البحث

التفاصيل

كتاب : فقه الجهاد الحلقة [ 39 ] : الباب الرابع : أهداف الجهاد (القتالي) في الإسلام الفصل الأول : رغبة الإسلام في السلم وكراهيته للحرب • تمهيد: أهداف الجهاد (القتالي) في الإسلام

الرابط المختصر :

إذا كان الجهاد في الإسلام بمعناه العام الواسع، أو بمعناه الضيق (القتال): فريضة في الجملة، بحيث لا يجوز للأمة أن تهمله وتتخلَّى عنه، وتَدَع نفسها مكشوفة مهدَّدة الحصون أمام أعدائها. فإننا في حاجة إلى تحديد أهداف هذا الجهاد بمعناه العسكري (القتال)، من خلال النصوص القرآنية والنبوية المُحكمة، فعلى ضوء هذه الأهداف المعلنة البيِّنة، تعرف حقيقة هذا الجهاد، أو هذا القتال، الذي شوَّهه المشوهوِّن، حتى من أبناء الإسلام أنفسهم.

• أهداف جهاد الدفع وجهاد الطلب

إن أهداف الجهاد بمعنى القتال تختلف باختلاف نوعي الجهاد.

• ( 1 ) أهداف جهاد الدفع:

فهناك جهاد يُعرَف باسم (جهاد الدفع)، أي دفع العدو إذا دخل بلدا من بلاد الإسلام، وهو جهاد المقاومة للغازي المحتل لأرض الإسلام، وهو الجهاد الذي يعتبره الفقهاء، فرض عين على أهل البلد المغزو.

فهذا الجهاد واضح الهدف، وهو مقاومة العدو الغازي بكل ما يُستطاع من قوة، حتى يجلو المحتل، ويرتد الغازي إلى حيث جاء، وتحرَّر أرض الإسلام من الغزاة.

وهذا النوع من الجهاد: لا نزاع فيه، ولا خلاف عليه، فقد اتَّفقت عليه كلُّ الشرائع والقوانين، ولا يستطيع أحد أن يرتاب في مشروعيته.

• ( 2 ) أهداف جهاد الطلب:

وأما الجهاد الذي يحتاج إلى تحديد هدفه، فهو ما يسمِّيه الفقهاء (جهاد الطلب)، أي الجهاد الذي يكون فيه العدو في بلده، ولكن المسلمين هم الذين يطلبونه ويغزونه في أرضه، فلماذا يطلبه المسلمون؟ أهو تعطُّش منهم للدماء، ورغبة عارمة في الاعتداء؟ وبعبارة أخرى: أهو طغيان القوة الذي عرَفناه في الإمبراطوريات طوال التاريخ، والتي تريد أن تبتلع كل ما تقدر عليه من حولها؟ أم هو الرغبة في احتلال أراضي الآخرين والطمع في خيراتها ومنافعها الدنيوية، ومكاسبها المادية؟

وإذا لم يكن كذلك - كما هو الواقع - فما هذه الأهداف؟ وما هذه الدوافع؟

وقبل أن نتحدَّث مباشرة عن الأهداف التي ينشدها الإسلام من وراء قتاله وحروبه، يجب أن نمهِّد ببحث عن رغبة الإسلام الأصيلة في السلام، وكراهيته للحرب.

وهذا ما نحاول أن نبيِّنه في الفصول التالية.

* * *

الفصل الأول : رغبة الإسلام في السلم وكراهيته الحرب

ومن اللازم هنا: أن نبيِّن أن الإسلام - على خلاف ما يتصوَّره أو يصوِّره بعض الناس - يرغَب في السلام، ويحرص عليه، ويدعو إليه، ويعتبره هدفا أصيلا لدعوته، كما يتجلَّى ذلك في تعاليمه وأحكامه وآدابه

وهو أيضا يكره الحرب، وينفر منها، ويحرص على أن يتفاداها ما استطاع، وإذا وقعت حاول أن يضيِّق دائرتها، وأن يقلِّل خسائرها، ويخفِّف من آثارها، ما وجد إلى ذلك سبيلا.

• ( 1 ) الإسلام والسلام من مادة واحدة:

فالإسلام والسلام - أو السلم - من الناحية الُّلغوية مشتقان من مادة واحدة، هي: (س ل م)، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:208]، وقد فسِّرت كلمة {السِّلْمِ} في الآية بـ(السلام) المقابل للحرب، كما يفيده ظاهرها، وبهذا تكون الآية دعوة للمؤمنين أن يدخلوا في السلام جميعا، ولا يُعرضوا عنه إذا دُعوا إليه. وفسِّرت أيضا كلمة {السِّلْمِ} بـ(الإسلام)، أيْ ادخلوا في شُعَب الإسلام كافَّة: عقائده وعباداته ومعاملاته وأخلاقياته وتشريعاته، فتدخلوا بذلك في السلم الحقيقي، السلْم مع أنفسكم، ومع أُسركم، ومع مجتمعاتكم، ومع الناس كافَّة.

ولفظة {السِّلْمِ} في أصل معناها، تعني: الاستسلام والانقياد وترك المنازعة، ومن هنا صلُحت لتشمل المعنيين معا: المعنى الأول: المسالمة والمصالحة وترك الحرب. والمعنى الآخر: الانقياد لله ولدينه ولشرائعه، وهو المعبَّر عنه بـ(الإسلام).

وقد رُوي عن ابن عباس ومفسِّري السلف: القولان كلاهما، ولا مانع من إرادتهما من النصِّ، واللفظ يشمل جميع معانيه التي يقتضيها المقام. ومن المعلوم: أن الاستسلام لأمر الله، والإخلاص له، يتضمَّن الوفاق والمسالمة بين الناس، وترك التنازع والقتال والحروب بين المهتدين به والمعتصمين بحبل الله.

والأمر بالدخول في السلم: يشعر بأنه حصن منيع للداخل في كنفه. وهو للكاملين منهم: أمر بالثبات والدوام عليه، والزيادة فيه، ولمَن دونهم بالتمكُّن منه، وتحرِّي الكمال فيه [1[

• ( 2 ) إشاعة كلمة السلام في المجتمع وجعله تحية الإسلام:

ومن روائع التوجيه والتربية هنا: أن الإسلام يُحبِّب إلى المسلم كلمة السلام، ومفهوم السلام بأساليب شتَّى، لا توجد في دين آخر، أو أيديولوجية أخرى.

فالسلام من أسماء الله تعالى الحسنى، التي يدعو المسلم ربَّه بها، ويتقرَّب إلى الله بذكرها، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180[

والمسلم يقرأ في القرآن: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ} [الحشر:23[

والمسلمون هم الأمة الوحيدة التي يوجد فيها اسم (عبد السلام) أي عبد الله.

والجنة التي يتوق إليها كل مؤمن، ويعمل حثيثا ليكون من أهلها، تُسمَّى (دار السلام)، كما قال تعالى: {لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:127[

وأكثر ما يسمع في هذه الجنة: كلمة السلام، فهي تحية المؤمنين في الآخرة: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب:44]، {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [يونس:10]، {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً * إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً} [الواقعة:26،25[

وكما أن السلام تحية المؤمنين في الآخرة، فهو تحيتهم في الدنيا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. و(إفشاء السلام) من أفضل خصال الإسلام. وقد جاء في جملة أحاديث: "أفشوا السلام" [2[

والمسلم إذا جلس في صلاته للتشهُّد: يلقي السلام على نبيه محمد، وعلى نفسه وأمته: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" [3]. ثم يخرج من الصلاة: بإلقاء تحية السلام عن يمينه وعن يساره، إيذانا بأنه كان في الصلاة في حالة سلام، فإذا انصرف من الصلاة استقبل الناس والحياة من حوله بالسلام. فهو سلام في عبادته، سلام في معاملته.

• ( 3 ) المسلم لا يتمنى الحرب ويسأل الله العافية:

والمسلم لا يتمنَّى الحرب ولا يحرص عليها لذاتها، بل يتمنَّى السلام والعافية، ولكن إذا فرضت عليه الحرب في سبيل الله خاضها بقوة وجسارة وصبر، مُوقنا أن له إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة.

يقول تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:216[

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه عبد الله بن أبي أوفى: "لا تتمنَّوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموه فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف" [4[

• ( 4 ) {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} ودلالة الآية على حب السلم:

والقرآن يُعقِّب على غزوة الأحزاب، التي هاجمت جموع المشركين فيها من قريش وغَطَفَان وأحابيشهما: الرسول والمؤمنين معه في عقر دارهم بالمدينة بأعداد هائلة، يبتغون إبادتهم وتصفيتهم جسديا وماديا، حتى لا تبقى لهم باقية. لولا أن عين الله لم تغفل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويده سبحانه لم تتركهم وحدهم، ولا سيما أن يهود بني قريظة انضمُّوا إلى المهاجمين، ونقضوا عهد الرسول في أحلك الأوقات وأحوجها إلى مساعدتهم: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:9-11[

والمقصود هنا: ما عقَّب به القرآن على هذه الغزوة حين قال: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب:25[

فانظر إلى هذه الكلمة المُعبِّرة:{وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ}، يذكرها تعالى في معرض الإنعام والامتنان على النبي والمؤمنين: أن المعركة انتهت بغير قتال، وبغير دماء، فقد كفى الله المؤمنين القتال. وهي نعمة جليلة تستحقُّ الشكر لله تعالى. ولا يتصوَّر أن يقول هذا دينٌ يتعطَّش للقتال، وإراقة الدماء.

• ( 5 ) القرآن يسمي صلح الحديبية {فَتْحاً مُبِيناً{

وفي غزوة الحديبية التي بايع الصحابة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، على الموت، أي القتال حتى الموت، وعدم الاستسلام بحال، ثم شاء الله تعالى أن يتفاوض المسلمون والمشركون، وأن ينتهوا إلى الصلح المعروف بـ(صلح الحديبية) والذي يتضمَّن هدنة مدَّتها عشر سنوات، تُغمد فيها السيوف، ويكفُّ كل فريق يده عن الآخر: ينزل هنا قرآن يُتلى، يسمِّي هذه الهدنة أو هذا الصلح: {فَتْحاً مُبِيناً}، وتنزل في ذلك سورة تسمَّى سورة (الفتح)، تبدأ بقوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} [الفتح:1]، ويسأل أحد الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفتح هو يا رسول الله؟ فيقول: "نعم هو فتح" [5]. استبعدوا أن يكون فتح بغير حرب، ولكن الله تعالى سمَّاه فتحا، بل فتحا مبينا، وامتنَّ به على رسوله عليه الصلاة والسلام، وأنزل في ذلك سورة سمِّيت (سورة الفتح(

وقال تعالى في هذه السورة مُمتنًّا: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح:24]، فهو هنا لا يمتنُّ بكفِّ أيدي المشركين عن المؤمنين فقط، بل يمتنُّ أيضا بكفِّ أيدي المؤمنين عن المشركين أيضا: {وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ}، فهذا هو التعبير الحقيقي عن حبِّ السلام الذي يسود الطرفين معا.

وإذا اضطر المسلمون أن يخوضوا معركة فُرضت عليهم، فإنهم مأمورون أن يُقلِّلوا من خسائرها البشرية والمادية ما أمكنهم، فلا يقتلون إلا مَن يقاتل: لا يقتلون امرأة ولا طفلا، ولا شيخا فانيا، ولا راهبا ولا فلاحا ولا تاجرا، إنما يقتلون مَن يقاتل فحسب.

كما أنهم لا يقطعون شجرا، ولا يهدمون بناء، ولا يفسدون في الأرض، ولا يقومون إلا بما تقتضيه ضرورة الحرب، وللضرورات أحكامها، وهي تقدَّر بقدرها. فقد قيَّد القرآن ارتكاب الضرورة بعدم البغي والعدوان، حين قال بعد تحريم أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلَّ به لغير الله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:173(

• ( 6 ) الجنوح لدعوة السلم إذا جنح العدو إليها:

ومع هذا كلِّه، يأمر القرآن المسلمين أن يستجيبوا لدعوة السلم إذا دُعُوا لها، ولو بعد وقوع الحرب، واشتعال وقودها، يقول تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:62،61[

حتى مع احتمال إرادة الخداع منهم، لا ينبغي أن تُرفض دعوة السلم بإطلاق، وإنما يجب أن نجنح لها كما جنحوا. على أن يتمَّ ذلك بشروطه وضوابطه الشرعية.

فليس من الجنوح للسلم بحال: أن تغتصب أرضي بالسيف، ثم تفاوضني على أن أترك لك بالصلح ما أخذتَه مني بالسيف، وتسمِّي ذلك جنوحا للسلم، فهذا أبعد ما يكون عن الجنوح للسلم، كما يفعل ذلك الصهاينة اليوم [6]! والشرط أن يتوافر من العدو الجنوح للسلم، حقيقة لا دعوى، وأن تظهر دلائل ذلك في مواقفه.

وهذا ما طبَّقه الرسول صلى الله عليه وسلم بالفعل، حين جنحت قريش إلى السلم يوم الحديبية، ولم يكن ذلك عن ضعف منه، ولا تقاعس من أصحابه، فقد بايعوه على الموت، ولكنه جنح للسلم، حين لمس من خصومه الجنوح إليها، فكان الصلح الشهير، والصلح خير. وقد تحقَّق من ورائه خير كثير لدعوة الإسلام، ودخل الكثيرون من القرشيين في دين الله، من أمثال خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، وغيرهما.

• ( 7 ) كراهة التسمية بـ(حرب(

ومن دلائل حرص الإسلام على السلم، ونفوره من الحرب: هذا الحديث النبوي الذي يقول: "أحبُّ الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن، وأصدق الأسماء: حارث وهمَّام، وأقبح الأسماء: حرب ومُرَّة" [7[

حتى لفظة (حرب) من المفردات التي يكره الإسلام تكرارها على ألسنة الناس، ولهذا يكرهها محمد صلى الله عليه وسلم، ويراها أقبح اسم يُسمَّى به إنسان، وقد كان العرب في الجاهلية يسمُّون أبناءهم بـ(حرب) مثل حرب بن أمية، والد (أبي سفيان بن حرب) وغيره.

وروى الإمام مالك في (الموطأ) عن يحيى بن سعيد - مرسلا - أن رسول الله قال لِلَقحَةٍ [8](ناقة) تُحلب: "مَن يحلب هذه؟". فقام رجل فقال: "ما اسمك؟". قال: مُرَّة، قال: "اجلس". ثم قال: "مَن يحلب هذه؟". فقام رجل، فقال: "ما اسمك؟". قال: حرب. قال: "اجلس". ثم قال: "مَن يحلب هذه؟". فقام رجل، فقال: "ما اسمك؟". قال: يعيش! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احلب" [9[

وروى الإمام أحمد في مسنده، وروى البخاري في الأدب المفرد، وغيرهما عن علي رضي الله عنه قال: لما ولد الحسن سمَّيتُه حربا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أروني ابني ما سمَّيتموه؟". قال: قلتُ: حربا. قال: "بل هو حسن". فلما ولد الحسين سمَّيتُه حربا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أروني ابني ما سمَّيتموه؟". قال: قلتُ: حربا. قال: "بل هو حسين". فلما ولد الثالث سمَّيتُه حربا، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أروني ابني ما سمَّيتموه؟". قلتُ: حربا. قال: "بل هو محسن" [10[

وفي إحدى الروايات: أن عليا قال: كنتُ أحبُّ أن أَكْتَنى بـ(أبي حرب) [11[

فهل يقول هذا إنسان متعطِّش للدماء، عاشق للحروب، كما تُصوِّره أقلام المتعصِّبين من المُنصِّرين والمُستشرقين وأمثالهم، ممَّن يقولون على الله وعلى رسله الكذب وهم يعلمون؟!

• ( 8 ) ثلث العام هدنة إجبارية:

ومن حرص الإسلام على السلم: أنه فرض على المسلمين هدنة إجبارية يمتنعون فيها عن القتال لمدَّة أربعة أشهر، أي ثلث العام، وهي الأشهر المعروفة بـ(الأشهر الحرم) وهي: ذو القعدة وذو الحِجَّة ومحرم ورجب: ثلاثة سرد، وواحد فرد. أي ثلاثة متتابعة، وواحد منفرد عنها. قال تعالى في سورة المائدة، وهي من أواخر ما نزل من القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} [المائدة:2[

وقال تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ} [المائدة:97]. وسياق الآية يجعل الشهر الحرام كالكعبة قياما للناس، فله من الثبوت ما للبيت الحرام، هذا في المكان، وهذا في الزمان.

وقال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ...} [البقرة:217]. فأقرَّ بأن القتال في الشهر الحرام ذنب كبير، وإن كان المشركون قد ارتكبوا ما هو أكبر منه عند الله.

ولكن إذا قوتل المسلمون في الشهر الحرام قاتلوا فيه ردًّا للعدوان، وتأديبا للمعتدين، حتى لا يجترئوا على المسلمين، مستغلِّين تعظيمهم للشهر الحرام، يقول تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة:194[

وقد ذهب الأئمة الأربعة والجمهور إلى أن تحريم القتال في الأشهر الحرم منسوخ.

وذهب عطاء وغيره إلى أنه ثابت غير منسوخ. وكان عطاء يحلف بالله: ما يحلُّ القتال في الشهر الحرام، ولا نَسَخَ تحريمَه شيء [12[

وقد ردَّ العلامة ابن القيم على كل الأدلة التي استدلَّ بها مَن قال بالنسخ، مُبيِّنا أن كل ما قيل فيه: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد قاتل في الشهر الحرام، أنه كان قتال دفاع لما بدأه العدو من عدوان على المسلمين. قال ابن القيم: (ولا خلاف في جواز القتال في الشهر الحرام إذا بدأ العدو، وإنما الخلاف أن يقاتل فيه ابتداء(

وذكر ابن القيم آية البقرة: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ...} [217]، وآية المائدة: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} [2]، ثم قال: (فهاتان آيتان مدنيتان، بينهما في النزول نحو ثمانية أعوام. وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ناسخ لحكمهما، ولا أجمعت الأمة على نسخه. ومَن استدلَّ على نسخه بقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة:36]، ونحوها من العمومات، فقد استدلَّ على النسخ بما لا يدلُّ عليه. ومن استدلَّ بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا عامر في سرية إلى أوطاس في ذي القعدة، فقد استدلَّ بغير دليل، لأن ذلك كان من تمام الغزوة التي بدأ فيها المشركون بالقتال، ولم يكن ابتداء منه لقتالهم في الشهر الحرام) [13]اهـ.

• ( 9 ) الحج تدريب للمسلم على السلام:

ومن عناية الإسلام بالسلام: أنه فرض على كلِّ مسلم في العمر مرة عبادة خاصة، وهي حجُّ البيت الحرام، وهي عبادة يتدرَّب المسلم فيها على السلام، فهي تتمُّ عادة في الشهر الحرام في ذي الحِجَّة، وفي البلد الحرام مكة المكرمة، وفي حالة الإحرام، فتحوطه حرمة الزمان، وحرمة المكان، وحرمة الحال، حال الإحرام، الذي يحظر عليه فيه كلَّ قتل حتى قتل الصيد، كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ...} [المائدة:95[

فالمسلم في هذه الرحلة: سلام لكلِّ مَن حوله، وكلِّ ما حوله، حتى الصيد يمتنع من صيده وقتله، بل حتى الأشجار والحشائش يحرِّم عليه أن يقطعها.

وكل مسلم عليه أن يقوم برحلة السلام هذه مرَّة في عمره فرضا من الله، وله أن يحجَّ ويعتمر تطوعا ما يسَّر الله له ذلك، ابتغاء مرضاة الله.


: الأوسمة



التالي
حوار مجلة المجتمع حول المقاصد الشرعية مع الدكتور وصفي أبو زيد
السابق
بُشرى الأستاذ الدكتور عماد الدين خليل بعد قراءتي كتابه "أشهد أن لا إله إلا أنت؛ سيرة ذاتية"

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع