البحث

التفاصيل

كتاب : فقه الجهاد الحلقة [ 37 ] : الباب الثالث : الجهاد بين الدفاع والهجوم (مناقشة أدلة الفريقين من الهجوميين والدفاعيين)

الرابط المختصر :

 

الفصل الحادي عشر : فلسفة إخضاع السلطات الطاغية والأنظمة الجاهلية لنظام الإسلام

• دعوى مرحلية النصوص :

هناك فريق من إخواننا العلماء والدعاة المعاصرين، الذين لا نشكُّ في إخلاصهم لدينهم، وغَيْرتهم على إسلامهم، وصدقهم في توجُّههم: دافعوا عما ذهب إليه جمهور العلماء القدامى بحرارة وحماس، وتركوا لأسنَّة أقلامهم البليغة تصول وتجول، مدافعة عن الجهاد الإسلامي، وأنه (جهاد هجومي)، يعلن الحرب على العالم كله: مَن قاتل المسلمين ومَن سالمهم وكفَّ أيديه عنهم، وألقى إليهم السلم. وما يعارض هذا التوجه من آيات كثيرة ومن أحاديث صحيحة: لا يلتفت إليه، ولا يعيره انتباها، فإن هذه النصوص كلها موجودة حسًّا، معدومة معنى. إنها (نصوص مرحلية)، عُمِل بها في وقت ما، ثم انقضى زمنها، وبطل مفعولها، إنها بالعبارة التراثية (نصوص منسوخة أو مُنسأة(

ما الذي نسخها ونحن نتلوها في كتاب ربنا، ونتعبَّد بتلاوتها ليل نهار؟! إن الذي نسخها ونسخ غيرها - وهي كما قيل: نحو مائة وأربع عشرة آية، أو مائة وأربعين آية، أو مائتي آية – كلها نسختها آية واحدة، أو جزء من آية ، إنها (آية السيف(!

وهكذا بضربة واحدة قاضية، عطَّل هؤلاء هذه النصوص من كتاب الله الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

• عيب بعض المتحدثين عن الجهاد الهجومي :

عيب هؤلاء الإخوة من العلماء والدعاة يتمثَّل عندي في خصلتين رئيستين:

الأولى: أنهم يتحدَّثون عن هذا الأمر المختلَف فيه، وكأنه قضية إجماعية، أو كأنه معلوم من الدين بالضرورة، والأمر على خلاف ذلك، كما بيَّناه في موضعه، حتى وجد من الصحابة ومَن تبعهم بإحسان، مَن قال: إن الجهاد - جهاد الطلب - تطوُّع لا فرض. ومَن قال: إن فرض الكفاية المطلوب من الأمة هو إعداد القوة التي ترهب الأعداء، وتحصِّن الثغور.

الثانية: اتهامهم لكل مَن يخالفهم بالسذاجة والغفلة والبَلَه: من الناحية العقلية، وبالاستخذاء والروح الانهزامية: من الناحية النفسية، ووقوعهم أُسارى تحت ضغط الاستشراق الماكر، وتحت ضغط الواقع المعاصر. ونحو ذلك من التُّهم التي لا تقوم على نقل صحيح، ولا عقل صريح، وما ينبغي لعالم باحث أن يتَّهم مخالفيه في الرأي بمثل هذا، إلا إذا كان من باب التأثير النفسي (السيكولوجي) على الخصم، أو القصف الإعلامي المتعمد لإرهابه وإرباكه.

وأشد الناس في ذلك: المدرسة (الحرفية) في فهم النصوص، أو من سمَّيتُهم في بعض دراساتي (الظاهرية الجدد)، وإن كان بعضهم يدَّعي (السلفية) أو (السلفية الجهادية)!

ومن هؤلاء: الجماعات التي تبنَّت بدعة (الغلو في التكفير)، وكفَّروا الناس بالجملة، أفرادا وحكومات وأنظمة، مثل (جماعة المسلمين) التي عُرفت باسم (جماعة التكفير والهجرة).

ومن هؤلاء: جماعات (الجهاد) التي ظهرت في مصر، وفي الجزائر، واليمن وغيرها. وكذلك (الجماعة الإسلامية) في مصر، ومن عباءة هؤلاء ظهر أخيرا (تنظيم القاعدة).

وقد بينَّا فيما سبق كيف رَاجَعَتْ بعض هذه الجماعات أنفسها، كما فعلت (الجماعة الإسلامية) في مصر، التي أصدرت عِدَّة كتب أطلقت عليها سلسلة (المراجعات) أو (تصحيح المفاهيم)، وأحمد الله تعالى: أنهم رجعوا إلى كتبي ينقلون منها الصفحات الطوال، بعد أن كانت من قبل مرفوضة عندهم، وكانوا يحرِّمون قراءتها على أتباعهم! فها هم يعترفون بخطئهم فيما مضى، ويعودون إلى حظيرة الأمة. ولا ريب أن هذا يحسب لهم في ميزانهم: أن يكون لديهم من الشجاعة الأدبية ما يدفعهم إلى الاعتراف بالخطأ علانية، والسعي إلى تصويبه بمنطق علمي فقهي رصين . وقد نهج نهجهم أخيرا: جماعة الجهاد في مصر.

• الداعيان الكبيران المودودي وسيد قطب:

ومن هؤلاء الهجوميين: بعض الدعاة الكبار، الذين لهم وزنهم وقدرهم في ساحة الدعوة الإسلامية، ولكنهم تأثَّروا في نظرتهم إلى الجهاد - وإن لم يريدوا - بفلسفة الشيوعية ونظريتها في (الثورة العالمية) التي تريد أن تغيِّر العالم، وأن تسوقه سوقا إلى اعتناق مبادئها في النظرة إلى الكون والإنسان، والفرد والمجتمع، وصراع الطبقات، ودكتاتورية البروليتاريا (الطبقة العاملة). وقد انتهت بالإخفاق والفشل، كما رأينا في سقوط الاتحاد السوفيتي، الذي كان يحمل لواء النظرية الشيوعية، وثورتها العالمية.

لا أعني أن هؤلاء متأثرون بالشيوعية، فهم أعداؤها – عقيدة وفكرا وعاطفة - بكل تأكيد، وهم دعاة الإسلام عقيدة وشريعة، ودعوة ودولة، بلا مِراء، ولكنهم تأثَّروا بنظريتها في التغيير. كما تأثروا بما هو شائع في فقهنا التقليدي من وجوب غزو الكفار كل سنة.

من هؤلاء الداعيان الكبيران: أبو الأعلى المودودي في باكستان، وسيد قطب في مصر، وكان سيد أشدهما حماسا للفكرة، وأقساهما في التنديد بمخالفيه، وإن كان المودودي أسبق منه في الدعوة إليها.

• فكرة الشهيد سيد قطب في قتال العالم:

يقول سيد قطب في ظلال القرآن:

(والمهزومون رُوحيا وعقليا ممَّن يكتبون عن (الجهاد في الإسلام)، ليدفعوا عن الإسلام هذا (الاتهام) ... يخلطون بين منهج هذا الدين في النص على استنكار الإكراه على العقيدة، وبين منهجه في تحطيم القوى السياسية المادية التي تحول بين الناس وبينه؛ والتي تعبِّد الناس للناس؛ وتمنعهم من العبودية لله ... وهما أمران لا عَلاقة بينهما، ولا مجال للالتباس فيهما ... ومن أجل هذا التخليط - وقبل ذلك من أجل تلك الهزيمة! - يحاولون أن يحصُروا الجهاد في الإسلام فيما يسمُّونه اليوم: (الحرب الدفاعية) ... والجهاد في الإسلام أمر آخر لا عَلاقة له بحروب الناس اليوم، ولا بواعثها، ولا تكييفها كذلك ... إن بواعث الجهاد في الإسلام ينبغي أن نلمسها في طبيعة (الإسلام) ذاته، ودوره في هذه الأرض، وأهدافه العليا التي قرَّرها الله، وذكر الله أنه أرسل من أجلها هذا الرسول بهذه الرسالة، وجعله خاتم النبيين وجعلها خاتمة الرسالات ...

إن هذا الدين إعلان عام لتحرير (الإنسان) في (الأرض) من العبودية للعباد – ومن العبودية لهواه أيضا وهي من العبودية للعباد – وذلك بإعلان ألوهية الله وحده – سبحانه - وربوبيته للعالمين ... إن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها: الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صُورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها؛ والتمرُّد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصُور ... أو بتعبير آخر مرادف: الألوهية فيه للبشر في صورة من الصُور ... ذلك أن الحكم الذي مردُّ الأمر فيه إلى البشر، ومصدر السلطات فيه هم البشر، هو تأليه للبشر، يجعل بعضهم لبعض أربابا من دون الله ... إن هذا الإعلان معناه انتزاع سلطان الله المغتصَب وردُّه إلى الله؛ وطرد المغتصبين له؛ الذين يحكمون الناس بشرائع من عند أنفسهم فيقومون منهم مقام الأرباب، ويقوم الناس منهم مقام العبيد ... إن معناه تحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة الله في الأرض ... أو بالتعبير القرآني الكريم:

{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84[

{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ...} [يوسف:40[

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64[.

ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولَّى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم – هم رجال الدين كما كان الأمر في سلطان الكنيسة، ولا رجال ينطقون باسم الآلهة، كما كان الحال فيما يعرف باسم (الثيوقراطية) أو الحكم الإلهي المقدس!!! ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة؛ وأن يكون مردُّ الأمر إلى الله وِفق ما قرَّره من شريعة مبينة.

وقيام مملكة الله في الأرض، وإزالة مملكة البشر، وانتزاع السلطان من أيدي مغتصبيه من العباد وردُّه إلى الله وحده، وسيادة الشريعة الإلهية وحدها وإلغاء القوانين البشرية ... كل أولئك لا يتمُّ بمجرد التبليغ والبيان. لأن المتسلِّطين على رقاب العباد، المغتصبين لسلطان الله في الأرض، لا يسلِّمون في سلطانهم بمجرد التبليغ والبيان. وإلا فما كان أيسر عمل الرسل في إقرار دين الله في الأرض! وهذا عكس ما عرَفه تاريخ الرسل – صلوات الله وسلامه عليهم – وتاريخ هذا الدين على ممر الأجيال!

إن هذا الإعلان العام لتحرير (الإنسان) في (الأرض) من كل سلطان غير سلطان الله، بإعلان ألوهية الله وحده وربوبيته للعالمين، لم يكن إعلانا نظريا فلسفيا سلبيا ... إنما كان إعلانا حركيا واقعيا إيجابيا ... إعلانا يراد له التحقيق العملي في صورة نظام يحكم البشر بشريعة الله؛ ويُخرجهم بالفعل من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك ... ومن ثَمَّ لم يكن بد من أن يتخذ شكل (الحركة) إلى جانب شكل (البيان) ... ذلك ليواجه (الواقع) البشري بكل جوانبه بوسائل مكافئة لكل جوانبه.

والواقع الإنساني، أمس واليوم وغدا، يواجه هذا الدين – بوصفه إعلانا عاما لتحرير (الإنسان) في (الأرض) من كل سلطان غير سلطان الله – بعقبات اعتقادية تصورية، وعقبات مادية واقعية ... عقبات سياسية واجتماعية واقتصادية وعنصرية وطَبَقية، إلى جانب عقبات العقائد المنحرفة والتصورات الباطلة ... وتختلط هذه بتلك، وتتفاعل معها بصورة معقَّدة شديدة التعقيد.

وإذا كان (البيان) يواجه العقائد والتصورات، فإن (الحركة) تواجه العقبات المادية الأخرى، وفي مقدمتها السلطان السياسي القائم على العوامل الاعتقادية التصورية، والعنصرية والطبقية، والاجتماعية والاقتصادية المعقدة المتشابكة ... وهما معا – البيان والحركة - يواجهان (الواقع البشري) بجملته، بوسائل مكافئة لكل مكوناته ... وهما معا لا بد منهما لانطلاق حركة التحرير للإنسان في الأرض ... (الإنسان) كله في (الأرض) كلها ... وهذه نقطة هامة لا بد من تقريرها مرة أخرى!

إن هذا الدين ليس إعلانا لتحرير الإنسان العربي! وليس رسالة خاصة بالعرب! إن موضوعه هو (الإنسان) ... نوع (الإنسان) ... ومجاله هو (الأرض)... كل الأرض. إن الله سبحانه ليس ربًّا للعرب وحدهم ولا حتى لمَن يعتنقون العقيدة الإسلامية وحدهم ... إن الله هو {رَبِّ الْعَالَمِينَ}... وهذا الدين يريد أن يردَّ {الْعَالَمِينَ} إلى ربهم؛ وأن ينتزعهم من العبودية لغيره. والعبودية الكبرى - في نظر الإسلام - هي خضوع البشر لأحكام يشرعها لهم ناس من البشر ... وهذه هي (العبادة) التي يقرِّر أنها لا تكون إلا لله، وأن مَن يتوجه بها لغير الله يخرج من دين الله مهما ادَّعى أنه في هذا الدين. ولقد نصَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أن (الاتباع) في الشريعة والحكم هو (العبادة) التي صار بها اليهود والنصارى (مشركين) مخالفين لما أُمروا من (عبادة) الله وحده [1[

ومن ثَمَّ لم يكن بد للإسلام أن ينطلق في (الأرض) لإزالة (الواقع) المخالف لذلك الإعلان العام ... بالبيان وبالحركة مجتمعين ... وأن يوجِّه الضربات للقوى السياسية التي تعبِّد الناس لغير الله – أي تحكمهم بغير شريعة الله وسلطانه – والتي تحول بينهم وبين الاستماع إلى (البيان) واعتناق (العقيدة) بحرية لا يتعرَّض لها السلطان. ثم لكي يقيم نظاما اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا يسمح لحركة التحرُّر بالانطلاق الفعلي – بعد إزالة القوة المسيطرة – سواء كانت سياسية بحتة، أو متلبِّسة بالعنصرية أو الطبقية داخل العنصر الواحد!

إنها سذاجة أن يتصوَّر الإنسان دعوة تعلن تحرير (الإنسان) نوع الإنسان في (الأرض) كل الأرض ... ثم تقف أمام هذه العقبات تجاهدها باللسان والبيان! إنها تجاهد باللسان والبيان حينما يخلَّى بينها وبين الأفراد، تخاطبهم بحرية، وهم مطلقو السراح من جميع تلك المؤثرات ... فهنا: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256]... أما حين توجد تلك العقبات والمؤثرات المادية، فلا بد من إزالتها أوَّلاً بالقوة، للتمكن من مخاطبة قلب الإنسان وعقله؛ وهو طليق من هذه الأغلال!

إن الجهاد ضرورة للدعوة. إذا كانت أهدافها هي إعلان تحرير الإنسان إعلانا جادًّا يواجه الواقع الفعلي بوسائل مكافئة له في كل جوانبه؛ ولا يكتفي بالبيان الفلسفي النظري السلبي! سواء كان الوطن الإسلامي – وبالتعبير الإسلامي الصحيح: دار الإسلام – آمنا أم مهدَّدا من جيرانه. فالإسلام حين يسعى إلى السلم، لا يقصد تلك السلم الرخيصة؛ وهي مجرد أن يأمن على الرقعة الخاصة التي يعتنق أهلها العقيدة الإسلامية. إنما هو يريد السلم التي يكون الدين فيها كله لله. أن تكون عبودية الناس كلهم فيها لله؛ والتي لا يتخذ فيها الناس بعضهم بعضا أربابا من دون الله. والعبرة بنهاية المراحل التي وصلت إليها الحركة الجهادية في الإسلام – بأمر من الله - لا بأوائل أيام الدعوة ولا بأوسطها.

حقا إنه لم يكن بد لهذا الدين أن يدافع المهاجمين له. لأن مجرد وجوده، في صورة إعلان عام لربوبية الله للعالمين، وتحرير الإنسان من العبودية لغير الله، وتمثُّل هذا الوجود في تجمع تنظيمي حركي تحت قيادة جديدة غير قيادات الجاهلية، وميلاد مجتمع مستقل متميِّز لا يعترف لأحد من البشر بالحاكمية، لأن الحاكمية لله وحده ... إن مجرد وجود هذا الدين في هذه الصورة لا بد أن يدفع المجتمعات الجاهلية من حوله، القائمة على قاعدة العبودية للعباد، أن تحاول سحقه، دفاعا عن وجودها ذاته. ولا بد أن يتحرك المجتمع الجديد للدفاع عن نفسه ...

هذه ملابسة لا بد منها. تولد مع ميلاد الإسلام ذاته. وهذه معركة مفروضة على الإسلام فرضا، لا خيار له في خوضها. وهذا صراع طبيعي بين وجودين لا يمكن التعايش بينهما طويلا ...

هذا كله حق ... ووفق هذه النظرة يكون لا بد للإسلام أن يدافع عن وجوده. ولا بد أن يخوض معركة دفاعية مفروضة عليه فرضا.

ولكن هناك حقيقة أخرى أشدُّ أصالة من هذه الحقيقة ... إن من طبيعة الوجود الإسلامي ذاته أن يتحرَّك إلى الأمام ابتداء؛ لإنقاذ (الإنسان) في (الأرض) من العبودية لغير الله. ولا يمكن أن يقف عند حدود جغرافية؛ ولا أن ينزوي داخل حدود عنصرية؛ تاركا (الإنسان) ... نوع الإنسان ... في (الأرض) ... كل الأرض ... للشرِّ والفساد والعبودية لغير الله.

إن المعسكرات المعادية للإسلام قد يجيء عليها زمان تُؤثِر فيه ألا تهاجم الإسلام، إذا تركها الإسلام تزاول عبودية البشر للبشر داخل حدودها الإقليمية؛ ورضي أن يَدَعها وشأنها، ولم يمدَّ إليها دعوته وإعلانه التحريري العام! ولكن الإسلام لا يهادنها، إلا أن تعلن استسلامها لسلطانه في صورة أداء الجزية، ضمانا لفتح أبوابها لدعوته بلا عوائق مادية من السلطات القائمة فيها.

هذه طبيعة الدين، وهذه وظيفته بحكم أنه إعلان عام لربوبية الله للعالمين وتحرير الإنسان من كل عبودية لغير الله في الناس أجمعين!

وفرق بين تصوُّر الإسلام على هذه الطبيعة، وتصوُّره قابعا داخل حدود إقليمية عنصرية، لا يحرِّكه إلا خوف الاعتداء! إنه في هذه الصورة الأخيرة يفقد مبرِّراته الذاتية في الانطلاق!

إن مبرِّرات الانطلاق الإسلامي تبرُز بوضوح وعمق، عندما تذكر أن هذا الدين هو منهج الله للحياة البشرية، وليس منهج إنسان، ولا مذهب شيعة من الناس، ولا نظام جنس من الأجناس! ونحن لا نبحث عن مبرِّرات خارجية إلا حين تفتُر في حسنا هذه الحقيقة الهائلة ... حين ننسى أن القضية هي قضية ألوهية الله وعبودية العباد ... إنه لا يمكن أن يستحضر إنسان ما هذه الحقيقة الهائلة ثم يبحث عن مبرِّر آخر للجهاد الإسلامي!

والمسافة قد لا تبدو كبيرة عند مفرق الطريق، بين تصوُّر أن الإسلام كان مضطرا لخوص معركة لا اختيار له فيها، بحكم وجوده الذاتي ووجود المجتمعات الجاهلية الأخرى التي لا بد أن تهاجمه. وتصوُّر أنه هو بذاته لا بد أن يتحرك ابتداء، فيدخل في هذه المعركة.

المسافة عند مفرق الطريق قد لا تبدو كبيرة. فهو في كلتا الحالتين سيدخل المعركة حتما. ولكنها في نهاية الطريق تبدو هائلة شاسعة، تغيِّر المشاعر والمفهومات الإسلامية تغييرا كبيرا ... خطيرا ...

إن هناك مسافة هائلة بين اعتبار الإسلام منهجا إلهيا، جاء ليقرِّر ألوهية الله في الأرض، وعبودية البشر جميعا لإله واحد، ويصبُّ هذا التقرير في قالب واقعي، هو المجتمع الإنساني الذي يتحرَّر فيه الناس من العبودية للعباد، بالعبودية لرب العباد، فلا تحكمهم إلا شريعة الله، التي يتمثَّل فيها سلطان الله، أو بتعبير آخر تتمثل فيها ألوهيته.. فمن حقِّه إذن أن يزيل العقبات كلَّها من طريقه، ليخاطب وجدان الأفراد وعقولهم دون حواجز ولا موانع مصطنعة من نظام الدولة السياسي أو أوضاع الناس الاجتماعية ... إن هناك مسافة هائلة بين اعتبار الإسلام على هذا النحو، واعتباره نظاما محليا في وطن بعينه. فمن حقه فقط أن يدفع الهجوم عليه في داخل حدوده الإقليمية!

هذا تصور ... وذاك تصور ... ولو أن الإسلام في كلتا الحالتين سيجاهد... ولكن التصوُّر الكلي لبواعث هذا الجهاد وأهدافه ونتائجه، يختلف اختلافا بعيدا، يدخل في صميم الاعتقاد كما يدخل في صميم الخُطة والاتجاه) [2]انتهى.

• تعقيب ومناقشة:

وإني - بعد نقل هذه الفقرات الطويلة - لا أملك إلا أن أُقدِّر للشهيد سيد قطب إخلاصه وحماسه في الدفاع عن قضيته، وأحيي قلمه البليغ على ما قدَّمه من اعتبارات لها وزنها وتأثيرها، تؤيِّد وِجهة نظره، وتهاجم المخالفين هجوما حاد النبرة، عالي الصوت، من شأنه أن يخوِّفهم، ويخرس ألسنتهم فلا تنطق، وأقلامهم فلا تكتب.

ومع هذا كله أودُّ أن أناقش في هدوء ما ساقه داعيتنا الأديب الكبير رحمه الله مبديا هذه الملاحظات الأساسية:

• ست ملاحظات على كلام الشهيد سيد قطب:

أولا: لم يكن الأستاذ دقيقا في عرضه لفكرة خصوم الجهاد الهجومي على العالم.

فلم يقل واحد من هؤلاء – ابتداء من محمد عبده ورشيد رضا وشلتوت ودراز وخلاَّف وأبي زهرة وحسن البنا والسباعي والغزالي وعبد الله بن زيد المحمود، ومَن بعدهم – باعتبار الإسلام نظاما محليا مقصورا على وطن بعينه، فمن حقه أن يدفع الهجوم عليه في داخل حدوده الإقليمية.

بل اعتبره كل هؤلاء دعوة عالمية، من حقها أن تبلَّغ إلى العالمين، وأي وقوف في وجهها، أو صدٍّ عن سبيلها، أو عدوان على الدعاة إليها، يجعل لها الحق في الجهاد، تأمينا لحرية الدعوة، ومنعا للفتنة الصادَّة عنها، وهذا معنى: {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة:193، الأنفال:39]، أي حتى لا يُفتن أحد ولا يُضطهد من أجل عقيدته، بل يجب أن يكون الناس أحرارا فيما يختارون لأنفسهم. وهذا ما سنشرحه في بيان أهداف القتال في الإسلام، فأحدها ردُّ العدوان على المسلمين أنفسهم وأموالهم وأرضهم.

ومنها: منع الفتنة في الدين، وإنقاذ المستضعفين، وتأديب الناكثين للعهود.

ثانيا: رفض الأستاذ قطب رحمه الله فكرة في غاية الوضوح والجلاء، وهي: أن الإسلام بطبيعة دعوته العالمية الإيجابية، وبصفته دعوة إلى تحرير البشر من الطواغيت، وتحرير الإنسان من العبودية للإنسان، وأنه ليس دينا مغلقا على نفسه، أو قانعا بالعزلة في أرضه، لا بد لدين بهذه القوة: أن تقاومه الجاهليات الحاكمة بأمرها في بلاد الله، وِفقا لسنة التدافع بين الخلق، فهو بهذا مضطَّر أن يخوض المعركة دفاعا عن رسالة الحق والخير والعدل والتوحيد، وعن أصحابها، ويواجه المعتدين، وهو يعتقد أنه يقاتل في سبيل الله، وأعداؤه يقاتلون في سبيل الطاغوت، ولو تركه خصومه يُسمع دعوته، ويُبلِّغ رسالته، ما دخل معهم هذه الحرب، فهم الذي اضطروه إليها، وهو ما ذكره القرآن في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216[

ثالثا: أعلن الأستاذ سيد: أن الدعوة إلى الإسلام يمكن أن تكتفي بالجهاد بالبيان واللسان حين يُخلَّى بينها وبين الأفراد، تخاطبهم بحرية، وهم مطلقو السراح من جميع المؤثرات المادية والسياسية، فهنا: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [3]، أما حين توجد تلك العقبات والمؤثرات المادية، فلا بد من إزالتها أولا بالقوة، للتمكُّن من مخاطبة قلب الإنسان وعقله، وهو طليق من هذه الأغلال.

وأقول للأستاذ رحمه الله: إن عصرنا هذا قد أتاح لنا أن نخاطب عقل الإنسان وقلبه في أنحاء العالم، بوسائل شتَّى: بالإذاعات الموجَّهة، والقنوات الفضائية، وشبكة الإنترنت، والرسائل المكتوبة بشتَّى اللغات، وهذه تحتاج منا إلى جيوش جرَّارة من الدعاة والمعلمين والإعلاميين المدرَّبين، القادرين على مخاطبة الناس بلغاتهم، وبلسان عصرهم، وأساليب زمنهم، عن طريق الصوت والصورة، والكلمة والحركة، والكتاب والنشرة، والمجلة والصحيفة، والحوار والتحقيق الصحفي، والعمل الدرامي، والصُور المتحركة، وكلِّ ما يشدُّ الناس إلى الإسلام، وهذا الجهاد السلمي الضروري لم نقُم فيه بواحد من الألف مما هو مطلوب منا.

فلسنا في حاجة إلى إعلان الحرب على القوى السياسة التي تحكم العالم، لأنها لم تعُد تستطيع أن تمنع إنسانا يشاهد فضائية، أو يسمع إذاعة، أو يدخل شبكة الإنترنت.

رابعا: نسى الشهيد رحمه الله: الآيات والأحاديث الكثيرة التي قيَّدت القتال المطلوب بأنه لمَن قاتلنا، ونهتنا عن الاعتداء: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [البقرة:190]، {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} [النساء:90]، {فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُبِيناً} [النساء:91]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208]، {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال:61]، {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:7]، {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة:6]، {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8].

كيف هان على سيد قطب – وهو رجل القرآن - الإعراض عن هذه الآيات كلِّها وغيرها بدعوى أنها جاءت لمرحلة ثم انتهى أمرها، وبطل مفعولها؟ أو حكم عليها بالإعدام باسم (النسخ)؟ أو أي اسم آخر؟

والأصل فيما أنزل الله تعالى من النصوص، هو: البقاء والخلود واستمرار العمل بها، ما لم يوجد يقين قاطع لا شكَّ فيه بنسخ هذا النص. وإني لأتهيَّب كل التهيُّب أن أقول عن آية من كتاب الله، مكتوبة في المصاحف، متلوَّة بالألسنة: هذه آية مُلغاة!! أو كانت مطلوبة في مرحلة، ثم تجاوزها الزمن!!

وهناك أحاديث أخرى، مثل: "لا تتمنَّوا لقاء العدو وسلوا الله العافية" [4]، "اتركوا الترك ما تركوكم، ودَعُوا الحبشة ما وَدَعُوكم" ،[5] وغيرها، يجب ألا نغفلها.

خامسا: إن سيد قطب بتوجهه هذا وتفكيره هذا: يعادي العالم كله، مَن سالمه ومَن حاربه على حدٍّ سواء، مَن عاهده ومَن لم يعاهده، ويتحدَّى العالم كلَّه، ويستنفرَّ العالم كلَّه ليقف ضدَّ المسلمين، فهم خطر على العالم كلِّه إذا ملكوا القوة والقدرة، ترى ماذا سيكون مصير العالم لو ملك المسلمون ما تملكه أمريكا اليوم من قوة عسكرية، وقوة اقتصادية، وقوة علمية وتكنولوجية، وأسلحة نووية؟ إنهم لا شكَّ سيُخضعون العالم كله لسلطانهم، وهذا ما تريده أمريكا اليوم: إخضاع العالم لفلسفتها وإرادتها.

سنقول: نحن نخضع العالم لسلطان الحق والخير، لا لإذلال البشر، ولا لانتهاب خيراتهم، ولا لإكراههم على ما نريد، وأمريكا تزعم ذلك أيضا، تقول: أنا أريد أن أشيع فلسفة الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان. أريد أن أعلِّم الدنيا حضارتي، بل أسعى لأفرضها عليها، وأسوقها إليها سوقا! لأن في ذلك خيرها وسعادتها !

سادسا: كان الأستاذ سيد رحمه الله رحمة واسعة، قاسيا شديد الوطأة على مخالفيه، فهم – عنده - المهزومون رُوحيا وعقليا، الموسومون بالسذاجة والبَلَه، الغافلون عن منهج الإسلام وطبيعة دعوته، ومخالفوه هؤلاء هم أعلام الأمة وعمالقة الفكر والفقه والدعوة: محمد عبده، رشيد رضا، جمال الدين القاسمي، محمد مصطفى المراغي، محمود شلتوت، حسن البنا، مصطفى السباعي، محمد عبد الله دراز، عبد الوهاب خلاَّف، محمد أبو زهرة، على الخفيف، محمد يوسف موسى، محمد الغزالي، سيد سابق، عبد الله بن زيد آل محمود، محمد مصطفى شلبي، مصطفى زيد، وغيرهم وغيرهم، من العلماء الأعلام، الذين انتقلوا إلى رحمة الله، وفي الأحياء كثير من أهل العلم والفكر والدعوة، ممَّن لا يقلُّ فضلا عن هؤلاء الأموات.


: الأوسمة



التالي
هل المساواة في الميراث تحقق العدالة؟
السابق
العلماء المعاصرون وآراؤهم في الفكر الإباضي... أحمد توفيق المدني نموذجاً

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع