البحث

التفاصيل

النفس ومراتبها

راد الله تعالى أن يخلق هذا الإنسان في أحسن تقويم، ومنحه أحسن الصفات وأكمل القدرات التي تؤهله للاستخلاف في الأرض؛ ليعمر الكون، وخلق داخل الإنسان أربعة أجهزة، وهي الروح والقلب والنفس والعقل، وهي الأساس في صلاح الإنسان فرداً وجماعة وأمة، وهي من الكلمات التي إذا افترقت اجتمعت، وإذا اجتمعت تفرقت، أي إذا توالى ذكرها أفادت كل منها معنىً مغايراً لمعنى الكلمة الأخرى، أما إذا ذكرت واحدة منها فإنها تفيد معاني الكلمات الأخرى.

وقد خصص الله تعالى لكل منها أدوارها وأمراضها وكيفية علاجها وغذاءها.

فالروح هي الحياة، وهي المصدر للحياة العزيزة، وإن غذاءها التلاوة والذكر، وعندما تكون مرتبطة بالله تعالى لا تخضع ولا تذل إلا لله تعالى، ومن الروح تنبثق جميع الصفات الخاصة بالإنسان، من الإرادة والاختيار والقدرة، ولكنها عندما تخضع لغير الله تعالى تصبح ذليلة منحطة شريرة.

والقلب هو محل الحب والكراهية والإخلاص لله تعالى، وهو محل الحقد والحسد، وقد تحدثنا في الخطبتين السابقتين عن الروح والقلب وأمراضهما وطرق إصلاحهما، واليوم نتحدث عن النفس التي ربط الله تعالى صلاحها وتغييرها بصلاح الأمة والجماعة والأفراد وتغييرها، قال تعالى:{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}، وقال تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}، وقد ذكر الله تعالى النفس ومشتقاتها في القرآن الكريم 296 مرة، وفي ذلك دلالة على وجوب الاهتمام والعناية بالنفس ورعايتها وتهذيبها وكبح جماحها.

ولعظمة هذه النفس وأهميتها أقسم الله تعالى بها في كثير من الآيات، وسماها بمسميات عديدة، منها قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ*وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}، هذه النفس هي محل الشهوات والأهواء، ومن تلك الشهوات شهوة البطن والفرج والسلطة والقوة والجاه، هذه السلطات يمكن أن يستخدمها الإنسان في الخير، وذلك إذا زكى نفسه من الشوائب، وعززها بالإيمان بالله تعالى، كما يمكن أن يستخدمها في الشر، وذلك إذا أهمل النفس وترك لها الحبل على الغارب.

شهوة السلطة فطري في طبع الإنسان، فيوم خلق الله تعالى آدم عليه السلام أودع فيه شهوة السلطة، لأنه بدون هذه الشهوة لن يعمر الكون، ولن تتحقق له وظيفة البناء، ولكن هذه الشهوة ــ شهوة السلطة ــ إذا أطلقت ولم تقيد بالمصالح العامة للأمة، وكانت عبارة عن رغبة من رغبات السلطان تصبح فتنة كبرى، وتؤدي إلى مصائب تعجز الأمة عن إيجاد حلول لها، وهذا هو المشاهد في عالمنا الإسلامي وبخاصة عالمنا العربي، إذ كل مصائب أمتنا عائدة إلى فساد أنفس معظم السلطات في العالم العربي والإسلامي.

النفس هي المسؤولة عن هذا الجانب الخطير، ولذلك ربط الله تعالى بها وبمعناها الخاص صلاح الفرد والجماعة والأمة، وتطورَ الأمم ونهوضها، وبالعكس أيضاً فإن فساد الإنسان والجماعة والأمم والتخلف والفقر والظلم والاستبداد، كل ذلك داخل في شهوة السلطة.

إن ذكر الله تعالى للنفس ومشتقاتها في 296 آية ليدل على أنه لا قيمة لأي شعيرة بدون تزكية النفس، لأن النفس إذا لم تزكَ أودت بالفرد والجماعة والأمة إلى كوراث اجتماعية.

لو نظرنا إلى عالمنا العربي لوجدناه يتمتع بالثروة والطاقة والقدرة ما لا يملكه الآخرون، حيث ينتج في اليوم الواحد أكثر من 35 مليون برميل من البترول، عدا غيره من الثروات الطبيعية، ورغم ذلك فإن عالمنا العربي مأوى للتخلف والجهل، والفقر والأوبئة، حيث وصلت نسبة الفقر فيه إلى 50%، وصنف دول جديدة في عالم الفقر لم تكن مصنفة فيه من قبل، مثل سورية والعراق واليمن، اليمن الذي أقرض في يوم ما صندوق النقد الدولي، وكان والي عمر على اليمن أبو موسى الأشعري يعود بثلث زكاة أهل اليمن إلى المدينة ومكة، واليوم يعاني اليمن من الفقر والوباء وسوء الغذاء، حيث تذكر تقارير الأمم المتحدة أن نسبة الفقر في اليمن حوالي 90%، وأن ما بين 400 إلى 500 ألف مصاب بالأوبئة الخطيرة، وأن حوالي مليون طفل يشكو من سوء الغذاء.

وكذلك العراق حيث كان يقطنها في عهد هارون الرشيد 30 مليون نسمة، وكان نهرا دجلة و الفرات يلتقيان في سبعة أفرع فيها، وكانت مشهورة بالنضرة والخضرة، حتى إن الكوفة والبصرة كانتا تمسيان بسواد العراق من كثرة أشجار النخيل فيهما، واليوم يصنف العراق من أكثر الدول فقراً وفساداً.

أين الخلل؟ وما السبب؟

إن السبب يمكن في النفس الأمارة بالسوء، وفي السلطة والأهواء، وسوء استعمال السلطة من قبل معظم من يتقلد زمام الأمور.

إن الله تعالى بين أن الجنة تكون لمن تحققت فيه صفتان، الأولى: الخوف من الله تعالى، والثانية: نهي النفس عن الهوى، ومنعها من التمادي، قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى*فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}.

فمن خاف مقامه بين يدي الله تعالى، وحسب حساباً ليوم القيامة، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم، يسارع إلى تطهير النفس من البوائق، ويزكيها من الشهوات التي تفضي به إلى الهلاك، وبذلك يستحق جنة المأوى، وأما من أهمل النفس وتربيتها، وأعطاها ما تصبو إليه، فعل أي شيء دون مبالاة، ولم يخف من العواقب، لذا يجب على كل فرد أن يزكي النفس ويروضها ويؤدبها.

إن القرآن الكريم قد قسّم النفس إلى قسمين؛ الأول: النفس الجيدة المقبولة، والثاني: النفس المرذولة التي لعنها الله تعالى.

والنفس المقبولة مقسمة إلى ثلاثة أقسام؛ الأول: موجودة في فطرة الإنسان قبل نزول الشرائع، حيث خلق الله تعالى في الإنسان فطرة حب الخير وكراهية الشر والسوء، وهو ما يسمى بالضمير، وقد سماها الله تعالى بالنفس اللوامة، وهي أول مراتب النفس المقبولة عند الله تعالى، قال تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ*وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}، وللربط بين القسَم بيوم القيامة والنفس اللوامة دلالة تشعر بأن النفس اللوامة الفطرية في الإنسان لن تستمر في فطرتها، ولن تبقى لوامة سليمة إلا إذا ارتبطت بالإيمان باليوم الآخر، وهو ما يُشعر الإنسان بالخوف من الله تعالى.

فالخوف من يوم القيامة وأهوالها، بدءاً من القبر وما فيه والإيمان بكل ذلك يبعد الإنسان عن الانهماك في الشهوات؛ شهوة النفس والجاه والسلطان.

والمراد بالنفس اللوامة، هي التي تلوم صاحبها على التقصير في فعل الخير، كما تلومه على ارتكاب الشر، وهي التي تدرك القضايا العامة بمحض الفطرة السليمة، والعقول السامية، فإذا فقد الإنسان هذه النفس سارع إلى الفساد والإفساد.

النوع الثاني من النفوس الجيدة المقبولة، النفس المطمئنة، ولا يتحقق لها الاطمئنان إلا بذكر الله تعالى، وليس المراد بالذكر هو لقلقة اللسان فحسب، وإنما المراد به أن يرتبط القلب ويتعلق بالله سبحانه، وأن لا يغفل عنه طرفة عين أو أقل من ذلك، وإن انشغل اللسان بغير ذكر الله تعالى، المهم أن يبقى القلب في يقظة وذكر الله تعالى، وإذا تهيأت للمرء أسباب الجاه وشهوات النفس جاءه الذكر فكان برهان ربه، فخاف الله تعالى واتقاه، وابتعد عن موارد الهلاك والضلال، قدوته في ذلك سيدنا يوسف عليه السلام حين تهيأت له شهوات الدنيا والجاه والسلطان، قال: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ}.

فإذا بقيت النفس في الاطمئنان تحولت من النفس المطمئنة إلى النفس الراضية المرضية، وهي قمة المقامات وهذا ما يسمى بالرضا والفرح والشكر على المصائب، حيث الإنسان بين ثلاث مقامات؛ الأول: الشكر على النعم، الثاني: الصبر على النقم، الثالث: الشكر على المصائب؛ لما في ذلك من الأجر، كما حدث لعروة بن الزبير، حيث قطعت رجله في مرض ألمَّ به فسجد شكراً لله تعالى، فقال له الطبيب: هذا المقام ليس مقام شكر، وإنما مقام الصبر ،فقال عروة: بل هو مقام الشكر، حيث أعطاني الله تعالى هذه الرجل ستين سنة، واليوم أخذها وأبقى لي واحدة، أفلا أشكره على ذلك؟

فإذا رجعت النفس المطمئنة إلى الله تعالى رجوعاً كاملاً مع الأخذ بالأسباب أصبحت راضية مرضية من قبل الله تعالى، ويكون صاحبها في العليين، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.

الخطبة الثانية:

الخطوة الأولى لطريق صحيح موصل إلى الله تعالى هي أن تكون أنفسنا لوامة، تعاتب على التقصير في الخير، وتلوم على الانغماس في الشهوات وفعل المنكرات، وبدون هذه النفس لن يكون هناك إيمان مؤثر، يقول الحسن البصري:" المؤمن دائماً يلوم نفسه، والكافر والمنافق دائماً يهمل نفسه".

وإذا فقد الإنسان النفس اللوامة، كانت نفسه هي الأمارة بالسوء، وهي النوع الثاني من الأنفس، وهي غير مقبولة عند الله تعالى.

اللهم أصلح أحوالنا.

30 / 11 / 2018


: الأوسمة



التالي
كتاب : فقه الجهاد الحلقة [ 40 ] : الباب الرابع : أهداف الجهاد (القتالي) في الإسلام الفصل الثاني : أهداف القتال في الإسلام ( 1 من 2)
السابق
حديث أبي الدرداء: العلماء ورثة الأنبياء

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع