الذي عُقد بينهم، لمزيد من التعارف ومن تنسيق الجهود، من أجل إحداث فرع للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، اقتداءً بإخوانهم في تونس والمغرب على سبيل المثال.

 

ولئن كبا الجواد ببعض المترشحين لمجلس الأمناء، فإن ذلك، لا يفت في عضد المنتسبين، ولكل جواد كبوة، والأهم في كل ذلك، أنه أعطى للحضور الجزائري مكانه في الندوات العلمية، وفي الثقافات العامة ومن هنا، فإن الأمل معقود على هذه النخبة العلمية، المزروعة في كل أنحاء الجزائر، وفي كامل أنحاء العالم من تلمسان إلى وادي سوف، ومن استكهولم، إلى لندن، وباريس، وما منهم إلا باحث مغوار في علمه، وفارس إليه يشار في سلوكه وفهمه.

إنّ انبثاق القيادة الجديدة للإتحاد وقد تدعمت بطاقات علمية فاعلة ومفعلة في الساحة الثقافية الوطنية والإسلامية من شأنها أن تغير صورة الاتحاد في عقول وضمائر أبناء العالم، بعد أن حاولت قوى مغرضة أن تزرع في عقول الناس صورة قاتمة عن علماء الأمة المخلصين، ﴿… حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم…﴾[سورة البقرة، الآية: 109]، ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾[سورة البروج، الآية: 08].

إن قيادة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الجديدة، أمامها تحديات كثيرة، أبرزها إثبات الوجود العلمائي الحضاري للاتحاد وهي بذلك مدعوة إلى تكثيف الجهود لإحداث آليات جديدة، للدعوة الإسلامية الصحيحة، ولنشر المنهج الدعوي الواقعي المعتدل، الوسطي، المتفتح على كل الحضارات والثقافات.

إضافة إلى ذلك إنشاء هيئة للمصالحة، وفك النزاعات تحدوهم في كل ذلك استقلالية في الرأي، وحرية في الممارسة، وسمو عن كل انتماء حزبي أو إقليمي أو طائفي، فلا انتماء إلا للإسلام النقي الصافي، ولا انحياز إلا للقيم والمبادئ التي أدبنا بها الإسلام فأحسن تأديبنا.

ومهما يكن تفاؤلنا بالمستقبل، فلا ينبغي أن نستهين بما قد نلقاه من حواجز وعقبات ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ۚ وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾[سورة آل عمران، الآية: 186] وتلك هي ضريبة الرسالة المنوطة بعاتقنا.

 

لقد رسم لقاء اسطنبول، خط السير، ومنهجية العلاقة بين العالِم والحاكم، وعلى بقية الحكام أن يحذوا حذو تركيا، في الاستعانة بالعلماء في القيام بعملية التنمية والنهوض، فما أجمل تعاون السلطان والقرآن، بشرط أن يؤمن الحاكم بالقرآن ﴿… وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ…﴾[سورة الطلاق، الآية: 03]. والله من وراء القصد.

 


: الأوسمة



التالي
علماء وأئمة: إجماع في الساحة العلمية على المطالبة بفتح مركز تكوين العلماء
السابق
الأزمة وانتقام “الفاعلية المضادة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع