البحث

التفاصيل

الأزمة وانتقام “الفاعلية المضادة

المصدر: مجلة البصائر

تجربتي في الحقل الدعوي والإعلامي ومتابعة الشأن السياسي، التي لا تقل عن أربعين سنة، كشفت لي عن أن الأزمات في مجتمعاتنا العربية الإسلامية بكل أنواعها، سياسية واجتماعية واقتصادية، إنما هي أعراض لمشكلات ثقافية وتربوية، أو قل هي أزمات متعدية وليست قاصرة على الموضوع المعلن، الذي يعرفه الناس عز المعرفة.

فعندما يمر المجتمع بأزمة مالية مثلا، فإن هذه الأزمة تخفي وراءها مشكلة اقتصادية، منشؤها سوء التخطيط وضعف التسيير، وأزمة التخطيط والتسيير تخبِّئ خلفها فقدان برامج وغياب القدرة على الإبداع، وفقدان البرامج وغياب القدرة على الإبداع يوحي بانعدام الإطارات والكفاءات القادرة على العطاء، وسبب غياب الكفاءات القادرة على العطاء سببه الجهل والاستبداد والمحاباة واللامبالاة…إلخ، وربما للجهل والاستبداد والمحاباة واللامبالاة أسباب أخرى لم يتوصل إليها العلم بعد!!

وعندما يصاب المجتمع بهذه السلسلة من الأزمات، فإن جميع آلياته الإيجابية تتحول إلى رهينة لهذه السلسلة من المصائب، بحيث لا تستطيع وظيفة من الوظائف الخادمة للمجتمع، أن تقوم بدورها الصحيح والسليم، فلا السلطة تؤدي دورها، ولا الإعلام يقوم بما عليه من مسؤوليات، ولا المعارضة تستطيع افتكاك حقها وواجبها في ممارسة المعارضة بجد، ولا الواعظ يصل إلى قلوب الناس، ولا القضاء يتغلب على الشبهات وفساد الذمم، ولا الأجهزة الأمنية تستطيع القيام بواجبها دون أن تترك بصماتها الظالمة والاعتداء على الحريات في الناس أفرادا وجماعات.

وعندما يبلغ المجتمع هذا المستوى من الترهل والتفكك، يتم التركيز على “الأزمة النتيجة”، التي هي في مثالنا “الأزمة المالية”، وليس على المقدمات المؤدية إليها، فيسقط التدبر –لاشعوريا- في باقي المشكلات التي كانت السبب في ذلك؛ لأنها لا تبدو على السطح كما تبدو الأزمة النتيجة، فتتجه جميع الجهود إلى معالجة الأزمة الموهومة، وتُترك الأزمات الحقيقية، التي إذا طُرِقت فإنها ستكشف عن الأزمات الحقيقية، التي إذا ما عولجت ستقضي على مئات المشكلات الحقيقية والوهمية معا.

وعند غياب النظر والتدبر في الأمور بما تستحق من البحث والدراسة والجدية فيهما، فإن الطبيعة تأبى الفراغ، فتشق “الفاعلية المضادة” طريقها في الواقع انتقاما من المجتمع برمته ومن أفعاله المشينة، التي لا يريد تغييرها أو لا يستطيع تغييرها، بسبب عجزه الذاتي، فتبرز تقنيات التدمير الذاتي، انطلاقا من اليأس الحاصل بسبب طغيان المشكلات الوهمية على حساب المشكلات الحقيقية التي لا يُنْتبه إليها.

اذكر بهذه المناسبة تصريحا للأستاذ عبد العزيز بلخادم في سنة 2011، الأمين الأسبق لجبهة التحرير الوطني ردا على تحرك شعبي احتجاجا على زيادة أسعار الزيت والسكر، فقال: إن هذا الحراك له مطالب اجتماعية وليس له طابع سياسي، ونسي الأستاذ أن المطالب الاجتماعية لا تكون إلا بعد نفاذ كل شيء، بحيث لم يبق للشعب ما يصبر عليه..، فإن الدابة عندما تجوع فإنها “تصك” وتعض من أجل لقمة العيش… فلو بقي للمواطن ما يُسَرُّ به من عدل وحرية وصدق في التوجه العام، أو شعر بذلك على الأقل ما انتفض ولو جاع؛ لأن طبيعة البشر أنهم يفرحون بالعدل مثلا، ولو كان توزيع المآسي..أما أن يعيش هو كل المآسي ويرى غيره يتمتع بكل ما لذ وطاب، فإن أقرب الوسائل إليه هي الاحتجاج، وعندما يصل الاحتجاج على لقمة العيش، فمعنى ذلك أنه فقد كل شيء، ولم يبق له إلا أن ينتفض ويموت؛ لأنه إذا لم يمت منتفضا سيموت إهمالا وجوعا.

على أن انتقام الفاعلية المضادة بمثابة الفعل اليائس من الواقع، ولذلك وجهان:

الوجه الأول: وجه يتمرد فيه المجتمع على مؤسساته وعلى القيم كلها، بسبب يأسه منها، ومن إمكانية توفير ضمانات اجتماعية مستحقة، فلا يثق في السلطة وفي لا القانون ولا في غيرهما من المؤسسات الرسمية؛ بل ولا يثق في الخطابات الدينية أو السياسية أو الثقافية…؛ لأن اليأس بلغ مداه، بحيث يشعر المرء بأنه حتى إذا كانت له ثقة في جهة ما، فإنها لا تستطيع أن تفعل؛ لأن الأفق مسدود، وأضرب لذلك مثلا من سلوكات المجتمع، فمن يركب “الترامواي”، يلاحظ أن الركاب عندما ينزلون من المركبة، يسلمون بطاقاتهم التي اشتروها إلى الركاب الجدد.. أي أن البطاقة الواحدة يمكن أن يستفيد منها أكثر من راكب. فهذا السلوك ظاهره سلوك غير أخلاقي؛ لأنه يشبه السرقة..، ولكن قراءته في إطار المجتمع، تفيد أن المجتمع يريد أن ينتقم لنفسه بهذا السلوك.. من المجتمع الذي عجز عن حمايته، ويشهد على ذلك سلوك آخر يلاحظه الناس المكثرون من السفر داخل البلاد، حيث يلاحظون أن أصحاب السيارات يخبرون زملاءهم من السواق في الطريق المعاكس عن الحواجز الأمنية، حتى يخفضوا من السرعة ويحتاطون لأي مخالفة قانونية…، وهذا السلوك أيضا غير أخلاقي، ولكن الذين يقومون به، يشعرون أن هناك مشكلات غير مفهومة في المجتمع وأول من يبدون تمردهم عليه انتقاما هو السلطة والقانون.

والوجه الثاني: الانشغال بالتدمير الذاتي، عبر تحطيم المكاسب التي حققها المجتمع في تاريخه، مثل التشكيك في التاريخ: وقائع ورجال ومكتسبات، وبالحديث في الغرائب والمثيرات تسلية للمجتمع، والتشكيك في قدرات المجتمع وفي إمكانية نهوضه؛ لأن الواقع الذي يعيشه الناس –في الضمير الشعبي-، المعبر عن الفشل الذي ينال من المجتمع، هو نتيجة لكل تلك المكاسب والقدرات التي تصورها السلطة والمعارضة.

وينسى المجتمع أن واقعه قد ساهم في بنائه.. وأن التغيير يبدأ منه، وذلك لا يتحقق باليأس، وإنما يتحقق بالإيمان بالقدرات الذاتية، وبتثمين كل إيجابي في المجتمع وليس باصطياد المثالب والأخطاء وتتبع عورات المجتمع.

 


: الأوسمة



التالي
تأملات في مؤتمر العلماء والدعاة
السابق
من سنن الإصلاح

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع