البحث

التفاصيل

كتاب : فقه الجهاد .. دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته في ضوء القرآن والسنة الحلقة [ 27 ] : الباب الثالث : الجهاد بين الدفاع والهجوم (مناقشة أدلة الفريقين من الهجوميين والدفاعيين(

كتاب : فقه الجهاد .. دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته في ضوء القرآن والسنة الحلقة [ 27 ] : الباب الثالث : الجهاد بين الدفاع والهجوم (مناقشة أدلة الفريقين من الهجوميين والدفاعيين(

الفصل الرابع : آية السيف وما قيل: إنها نسخت (140) آية ( 2 من 4)

• التضييق في دعاوى النسخ:

على أن الذي يُهمُّنا هنا أن نقرِّره ونبيِّنه ونثبِّته، هو: التضييق الشديد في دعاوى النسخ في كتاب الله، فإن الله تعالى لم يُنزل كتابه إلا ليُهتدى بهداه، ويُؤتمر بما أمر، ويُنتهى عما نهى، ويُعمل بأحكامه، وكل دعوى لنسخ آية أو بعض آية منه، فهي على خلاف الأصل، وما جاء على خلاف الأصل لا يُقبل إلا ببرهان يقطع الشكَّ باليقين.

ولو طبَّقنا ما وضعه علماء أصول الدين، وعلماء أصول الفقه، وعلماء أصول التفسير، وعلماء أصول الحديث، من قواعد وضوابط وشروط، فإننا لا نكاد نجد - بل لا نجد - آية في القرآن الكريم مقطوعا بنسخها، وما لم يُقطع بنسخه فيجب أن يبقى حكمه ثابتا مُلزِما كما أنزله الله تعالى، ولا ننسخه ونبطل حكمه بمحض الظن، فإن الظنَّ لا يُغني من الحقِّ شيئا.

• من شروط قبول النسخ:

ومن شروط قَبول النسخ عند مَن سلَّم به أمران: الأول : أن يكون هناك تعارض حقيقي بين النصِّ الناسخ، والنصِّ المنسوخ، بحيث لا يمكن الجمع بينهما بحال من الأحوال، أما إذا أمكن الجمع ولو في حال من الأحوال، فلا يثبت النسخ، لأنه خلاف الأصل. والثاني : أن يعرف تاريخ كل من النصين المتعارضين ، حتى يمكن القول بأن المتأخر نسخ المتقدم .

وتطبيقا لهذا ، رأينا شيخ المفسرين ابن جَرير الطبري في تفسيره (جامع البيان) يرفض كثيرا من دعاوى النسخ المرويَّة عن بعض المفسرين إذ لم يجد تنافيا كاملا بين الناسخ والمنسوخ.

انظر قوله فيما رُوي عن قتادة في الآية الكريمة من سورة الأنفال: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال:61]، فقد ذهب قتادة إلى أن هذه الآية كانت قبل نزول سورة (براءة)، فلما نزلت نسخت ذلك، بمثل قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5]، وقوله: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:36]، فأمرت بقتالهم على كل حال حتى يقولوا: لا إله إلا الله.

وورد عن عكرمة والحسن البصري ما يوافق قول قتادة، وإن جعلا الآية الناسخة من براءة: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29[

قال الطبري رحمه الله يردُّ هذه الدعوى:

(فأما ما قاله قتادة ومَن قال مثل قوله - من أن هذه الآية منسوخة - فقول لا دلالة عليه من كتاب، ولا سنة، ولا فطرة عقل، وقد دلَّلنا – في غير موضع من كتابنا هذا وغيره – على أن الناسخ لا يكون إلا ما نفى حكم المنسوخ من كل وجه، فأما ما كان بخلاف ذلك، فغير كائن ناسخا)[1[

• كيف يعرف النسخ؟

بقي هنا سؤال مهم للقائلين بالنسخ، وهو: كيف يُعرف النسخ؟

نقل السيوطي في (إتقانه) في بيان كيف يُعرف النسخ؟ عن العلاَّمة ابن الحَصَّار قوله: (إنما يُرجَع في النسخ إلى نقل صريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن صحابي يقول: آية كذا نسخت آية كذا.

قال: وقد نحكم به عند التعارض المقطوع به، مع علم التاريخ، لنعرف المتقدِم والمتأخِّر.

قال: ولا يُعتمد في النسخ قول عوامِّ المفسرين، بل ولا اجتهاد المجتهدين من غير نقل صحيح، ولا معارضة بيِّنة، لأن النسخ يتضمَّن رفع حكم، وإثبات حكم تقرَّر في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. والمعتمد فيه: النقل والتاريخ، دون الرأي والاجتهاد.

قال: والناس في هذا بين طرفيّ نقيض، فمن قائل: لا يُقبل في النسخ أخبار الآحاد العدول، ومن متساهل يكتفي فيه بقول مفسِّر أو مجتهد، والصواب خلاف قولهما)[2] انتهى.

وأودُّ أن أقول هنا: إني لا أعرف نقلا صريحا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: آية كذا نسخت آية كذا. ومن عرَف ذلك فليدلَّني عليه.

وأما قول الصحابي: آية كذا نسخت آية كذا، فلا بد لقَبوله من ثلاثة شروط:

الأول: أن يصحَّ سنده عن الصحابي.

الثاني: ألا يكون قاله باجتهاد منه، ظنًّا منه أن الآية معارِضة للآية الأخرى، وقد لا يسلَّم له بذلك، فيكون رأيا منه يعارَض برأي غيره.

الثالث: ألا تكون كلمة النسخ جارية على مفهوم المتقدِّمين، وهو ما يشمل: تخصيص العام، وتقيد المُطلق، وتفصيل المُجمل، والاستثناء والغاية وغيرها.

ويندر - وربما يتعذَّر - أن توجد لدينا آية تتحقَّق فيها هذه الشروط.

ومن المهمِّ هنا أن ننتبه إلى أهمية الشرط الثالث هنا، فكثير من المتقدِّمين يقولون: آية كذا نسخت آية كذا، ولا يقصد بذلك ما يقصده المتأخرون بكلمة النسخ، فلم يكن هذا الاصطلاح قد استقرَّ عندهم، كما استقر عند مَن بعدهم، وهو: رفع حكم شرعي بدليل متأخر. وهذا ما نصَّ عليه المحقِّقون من أمثال ابن القيم والشاطبي رحمهما الله. وقد سبق نقل قولهما.

• بحث في تعيين آية السيف:

قلنا: إن المفسرين، ومعهم الفقهاء: اختلفوا في تحديد (آية السيف) التي زعموا أنها نسخت ما نسخت من الآيات. وقد ذكروا آيات أربعا كلها من سورة التوبة. قيل عن كل منها: إنها آية السيف.

• ( 1 ) آية: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}:

ولعل أشهر الأقوال، هو: أن آية السيف هي قوله تعالى في سورة التوبة: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:5[

وهي - كما هو واضح – تأمر بقتل المشركين حيث وُجدوا، وبأسر مَن لم يُقتل منهم، وبحصارهم وتضييق الخناق عليهم. لكن: مَن هم المشركون المقصودون في الآية؟ ومتى يقتلون؟ وبعبارة علمية : هل (أل) في قوله إن الآيات التي قبل هذه الآية توضِّح ذلك حين تقول: " فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ" للعهد أو للجنس أو الاستغراق ؟ الواضح – كما يدل السياق – أنها للعهد . أي : المشركين المذكورين الموصوفين بما وصفوا به .

إن الآيات التي قبل هذه الآية توضح ذلك حين تقول :

{بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:1-4].

وانظر: كيف احترم عهد هؤلاء المشركين، الذين عاهدهم الرسول والمسلمون، فوفَّوا بعهدهم معهم، ولم ينقصوهم شيئا، مما فرضته المعاهدة ولم يُظاهروا عليهم عدوا، فأمر الله تعالى أن يُتمَّ إليهم عهدهم إلى مدَّتهم، فهذا من التقوى التي يحبها الله ويحب أهلها. لأن من دعائم التقوى الوفاء بالعهد[3[

وبعد هذه الآية التي سمَّوها آية السيف مباشرة، نجد الآية التالية تقول:

{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} [التوبة:6[

فهي تأمر بإجارة المستجير المشرك، وإتاحة الفرصة له حتى يسمع كلام الله، كما تأمر بأن يبلَّغ الموضع الذي يأمن فيه.

يقول الإمام ابن جَرير الطبري في تفسير الآية: (القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} [التوبة:6]. يقول تعالى ذكره لنبيه: وإن استأمنك يا محمد من المشركين - الذين أمرتك بقتالهم وقتلهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم - أحد ليسمع كلام الله منك, وهو القرآن الذي أنزله الله عليه. {فَأَجِرْهُ}، يقول: فأمِّنه. حَتَّى {يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} وتتلوه عليه. {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}، يقول: ثم رُدَّه بعد سماعه كلام الله إن هو أبى أن يُسلم ولم يتَّعظ لما تلوته عليه من كلام الله فيؤمن; إلى مأمنه, يقول: إلى حيث يأمن منك وممَّن في طاعتك، حتى يلحق بداره وقومه من المشركين. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ}، يقول: تفعل ذلك بهم من إعطائك إياهم الأمان, ليسمعوا القرآن, وردِّك إياهم إذا أبَوا الإسلام إلى مأمنهم, من أجل أنهم قوم جهلة لا يفقهون عن الله حُجَّة، ولا يعلمون ما لهم بالإيمان بالله لو آمنوا، وما عليهم من الوزر والإثم بتركهم الإيمان بالله. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ثم ذكر من طريق ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}، قال: إن لم يوافقه ما تقول عليه وتحدثه, فأبلغه. قال: وليس هذا بمنسوخ.

واختلف في حكم هذه الآية: وهل هو منسوخ أو هو غير منسوخ؟ فقال بعضهم: هو غير منسوخ. وقد ذكرنا قول مَن قال ذلك. وقال آخرون: هو منسوخ.

وذكر عن الضحاك: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5]، نسختها: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد:4[

وقال آخرون: بل نَسَخ قولُه: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} قولَه: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ{

عن قتادة: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [محمد:4] نسخها قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5])[4[

ثم قال أبو جعفر الطبري: (والصواب من القول في ذلك عندي قول مَن قال: ليس ذلك بمنسوخ, وقد دلَّلنا على أن معنى النسخ هو نفي حكم قد كان ثبت بحكم آخر غيره. ولم تصحَّ حُجَّة بوجوب حكم الله في المشركين بالقتل بكل حال، ثم نسخه بترك قتلهم على أخذ الفداء ولا على وجه المنِّ عليهم. فإذا كان ذلك كذلك فكان الفداء والمنُّ والقتل لم يزل من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم من أول حرب حاربهم, وذلك من يوم بدر; كان معلوما أن معنى الآية: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم, وخذوهم للقتل أو المنِّ أو الفداء واحصروهم, وإذا كان ذلك معناه صحَّ ما قلنا في ذلك دون غيره) [5[

ثم تليها آيات أخر تعلِّل للأمر بقتلهم، وأنه لم يأتِ من فراغ ولا تعنُّت ولا اعتداء، فهم يصدُّون عن سبيل الله ولا يرقُبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمَّة، ثم إنهم نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم، وطعنوا في دين الله، وهمُّوا بإخراج الرسول، وبدؤوا المؤمنين بالقتال أول مرة!!

يقول الأستاذ الدكتور مصطفى زيد في كتابه القيِّم عن (النسخ في القرآن(

(فالمشركون الذين تتحدث عنهم آية السيف، هم إذن فريق خاص من المشركين: كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم عهد، فنقضوه، وظاهروا عليه أعداءه. وقد برئ الله ورسوله منهم، وآذنهم بالحرب إن لم يتوبوا عن كفرهم، ويؤمنوا بالله ربا واحدا، وبمحمد نبيا ورسولا.

وهؤلاء المشركون أعداء الإسلام ونبيه ليسوا هم كلَّ المشركين، بدليل قوله جلَّ ثناؤه قبل آية السيف: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:4]، وبدليل الأخبار التي تظاهرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه حين بعث عليا رحمة الله عليه [6] - ببراءة إلى أهل العهود بينه وبينهم – أمره فيما أمره أن ينادي به فيهم: "ومَن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد: فعهده إلى مدته"[7] ، ثم بدليل قوله تعالى بعد آية السيف: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:7[

وإنما هم قوم من المشركين، كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم عهد إلى أجل، فنقضوه قبل أن تنتهي مدته ... وقوم آخرون كان بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم عهد غير محدود الأجل. فهؤلاء وأولئك هم الذين أعلن الله عزَّ وجلَّ، براءته هو ورسوله منهم، وأمهلهم أربعة أشهر من يوم الحج الأكبر (والمراد به يوم عيد النحر، وهو اليوم الذي نبذ إليهم فيه العهد على سواء)؛ ليسيحوا في الأرض خلالها حيث شاؤوا، ثم ليحدِّدوا فيها موقفهم من الدعوة إلى الإيمان بالله ربا واحدا: فإما تابوا فكان في استجابتهم لداعي الله خيرهم، وإلا فهي الحرب، وما تستتبعه من قتل وأسر وحصار وترقب !

وإن الله جلَّ ثناؤه، ليبيِّن لهم سبب حكمه هذا عليهم، في آيات تلي آية السيف ...

أليسوا هم أئمة الكفر، يطعنون في دين الله، ويصدُّون الناس عن سبيله؟! ينقضون عهدهم مع رسول الله، ويُظاهرون عليه أعداءه؟! يُنافقون الرسول والمؤمنين، فيُرضونهم بأفواههم، وتأبى قلوبهم أن تعتقد ما يقولون؟! ينكثون أيمانهم، فيهمُّون بإخراج الرسول، ويبدؤون المؤمنين بالقتال في بدر؟! يتربَّصون بالمؤمنين، ويترقَّبون فرصة للانقضاض عليهم، دون رعاية لعهد ولا ذمَّة؟!

بلى، فليقاتلهم المؤمنون إذن؛ ليعذِّبهم الله بأيدي مَن يريدون هم أن يعذِّبوهم، وليخزيهم ويذلَّهم، ولينصر المؤمنين عليهم، فيشفى صدور قوم مؤمنين، ويذهب غيظ قلوبهم! ثم ليتوب على مَن أراد له التوبة والسعادة في الدنيا والآخرة [8] انتهى.

ليست الغاية إذن من قتالهم هي إكراههم على الدخول في الإسلام بقوة السلاح، وما كانت (الغاية) قط هذا الإكراه ...

ولا أدلَّ على هذا من قول الله عزَّ وجلَّ لنبيه، في الآية التي تلي آية السيف دون فاصل: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} [التوبة:6]؛ فإن في هذه الآية أمرا من الله عز وجل لرسوله بأن يُجير مَن يستجير به من المشركين، ثم يدعوه إلى الإيمان بالله، ويبيِّن له ما في هذا الإيمان من خير له، فإن هو - بعد هذا - أصرَّ على ضلاله، واستمرأ البقاء على كفره بالله، وطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلِّغه المكان الذي يأمن فيه، فعلى الرسول أن يجيبه إلى طلبه، وأن يؤمِّنه حتى يصل إلى ذلك المكان.

هذا إلى تلك الآية التي تنفي جنس الإكراه في الدين نفيا صريحا قاطعا، وتعلِّل لهذا النفي حيث تقول: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256]، والآية الأخرى التي تستبعد أن يستطيع الرسول صلى الله عليه وسلم إكراه الناس على الإيمان، حتى لتحكم باستحالة هذا الإكراه إذا تقول: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99[

وإنما شرع القتال في الإسلام لتأمين الدعاة إليه، ولضمان الحرية التي تكفُل لهم إبلاغ دعوته، ودرء الشبه عن عقيدته، بالمنطق السليم، والحُجَّة المُقنِعة.

ومن أجل هذا خصَّ أئمة الكفر بالأمر بقتالهم؛ لأنهم يحولون بالقوة بين الدعاة والشعوب التي يجب أن تُدعى. ومن أجله علَّل الأمر بالقتال - ضمن ما علَّل به – بصدِّ المشركين للناس عن سبيل الله، وقتالهم المؤمنين به. ومن أجله كذلك كان السبب في نبذ عهد فريق من المشركين إليهم: أنهم نقضوه، فأعلنوا الحرب على الدعوة، وظاهروا أعداءها عليها!

فإذا ما هُيئت للدعاة وسائل الدعوة في أمن وحرية، فلا حرب ولا قتال؛ لأن دين الله حينئذ سيهدي بنوره كل ضالٍّ، ولأن بطلان الشرك بالله سيتَّضح يومئذ لكل مشرك، فلن يصرَّ عليه إلا جاحد معاند مكابر في الحقِّ، وهؤلاء قِلَّة لا يُؤبه لها، ولا بد منها في كل مجتمع؛ لتتحقَّق كلمة الله جلَّ ثناؤه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} [يونس:99]!)[9] انتهى.

ومما نؤكِّده هنا، ما نبَّهنا عليه من قريب: وهو أن هناك من مفسِّري السلف مَن قال: إن آية السيف هذه منسوخة: نسختها آية أخرى في سورة محمد، وهي قوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد:4[

روى أبو جعفر النحاس هذا عن الحسن، وعن عطاء، وعن الضَّحَّاك، والسُّدِّي، فهم لا يجيزون قتل الأسير، لقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد:4[

وروى نحو ذلك ابن جَرير الطبري.

وروى الطبري عن الضَّحَّاك والسُّدِّي عكس ذلك، كما روي عن قتادة ومجاهد، بل ورد عن ابن عباس أيضا: أن آية: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5]، نسخت آية: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد:4[

وهناك قول ثالث رُوي عن ابن زيد: أن الآيتين جميعا مُحكمتان، وهو ما اختاره الطبري، حيث ردَّ دعوى النسخ، لإمكان الجمع بين الآيتين، ولا يُصار إلى النسخ إلا عند تعذُّر الجمع بينهما بوجه من الوجوه.

وكذلك قال النحاس في قول ابن زيد: وهو صحيح جيد بيِّن، لأن إحدى الآيتين لا تنفي الأخرى[10[

وهو ما أيَّده الإمام ابن عطية في تفسيره، معلِّقا على قول ابن زيد: إن الآيتين مُحكمتان، قال: (وقوله هو الصواب. والآيتان لا يشبه معنى واحدة معنى الأخرى.

ذلك بأن هذه الآية: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ} [التوبة:5]: أفعال، إنما تتمثل مع المحارب المرسل المناضل، وليس للأسير فيها ذِكر ولا حكم، وإذا أُخذ الكافر (أسر) خرج عن درجات هذه الآية، وانتقل إلى حكم الآية الأخرى، وتلك الآية لا مدخل فيها لغير الأسير، فقول ابن زيد هو الصواب)[11] انتهى.

• ( 2 ) آية: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً{

ومن الآيات التي قيل عنها: إنها آية السيف: قوله تعالى في سورة التوبة أيضا: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:36[

وهي جزء من آية كريمة جاءت في سياق تعظيم الأشهر الحرم، التي لها حُرمة خاصة، ينبغي أن تعظَّم، ويقدَّر قدرها، ومن ذلك: تحريم القتال فيها، فإنه من ظلم النفس الذي حرَّمه الله فيها. يقول تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:36[

فهذه الآية التي يزعمون أنها آية (قطع الرقاب) أو (آية السيف) تأتي في سياق تحريم القتال في الأشهر الحرم، أي فرض سلام وهدنة إجبارية على المسلمين إذا كُتب عليهم القتال وهو كره لهم: أن يغمدوا السيوف، ويكفُوا عن القتال أربعة أشهر في العام: ثلاثة سَرْد، أي متتابعة، وهي ذو القعدة، ذو الحِجَّة، والمُحرَّم، وواحد فَرْد، أي منفرد وحده، وهو: رجب. أي يفرض عليهم ثلث العام هدنة للسلم.

ثم يقول تعالى في الآية: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} فهي من باب المعاملة بالمثل، ومَن عامل خَصمه بمثل ما يعامله فما ظلمه.

وقد فسَّر الإمام الطبري الآية فقال: (يقول جلَّ ثناؤه: وقاتلوا المشركين بالله - أيها المؤمنون - جميعا غير مختلفين، مؤتلفين غير مفترقين، كما يقاتلكم المشركون جميعا، مجتمعين غير مفترقين، ونقل عن ابن عباس وقتادة والسُّدِّي ما يسند ذلك)[12[

وواضح من هذا التفسير لشيخ المفسرين: أنه اعتبر كلمة (كافة) حالا من الفاعل، أي من واو الجماعة في قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}. وهذا واضح من تفسيره، ومعناه: تجمَّعوا على قتال المشركين أيها المسلمون، كما يتجمَّع المشركون على قتالكم، ولا يجوز أن تفترقوا وهم مجتمعون، ولا أن تختلفوا وهم متحدون.

فهل تحمل هذه الآية بهذا المعنى أي دلالة من الدلالات التي يُفهم منها قتال الناس كافة، مَن حاربنا منهم، ومَن كفَّ عنا وألقى إلينا السلم؟

وهناك احتمال آخر في الآية لم يذكره الطبري، وهو أن تكون {كَافَّةً} حالا من المفعول به[13] في الآية، وهو {الْمُشْرِكِينَ} وضمير المفعول به في قوله: {يُقَاتِلُونَكُمْ} ويكون المعنى على ذلك: قاتلوا جميع المشركين كما يقاتلون جميع المسلمين. وحتى هذا لا ينبغي أن يكون مثار كلام، لأنه معاملة بالمثل. والمراد بـ{الْمُشْرِكِينَ} هنا: مشركو العرب، المذكورون في أوائل السورة، الناكثون للأيمان، البادئون بالعدوان. فـ{الْـ} في كلمة {الْمُشْرِكِينَ} للعهد.

والعجيب أن نجد من العلماء مَن قال: إن هذه الآية - التي نسخت ما نسخت - منسوخة! ذكر ذلك ابن عطية - ونقله عنه القرطبي - عن بعض العلماء قال: (كان الفرض بهذه الآية قد توجَّه على الأعيان، ثم نسخ ذلك، وجعل فرض كفاية(

قال ابن عطية: (وهذا الذي قالوه لم يُعلم قط من شرع النبي صلى الله عليه وسلم: أنه ألزم الأمة جميعا النَّفر. وإنما معنى هذه الآية: الحضُّ على قتالهم، والتحزُّب عليهم، وجمع الكلمة، ثم قيَّدها بقوله: {كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} فبحسب قتالهم واجتماعهم لنا، يكون فرض اجتماعنا لهم)[14[

• ( 3 ) آية: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً{

ومن الآيات التي ذهب بعض المفسرين قديما إلى أنها آية السيف: قوله تعالى في سورة التوبة: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:41[

قالوا: هذه الآية لم تَدَع لأحد عذرا: أيا كان تفسير: {خِفَافاً وَثِقَالاً} فقد وردت عدة تفسيرات لها: شبابا وشيوخا، عزَّابا ومتزوجين، ركبانا ومشاة، نشاطا وغير نشاط، أغنياء وفقراء.

والآية تحتمل هذه المعاني كلها، فكل منها، يحمل معنى الخفَّة والثِّقل بوجه من الوجوه.

فقد فهم بعض الصحابة من هذه الآية: أن الجهاد فرض عين في كل حال، ولا يجوز للمسلم أن يتركه، ما دام قادرا عليه، وإن بلغ من الكبر عتيا.

رُوي ذلك عن أبي طلحة الأنصاري، وأبي أيوب الأنصاري، والمقداد بن الأسود[15] . كما رُوي عن سعيد بن المسيَِّب من التابعين.

قال البغوي: قال الزُّهْري: خرج سعيد بن المسيِّب رحمه الله إلى الغزو، وقد ذهبت إحدى عينيه، فقيل له: إنك عليل صاحب ضرر! فقال: استنفر الله الخفيف والثقيل، فإن لم يمكني الحرب، كثَّرت السواد، وحفِظت المتاع!

وروى أبو يعلى الموصلي في مسنده بسند صحيح، عن أنس: أن أبا طلحة قرأ سورة براءة، فأتى على هذه الآية، فقال: ألا أرى ربي يستنفرني، شابا وشيخا؟ جهِّزوني! فمات، (أي أثناء الغزو)، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام، فما تغيَّر [16]!

وقد ذكر الإمام أبو جعفر الطبري في تفسيره: أن هذه الآية: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً}، خوطب بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بحيث لا يتخلَّفون عنه. قال رحمه الله: (إن الله جلَّ ثناؤه: أمر المؤمنين من أصحاب رسوله بالنَّفر للجهاد في سبيله خفافا وثقالا، مع رسوله صلى الله عليه وسلم، على كل حال من أحوال الخِّفة والثِّقل)[17] . فهو يرى الآية خطابا خاصا لأصحاب النبي في حياته.

والمراد بالخفة، كما يقول الإمام البقاعي: (كل ما يكون سببا لسهولة الجهاد والنشاط إليه. (أي مثل: الشباب والعزوبة والغنى والركوب والنشاط ونحوها) وبالثِّقل: كل ما يحمل على الإبطاء عنه (أي مثل: الشيخوخة والزواج والفقر وعدم الرَّكوبة والكسل ونحوها(

وقال أبو حيان: والخفَّة والثِّقل هنا: مستعار لمَن يمكنه السفر بسهولة، ومَن يمكنه بصعوبة. وأما مَن لا يمكنه كالأعمى ونحوه، فخارج عن هذا) [18] انتهى.

وهذا يطابق الآية الكريمة في نفس السورة: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة:120].

وكأنَّ الإمام الطبري لا يقرُّ - بتأويله الذي ذكرناه - ما ذهب إليه الصحابة الكرام الذين استنبطوا من الآية وجوب الجهاد عليهم بصفة دائمة، حتى بعد رسول الله، وحتى بعد كِبَر السن وثِقَل الجسم.

والواضح أن مَن تدبَّر الآية الكريمة، وقرأ سِباقها وسياقها، تبيَّن له بجلاء: أن هذه الآية جاءت في سياق مَن استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للجهاد، فلا يجوز أن يتقاعسوا عن الاستجابة له، ويثَّاقلوا إلى الأرض، ولا سيما في غزوة مثل غزوة تبوك التي يواجه المسلمون فيها أكبر قوة في العالم يومئذ، وهي دولة الروم. ومثله إذا استنفرهم كل مَن ولاَّه المسلمون أمرهم من بعده، كما قال عليه الصلاة والسلام: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا"[19[

ولهذا ذكر الحافظ ابن حجر في (الفتح) ردًّا على مَن استدل بآية: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً}، على أن الجهاد فرض عين على كل حال: أن الأمر في هذه الآية مقيَّد بما قبلها، لأن الله تعالى عاتب المؤمنين الذين يتأخرون، بعد الأمر بالنفير، ثم قال: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً}[20[

كأن القرآن يقول: إذا قيل لكم: انفروا في سبيل الله، فانفروا خفافا وثقالا، ولا تثَّاقلوا عن النفير، وإلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم، فالأمر بالنفير هنا مبني على الاستنفار قبله.

وقد ردَّ العلامة ابن قدامة على مَن احتجوا بآية: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً}، على أن الجهاد فرض عين: بقوله تعالى: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء:95]، وهذا يدلُّ على أن القاعدين غير آثمين مع جهاد غيرهم، كما استدلَّ بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا} [التوبة:122]، ولأن الرسول كان يبعث السرايا: ويقيم هو وسائر أصحابه. قال: ويحتمل أنه أراد حين استنفرهم النبي إلى غزوة تبوك، وكانت إجابته واجبة عليهم، ولهذا هجر النبي كعب بن مالك وأصحابه الذين خُلِّفوا، حتى تاب الله عليهم [21] انتهى. وهذا الاحتمال الأخير هو الراجح أو الصحيح.

 

 

كتاب : فقه الجهاد .. دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته في ضوء القرآن والسنة - تأليف : الدكتور يوسف القرضاوي

الحلقة [ 27 ] : الباب الثالث : الجهاد بين الدفاع والهجوم (مناقشة أدلة الفريقين من الهجوميين والدفاعيين)

الفصل الرابع : آية السيف وما قيل: إنها نسخت (140) آية ( 2 من 4)

• التضييق في دعاوى النسخ:

على أن الذي يُهمُّنا هنا أن نقرِّره ونبيِّنه ونثبِّته، هو: التضييق الشديد في دعاوى النسخ في كتاب الله، فإن الله تعالى لم يُنزل كتابه إلا ليُهتدى بهداه، ويُؤتمر بما أمر، ويُنتهى عما نهى، ويُعمل بأحكامه، وكل دعوى لنسخ آية أو بعض آية منه، فهي على خلاف الأصل، وما جاء على خلاف الأصل لا يُقبل إلا ببرهان يقطع الشكَّ باليقين.

ولو طبَّقنا ما وضعه علماء أصول الدين، وعلماء أصول الفقه، وعلماء أصول التفسير، وعلماء أصول الحديث، من قواعد وضوابط وشروط، فإننا لا نكاد نجد - بل لا نجد - آية في القرآن الكريم مقطوعا بنسخها، وما لم يُقطع بنسخه فيجب أن يبقى حكمه ثابتا مُلزِما كما أنزله الله تعالى، ولا ننسخه ونبطل حكمه بمحض الظن، فإن الظنَّ لا يُغني من الحقِّ شيئا.

• من شروط قبول النسخ:

ومن شروط قَبول النسخ عند مَن سلَّم به أمران: الأول : أن يكون هناك تعارض حقيقي بين النصِّ الناسخ، والنصِّ المنسوخ، بحيث لا يمكن الجمع بينهما بحال من الأحوال، أما إذا أمكن الجمع ولو في حال من الأحوال، فلا يثبت النسخ، لأنه خلاف الأصل. والثاني : أن يعرف تاريخ كل من النصين المتعارضين ، حتى يمكن القول بأن المتأخر نسخ المتقدم .

وتطبيقا لهذا ، رأينا شيخ المفسرين ابن جَرير الطبري في تفسيره (جامع البيان) يرفض كثيرا من دعاوى النسخ المرويَّة عن بعض المفسرين إذ لم يجد تنافيا كاملا بين الناسخ والمنسوخ.

انظر قوله فيما رُوي عن قتادة في الآية الكريمة من سورة الأنفال: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال:61]، فقد ذهب قتادة إلى أن هذه الآية كانت قبل نزول سورة (براءة)، فلما نزلت نسخت ذلك، بمثل قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5]، وقوله: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:36]، فأمرت بقتالهم على كل حال حتى يقولوا: لا إله إلا الله.

وورد عن عكرمة والحسن البصري ما يوافق قول قتادة، وإن جعلا الآية الناسخة من براءة: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29[

قال الطبري رحمه الله يردُّ هذه الدعوى:

(فأما ما قاله قتادة ومَن قال مثل قوله - من أن هذه الآية منسوخة - فقول لا دلالة عليه من كتاب، ولا سنة، ولا فطرة عقل، وقد دلَّلنا – في غير موضع من كتابنا هذا وغيره – على أن الناسخ لا يكون إلا ما نفى حكم المنسوخ من كل وجه، فأما ما كان بخلاف ذلك، فغير كائن ناسخا)[1[

• كيف يعرف النسخ؟

بقي هنا سؤال مهم للقائلين بالنسخ، وهو: كيف يُعرف النسخ؟

نقل السيوطي في (إتقانه) في بيان كيف يُعرف النسخ؟ عن العلاَّمة ابن الحَصَّار قوله: (إنما يُرجَع في النسخ إلى نقل صريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن صحابي يقول: آية كذا نسخت آية كذا.

قال: وقد نحكم به عند التعارض المقطوع به، مع علم التاريخ، لنعرف المتقدِم والمتأخِّر.

قال: ولا يُعتمد في النسخ قول عوامِّ المفسرين، بل ولا اجتهاد المجتهدين من غير نقل صحيح، ولا معارضة بيِّنة، لأن النسخ يتضمَّن رفع حكم، وإثبات حكم تقرَّر في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. والمعتمد فيه: النقل والتاريخ، دون الرأي والاجتهاد.

قال: والناس في هذا بين طرفيّ نقيض، فمن قائل: لا يُقبل في النسخ أخبار الآحاد العدول، ومن متساهل يكتفي فيه بقول مفسِّر أو مجتهد، والصواب خلاف قولهما)[2] انتهى.

وأودُّ أن أقول هنا: إني لا أعرف نقلا صريحا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: آية كذا نسخت آية كذا. ومن عرَف ذلك فليدلَّني عليه.

وأما قول الصحابي: آية كذا نسخت آية كذا، فلا بد لقَبوله من ثلاثة شروط:

الأول: أن يصحَّ سنده عن الصحابي.

الثاني: ألا يكون قاله باجتهاد منه، ظنًّا منه أن الآية معارِضة للآية الأخرى، وقد لا يسلَّم له بذلك، فيكون رأيا منه يعارَض برأي غيره.

الثالث: ألا تكون كلمة النسخ جارية على مفهوم المتقدِّمين، وهو ما يشمل: تخصيص العام، وتقيد المُطلق، وتفصيل المُجمل، والاستثناء والغاية وغيرها.

ويندر - وربما يتعذَّر - أن توجد لدينا آية تتحقَّق فيها هذه الشروط.

ومن المهمِّ هنا أن ننتبه إلى أهمية الشرط الثالث هنا، فكثير من المتقدِّمين يقولون: آية كذا نسخت آية كذا، ولا يقصد بذلك ما يقصده المتأخرون بكلمة النسخ، فلم يكن هذا الاصطلاح قد استقرَّ عندهم، كما استقر عند مَن بعدهم، وهو: رفع حكم شرعي بدليل متأخر. وهذا ما نصَّ عليه المحقِّقون من أمثال ابن القيم والشاطبي رحمهما الله. وقد سبق نقل قولهما.

• بحث في تعيين آية السيف:

قلنا: إن المفسرين، ومعهم الفقهاء: اختلفوا في تحديد (آية السيف) التي زعموا أنها نسخت ما نسخت من الآيات. وقد ذكروا آيات أربعا كلها من سورة التوبة. قيل عن كل منها: إنها آية السيف.

• ( 1 ) آية: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}:

ولعل أشهر الأقوال، هو: أن آية السيف هي قوله تعالى في سورة التوبة: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:5[

وهي - كما هو واضح – تأمر بقتل المشركين حيث وُجدوا، وبأسر مَن لم يُقتل منهم، وبحصارهم وتضييق الخناق عليهم. لكن: مَن هم المشركون المقصودون في الآية؟ ومتى يقتلون؟ وبعبارة علمية : هل (أل) في قوله إن الآيات التي قبل هذه الآية توضِّح ذلك حين تقول: " فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ" للعهد أو للجنس أو الاستغراق ؟ الواضح – كما يدل السياق – أنها للعهد . أي : المشركين المذكورين الموصوفين بما وصفوا به .

إن الآيات التي قبل هذه الآية توضح ذلك حين تقول :

{بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:1-4].

وانظر: كيف احترم عهد هؤلاء المشركين، الذين عاهدهم الرسول والمسلمون، فوفَّوا بعهدهم معهم، ولم ينقصوهم شيئا، مما فرضته المعاهدة ولم يُظاهروا عليهم عدوا، فأمر الله تعالى أن يُتمَّ إليهم عهدهم إلى مدَّتهم، فهذا من التقوى التي يحبها الله ويحب أهلها. لأن من دعائم التقوى الوفاء بالعهد[3[

وبعد هذه الآية التي سمَّوها آية السيف مباشرة، نجد الآية التالية تقول:

{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} [التوبة:6[

فهي تأمر بإجارة المستجير المشرك، وإتاحة الفرصة له حتى يسمع كلام الله، كما تأمر بأن يبلَّغ الموضع الذي يأمن فيه.

يقول الإمام ابن جَرير الطبري في تفسير الآية: (القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} [التوبة:6]. يقول تعالى ذكره لنبيه: وإن استأمنك يا محمد من المشركين - الذين أمرتك بقتالهم وقتلهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم - أحد ليسمع كلام الله منك, وهو القرآن الذي أنزله الله عليه. {فَأَجِرْهُ}، يقول: فأمِّنه. حَتَّى {يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} وتتلوه عليه. {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}، يقول: ثم رُدَّه بعد سماعه كلام الله إن هو أبى أن يُسلم ولم يتَّعظ لما تلوته عليه من كلام الله فيؤمن; إلى مأمنه, يقول: إلى حيث يأمن منك وممَّن في طاعتك، حتى يلحق بداره وقومه من المشركين. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ}، يقول: تفعل ذلك بهم من إعطائك إياهم الأمان, ليسمعوا القرآن, وردِّك إياهم إذا أبَوا الإسلام إلى مأمنهم, من أجل أنهم قوم جهلة لا يفقهون عن الله حُجَّة، ولا يعلمون ما لهم بالإيمان بالله لو آمنوا، وما عليهم من الوزر والإثم بتركهم الإيمان بالله. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ثم ذكر من طريق ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}، قال: إن لم يوافقه ما تقول عليه وتحدثه, فأبلغه. قال: وليس هذا بمنسوخ.

واختلف في حكم هذه الآية: وهل هو منسوخ أو هو غير منسوخ؟ فقال بعضهم: هو غير منسوخ. وقد ذكرنا قول مَن قال ذلك. وقال آخرون: هو منسوخ.

وذكر عن الضحاك: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5]، نسختها: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد:4[

وقال آخرون: بل نَسَخ قولُه: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} قولَه: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ{

عن قتادة: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [محمد:4] نسخها قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5])[4[

ثم قال أبو جعفر الطبري: (والصواب من القول في ذلك عندي قول مَن قال: ليس ذلك بمنسوخ, وقد دلَّلنا على أن معنى النسخ هو نفي حكم قد كان ثبت بحكم آخر غيره. ولم تصحَّ حُجَّة بوجوب حكم الله في المشركين بالقتل بكل حال، ثم نسخه بترك قتلهم على أخذ الفداء ولا على وجه المنِّ عليهم. فإذا كان ذلك كذلك فكان الفداء والمنُّ والقتل لم يزل من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم من أول حرب حاربهم, وذلك من يوم بدر; كان معلوما أن معنى الآية: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم, وخذوهم للقتل أو المنِّ أو الفداء واحصروهم, وإذا كان ذلك معناه صحَّ ما قلنا في ذلك دون غيره) [5[

ثم تليها آيات أخر تعلِّل للأمر بقتلهم، وأنه لم يأتِ من فراغ ولا تعنُّت ولا اعتداء، فهم يصدُّون عن سبيل الله ولا يرقُبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمَّة، ثم إنهم نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم، وطعنوا في دين الله، وهمُّوا بإخراج الرسول، وبدؤوا المؤمنين بالقتال أول مرة!!

يقول الأستاذ الدكتور مصطفى زيد في كتابه القيِّم عن (النسخ في القرآن(

(فالمشركون الذين تتحدث عنهم آية السيف، هم إذن فريق خاص من المشركين: كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم عهد، فنقضوه، وظاهروا عليه أعداءه. وقد برئ الله ورسوله منهم، وآذنهم بالحرب إن لم يتوبوا عن كفرهم، ويؤمنوا بالله ربا واحدا، وبمحمد نبيا ورسولا.

وهؤلاء المشركون أعداء الإسلام ونبيه ليسوا هم كلَّ المشركين، بدليل قوله جلَّ ثناؤه قبل آية السيف: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:4]، وبدليل الأخبار التي تظاهرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه حين بعث عليا رحمة الله عليه [6] - ببراءة إلى أهل العهود بينه وبينهم – أمره فيما أمره أن ينادي به فيهم: "ومَن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد: فعهده إلى مدته"[7] ، ثم بدليل قوله تعالى بعد آية السيف: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:7[

وإنما هم قوم من المشركين، كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم عهد إلى أجل، فنقضوه قبل أن تنتهي مدته ... وقوم آخرون كان بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم عهد غير محدود الأجل. فهؤلاء وأولئك هم الذين أعلن الله عزَّ وجلَّ، براءته هو ورسوله منهم، وأمهلهم أربعة أشهر من يوم الحج الأكبر (والمراد به يوم عيد النحر، وهو اليوم الذي نبذ إليهم فيه العهد على سواء)؛ ليسيحوا في الأرض خلالها حيث شاؤوا، ثم ليحدِّدوا فيها موقفهم من الدعوة إلى الإيمان بالله ربا واحدا: فإما تابوا فكان في استجابتهم لداعي الله خيرهم، وإلا فهي الحرب، وما تستتبعه من قتل وأسر وحصار وترقب !

وإن الله جلَّ ثناؤه، ليبيِّن لهم سبب حكمه هذا عليهم، في آيات تلي آية السيف ...

أليسوا هم أئمة الكفر، يطعنون في دين الله، ويصدُّون الناس عن سبيله؟! ينقضون عهدهم مع رسول الله، ويُظاهرون عليه أعداءه؟! يُنافقون الرسول والمؤمنين، فيُرضونهم بأفواههم، وتأبى قلوبهم أن تعتقد ما يقولون؟! ينكثون أيمانهم، فيهمُّون بإخراج الرسول، ويبدؤون المؤمنين بالقتال في بدر؟! يتربَّصون بالمؤمنين، ويترقَّبون فرصة للانقضاض عليهم، دون رعاية لعهد ولا ذمَّة؟!

بلى، فليقاتلهم المؤمنون إذن؛ ليعذِّبهم الله بأيدي مَن يريدون هم أن يعذِّبوهم، وليخزيهم ويذلَّهم، ولينصر المؤمنين عليهم، فيشفى صدور قوم مؤمنين، ويذهب غيظ قلوبهم! ثم ليتوب على مَن أراد له التوبة والسعادة في الدنيا والآخرة [8] انتهى.

ليست الغاية إذن من قتالهم هي إكراههم على الدخول في الإسلام بقوة السلاح، وما كانت (الغاية) قط هذا الإكراه ...

ولا أدلَّ على هذا من قول الله عزَّ وجلَّ لنبيه، في الآية التي تلي آية السيف دون فاصل: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} [التوبة:6]؛ فإن في هذه الآية أمرا من الله عز وجل لرسوله بأن يُجير مَن يستجير به من المشركين، ثم يدعوه إلى الإيمان بالله، ويبيِّن له ما في هذا الإيمان من خير له، فإن هو - بعد هذا - أصرَّ على ضلاله، واستمرأ البقاء على كفره بالله، وطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلِّغه المكان الذي يأمن فيه، فعلى الرسول أن يجيبه إلى طلبه، وأن يؤمِّنه حتى يصل إلى ذلك المكان.

هذا إلى تلك الآية التي تنفي جنس الإكراه في الدين نفيا صريحا قاطعا، وتعلِّل لهذا النفي حيث تقول: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256]، والآية الأخرى التي تستبعد أن يستطيع الرسول صلى الله عليه وسلم إكراه الناس على الإيمان، حتى لتحكم باستحالة هذا الإكراه إذا تقول: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99[

وإنما شرع القتال في الإسلام لتأمين الدعاة إليه، ولضمان الحرية التي تكفُل لهم إبلاغ دعوته، ودرء الشبه عن عقيدته، بالمنطق السليم، والحُجَّة المُقنِعة.

ومن أجل هذا خصَّ أئمة الكفر بالأمر بقتالهم؛ لأنهم يحولون بالقوة بين الدعاة والشعوب التي يجب أن تُدعى. ومن أجله علَّل الأمر بالقتال - ضمن ما علَّل به – بصدِّ المشركين للناس عن سبيل الله، وقتالهم المؤمنين به. ومن أجله كذلك كان السبب في نبذ عهد فريق من المشركين إليهم: أنهم نقضوه، فأعلنوا الحرب على الدعوة، وظاهروا أعداءها عليها!

فإذا ما هُيئت للدعاة وسائل الدعوة في أمن وحرية، فلا حرب ولا قتال؛ لأن دين الله حينئذ سيهدي بنوره كل ضالٍّ، ولأن بطلان الشرك بالله سيتَّضح يومئذ لكل مشرك، فلن يصرَّ عليه إلا جاحد معاند مكابر في الحقِّ، وهؤلاء قِلَّة لا يُؤبه لها، ولا بد منها في كل مجتمع؛ لتتحقَّق كلمة الله جلَّ ثناؤه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} [يونس:99]!)[9] انتهى.

ومما نؤكِّده هنا، ما نبَّهنا عليه من قريب: وهو أن هناك من مفسِّري السلف مَن قال: إن آية السيف هذه منسوخة: نسختها آية أخرى في سورة محمد، وهي قوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد:4[

روى أبو جعفر النحاس هذا عن الحسن، وعن عطاء، وعن الضَّحَّاك، والسُّدِّي، فهم لا يجيزون قتل الأسير، لقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد:4[

وروى نحو ذلك ابن جَرير الطبري.

وروى الطبري عن الضَّحَّاك والسُّدِّي عكس ذلك، كما روي عن قتادة ومجاهد، بل ورد عن ابن عباس أيضا: أن آية: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5]، نسخت آية: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد:4[

وهناك قول ثالث رُوي عن ابن زيد: أن الآيتين جميعا مُحكمتان، وهو ما اختاره الطبري، حيث ردَّ دعوى النسخ، لإمكان الجمع بين الآيتين، ولا يُصار إلى النسخ إلا عند تعذُّر الجمع بينهما بوجه من الوجوه.

وكذلك قال النحاس في قول ابن زيد: وهو صحيح جيد بيِّن، لأن إحدى الآيتين لا تنفي الأخرى[10[

وهو ما أيَّده الإمام ابن عطية في تفسيره، معلِّقا على قول ابن زيد: إن الآيتين مُحكمتان، قال: (وقوله هو الصواب. والآيتان لا يشبه معنى واحدة معنى الأخرى.

ذلك بأن هذه الآية: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ} [التوبة:5]: أفعال، إنما تتمثل مع المحارب المرسل المناضل، وليس للأسير فيها ذِكر ولا حكم، وإذا أُخذ الكافر (أسر) خرج عن درجات هذه الآية، وانتقل إلى حكم الآية الأخرى، وتلك الآية لا مدخل فيها لغير الأسير، فقول ابن زيد هو الصواب)[11] انتهى.

• ( 2 ) آية: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً{

ومن الآيات التي قيل عنها: إنها آية السيف: قوله تعالى في سورة التوبة أيضا: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:36[

وهي جزء من آية كريمة جاءت في سياق تعظيم الأشهر الحرم، التي لها حُرمة خاصة، ينبغي أن تعظَّم، ويقدَّر قدرها، ومن ذلك: تحريم القتال فيها، فإنه من ظلم النفس الذي حرَّمه الله فيها. يقول تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:36[

فهذه الآية التي يزعمون أنها آية (قطع الرقاب) أو (آية السيف) تأتي في سياق تحريم القتال في الأشهر الحرم، أي فرض سلام وهدنة إجبارية على المسلمين إذا كُتب عليهم القتال وهو كره لهم: أن يغمدوا السيوف، ويكفُوا عن القتال أربعة أشهر في العام: ثلاثة سَرْد، أي متتابعة، وهي ذو القعدة، ذو الحِجَّة، والمُحرَّم، وواحد فَرْد، أي منفرد وحده، وهو: رجب. أي يفرض عليهم ثلث العام هدنة للسلم.

ثم يقول تعالى في الآية: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} فهي من باب المعاملة بالمثل، ومَن عامل خَصمه بمثل ما يعامله فما ظلمه.

وقد فسَّر الإمام الطبري الآية فقال: (يقول جلَّ ثناؤه: وقاتلوا المشركين بالله - أيها المؤمنون - جميعا غير مختلفين، مؤتلفين غير مفترقين، كما يقاتلكم المشركون جميعا، مجتمعين غير مفترقين، ونقل عن ابن عباس وقتادة والسُّدِّي ما يسند ذلك)[12[

وواضح من هذا التفسير لشيخ المفسرين: أنه اعتبر كلمة (كافة) حالا من الفاعل، أي من واو الجماعة في قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}. وهذا واضح من تفسيره، ومعناه: تجمَّعوا على قتال المشركين أيها المسلمون، كما يتجمَّع المشركون على قتالكم، ولا يجوز أن تفترقوا وهم مجتمعون، ولا أن تختلفوا وهم متحدون.

فهل تحمل هذه الآية بهذا المعنى أي دلالة من الدلالات التي يُفهم منها قتال الناس كافة، مَن حاربنا منهم، ومَن كفَّ عنا وألقى إلينا السلم؟

وهناك احتمال آخر في الآية لم يذكره الطبري، وهو أن تكون {كَافَّةً} حالا من المفعول به[13] في الآية، وهو {الْمُشْرِكِينَ} وضمير المفعول به في قوله: {يُقَاتِلُونَكُمْ} ويكون المعنى على ذلك: قاتلوا جميع المشركين كما يقاتلون جميع المسلمين. وحتى هذا لا ينبغي أن يكون مثار كلام، لأنه معاملة بالمثل. والمراد بـ{الْمُشْرِكِينَ} هنا: مشركو العرب، المذكورون في أوائل السورة، الناكثون للأيمان، البادئون بالعدوان. فـ{الْـ} في كلمة {الْمُشْرِكِينَ} للعهد.

والعجيب أن نجد من العلماء مَن قال: إن هذه الآية - التي نسخت ما نسخت - منسوخة! ذكر ذلك ابن عطية - ونقله عنه القرطبي - عن بعض العلماء قال: (كان الفرض بهذه الآية قد توجَّه على الأعيان، ثم نسخ ذلك، وجعل فرض كفاية(

قال ابن عطية: (وهذا الذي قالوه لم يُعلم قط من شرع النبي صلى الله عليه وسلم: أنه ألزم الأمة جميعا النَّفر. وإنما معنى هذه الآية: الحضُّ على قتالهم، والتحزُّب عليهم، وجمع الكلمة، ثم قيَّدها بقوله: {كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} فبحسب قتالهم واجتماعهم لنا، يكون فرض اجتماعنا لهم)[14[

• ( 3 ) آية: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً{

ومن الآيات التي ذهب بعض المفسرين قديما إلى أنها آية السيف: قوله تعالى في سورة التوبة: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:41[

قالوا: هذه الآية لم تَدَع لأحد عذرا: أيا كان تفسير: {خِفَافاً وَثِقَالاً} فقد وردت عدة تفسيرات لها: شبابا وشيوخا، عزَّابا ومتزوجين، ركبانا ومشاة، نشاطا وغير نشاط، أغنياء وفقراء.

والآية تحتمل هذه المعاني كلها، فكل منها، يحمل معنى الخفَّة والثِّقل بوجه من الوجوه.

فقد فهم بعض الصحابة من هذه الآية: أن الجهاد فرض عين في كل حال، ولا يجوز للمسلم أن يتركه، ما دام قادرا عليه، وإن بلغ من الكبر عتيا.

رُوي ذلك عن أبي طلحة الأنصاري، وأبي أيوب الأنصاري، والمقداد بن الأسود[15] . كما رُوي عن سعيد بن المسيَِّب من التابعين.

قال البغوي: قال الزُّهْري: خرج سعيد بن المسيِّب رحمه الله إلى الغزو، وقد ذهبت إحدى عينيه، فقيل له: إنك عليل صاحب ضرر! فقال: استنفر الله الخفيف والثقيل، فإن لم يمكني الحرب، كثَّرت السواد، وحفِظت المتاع!

وروى أبو يعلى الموصلي في مسنده بسند صحيح، عن أنس: أن أبا طلحة قرأ سورة براءة، فأتى على هذه الآية، فقال: ألا أرى ربي يستنفرني، شابا وشيخا؟ جهِّزوني! فمات، (أي أثناء الغزو)، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام، فما تغيَّر [16]!

وقد ذكر الإمام أبو جعفر الطبري في تفسيره: أن هذه الآية: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً}، خوطب بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بحيث لا يتخلَّفون عنه. قال رحمه الله: (إن الله جلَّ ثناؤه: أمر المؤمنين من أصحاب رسوله بالنَّفر للجهاد في سبيله خفافا وثقالا، مع رسوله صلى الله عليه وسلم، على كل حال من أحوال الخِّفة والثِّقل)[17] . فهو يرى الآية خطابا خاصا لأصحاب النبي في حياته.

والمراد بالخفة، كما يقول الإمام البقاعي: (كل ما يكون سببا لسهولة الجهاد والنشاط إليه. (أي مثل: الشباب والعزوبة والغنى والركوب والنشاط ونحوها) وبالثِّقل: كل ما يحمل على الإبطاء عنه (أي مثل: الشيخوخة والزواج والفقر وعدم الرَّكوبة والكسل ونحوها(

وقال أبو حيان: والخفَّة والثِّقل هنا: مستعار لمَن يمكنه السفر بسهولة، ومَن يمكنه بصعوبة. وأما مَن لا يمكنه كالأعمى ونحوه، فخارج عن هذا) [18] انتهى.

وهذا يطابق الآية الكريمة في نفس السورة: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة:120].

وكأنَّ الإمام الطبري لا يقرُّ - بتأويله الذي ذكرناه - ما ذهب إليه الصحابة الكرام الذين استنبطوا من الآية وجوب الجهاد عليهم بصفة دائمة، حتى بعد رسول الله، وحتى بعد كِبَر السن وثِقَل الجسم.

والواضح أن مَن تدبَّر الآية الكريمة، وقرأ سِباقها وسياقها، تبيَّن له بجلاء: أن هذه الآية جاءت في سياق مَن استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للجهاد، فلا يجوز أن يتقاعسوا عن الاستجابة له، ويثَّاقلوا إلى الأرض، ولا سيما في غزوة مثل غزوة تبوك التي يواجه المسلمون فيها أكبر قوة في العالم يومئذ، وهي دولة الروم. ومثله إذا استنفرهم كل مَن ولاَّه المسلمون أمرهم من بعده، كما قال عليه الصلاة والسلام: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا"[19[

ولهذا ذكر الحافظ ابن حجر في (الفتح) ردًّا على مَن استدل بآية: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً}، على أن الجهاد فرض عين على كل حال: أن الأمر في هذه الآية مقيَّد بما قبلها، لأن الله تعالى عاتب المؤمنين الذين يتأخرون، بعد الأمر بالنفير، ثم قال: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً}[20[

كأن القرآن يقول: إذا قيل لكم: انفروا في سبيل الله، فانفروا خفافا وثقالا، ولا تثَّاقلوا عن النفير، وإلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم، فالأمر بالنفير هنا مبني على الاستنفار قبله.

وقد ردَّ العلامة ابن قدامة على مَن احتجوا بآية: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً}، على أن الجهاد فرض عين: بقوله تعالى: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء:95]، وهذا يدلُّ على أن القاعدين غير آثمين مع جهاد غيرهم، كما استدلَّ بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا} [التوبة:122]، ولأن الرسول كان يبعث السرايا: ويقيم هو وسائر أصحابه. قال: ويحتمل أنه أراد حين استنفرهم النبي إلى غزوة تبوك، وكانت إجابته واجبة عليهم، ولهذا هجر النبي كعب بن مالك وأصحابه الذين خُلِّفوا، حتى تاب الله عليهم [21] انتهى. وهذا الاحتمال الأخير هو الراجح أو الصحيح.

 


: الأوسمة



التالي
المدرسة الإباضية وآراءها وموقفها من الصحابة رضوان الله عليهم
السابق
كتاب : الحق المر -الحلقة [ 27 ] : الانتفاضة الإسلامية في فلسطين

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع