البحث

التفاصيل

كتاب : فقه الجهاد . الحلقة [ 26 ] : الباب الثالث : الجهاد بين الدفاع والهجوم (مناقشة أدلة الفريقين من الهجوميين والدفاعيين) الفصل الرابع : آية السيف وما قيل: إنها نسخت (140) آية ( 1 من 4)

 

• القرآن كتاب دعوة وحوار:

مَن قرأ القرآن مكيه ومدنيه - مائة وأربع عشرة سورة - لاح له بغير خفاء: أن القرآن - من أوله إلى آخره - كتاب دعوة وحوار، خطاب للعقول، وإقامة للحُجج، وتفنيد للشبهات، وبيان لحقائق الدين، وردٌّ على أباطيل الخصوم، وإيضاح لآيات الله في الأنفس والآفاق. فهو كتاب هداية وبيان، كما قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9]، ولهذا سمَّاه الله نورا: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} [النساء:174]، {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} [التغابن:8[

كما أنه يتعامل مع المخالفين له بسماحة منقطعة النظير، يدعو على بصيرة، ويجادل بالتي هي أحسن، ويدفع بالتي هي أحسن، ويأمر بالصبر على أذى الخصوم، والصفح عنهم، وترك أمرهم إلى الله يحكم بينهم يوم القيامة. كما يدعو إلى الدخول في السلم كافة، والإعراض عمَّن تولى عن الدخول في الإسلام، ولا يشرع القتال إلا لردِّ العدوان، وقتال مَن يقاتل المسلمين، أو يفتنهم عن دينهم، أو يعذِّب المستضعفين منهم ممَّن لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا. وإذا اضطر المسلمون إلى القتال: التزموا بآداب وأخلاق، تقفُهم عند حدود الله، التي تحرِّم عليهم الاعتداء: لا يقاتلون إلا مَن يقاتلهم، لا يقتلون امرأة ولا وليدا، ولا شيخا فانيا، ولا راهبا في صومعته، ولا فلاحا يحرث أرضه، ولا تاجرا في متجره، ولا يخربون عامرا، ولا يقطعون شجرا، ولا يفسدون في الأرض.

هذه التعاليم القرآنية الواضحة التي دلَّت عليها عشرات الآيات، بل مئاتها، وأكَّدتها السنة النبوية قولا وفعلا وتقريرا: ذهب بعض المفسرين القدامى إلى أنها فقدت فاعليتها، وأن كلَّ هذه الآيات المكتوبة في المصحف: موجودة حسًّا، معدومة معنىً، أو باقية تلاوة، منسوخة حُكما‍‍، بمعنى آخر: أن هذه الآيات - التي قدَّرها بعضهم بمائة وأربع عشرة آية (114)، وبعضهم بمائة وأربعين آية (140)، بل بعضهم بمائتي آية (200)، والتي نتلوها آناء الليل وآناء النهار، ونتعبَّد بتلاوتها - قد ألغتها وقضت عليها آية واحدة، أو جزء من آية، أطلقوا عليها: (آية السيف(

فإذا استشهدت بقوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256]، قيل لك: نسختها آية السيف.

أو بقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [البقرة:190]، قيل لك: نسختها آية السيف.

أو بقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125]، قيل لك: نسختها آية السيف.

أو بقوله عز وجل: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال:61]، قالوا لك: نسختها آية السيف.

أو بقوله تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} [النساء:90]، قيل: نسختها آية السيف.

أو بقوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة:8]، قيل: نسختها آية السيف!! ‍وهكذا الآيات الكثيرة الوفيرة في القرآن مكيه ومدنيه.

كأنما أصبحت (آية السيف) نفسها سيفا يقطع رقاب الآيات، ويتركها جثة هامدة لا روح فيها ولا حياة، فهي متلوَّة لفظا، ملغاة معنى. إذ حُكم عليها بالإعدام!!

• أيُّ آية هي آية السيف؟

والعجب العاجب في هذا الأمر: أنهم اختلفوا في تعيين هذه الآية التي زعموها ناسخة - آية السيف - أيُّ آية هذه من كتاب الله؟! وإن اتفقوا على أنها آية من سورة التوبة.

هل هي آية: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ...} [التوبة:5].

أو هي آية: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:36[

أو هي آية: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:41[

أو هي آية: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29[

وإن كان الأكثرون يرجِّحون: أن آية السيف هي أول آية ذكرناها في هذا السياق، وهي الآية الخامسة من سورة التوبة.

• بحث القضية من جذورها:

ولا بد لنا أن نناقش هذه القضية الكبيرة مناقشة علمية هادئة، نؤصِّلها تأصيلا، ونردَّها إلى جذورها، وِفق أصول الدين، وأصول الفقه، وأصول التفسير، وأصول الحديث، ولا نُلقي القول على عواهنه، أو نتلقَّى كل ما في الكتب بالقَبول، ونعتبرها قضايا مسلَّمة لا تقبل النقاش.

ومن هنا يجب علينا: أن نبحث هنا بحثا عميقا حرًّا في عِدَّة قضايا أساسية:

القضية الأولى: قضية النسخ في القرآن في ذاتها من حيث المبدأ، وهل هي قضية يقينية قطعية؟ أو هي قضية ظنية محتمِلة للخلاف؟

القضية الثانية: إذا سلَّمنا بمبدأ النسخ، وقامت الأدلة على جوازه ووقوعه في كتاب الله، فمتى يلزمنا القول بالنسخ؟ وهل كلُّ ما قيل: إنه منسوخ: يُقبل أو لذلك شروط لا بد أن تتوافر؟

القضية الثالثة: إذا سلَّمنا بمبدأ النسخ، وقبلناه بشروطه، فهل هذه الشروط تنطبق على ما سمَّوه (آية السيف)؟

وهنا يكون لزاما علينا: أن نعيِّن آية السيف: أيَّ آية هي؟ ثم نبيِّن مناقضتها للآيات الكثيرة الأخرى، التي زعموها منسوخة بها؟ وأنه لا يمكن الجمع بين هذه الآيات وبينها. وأنها نزلت متأخرة عنها.

هذه القضايا الثلاث الكبيرة التي يجب أن تُدرَس وتُبحث وتُناقش بجدية وموضوعية في ضوء المسلَّمات والقواعد العلمية المقرَّرة والمتفق عليها، سنبحثها هنا قضية بعد أخرى.

• قضية النسخ في القرآن وأدلة القائلين به :

مما لا يشكُّ فيه مسلم: أن هذا القرآن كلام الله تعالى لفظا ومعنى، ليس لجبريل فيه إلا النزول به من السماء إلى الأرض: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:193-195]، وليس لمحمد منه إلا تلقِّيه وحفظه، ثم تبليغه للناس، وتلاوته عليهم، وبيانه لهم: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى:6،7]، {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67]، {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44].

فهو: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1]، {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42[

وأن الله تعالى أنزل هذا الكتاب، ليهتدي الناس بهداه، ويعملوا بموجبه، وينزلوا على حكمه، أيا كان موقعهم أو منزلتهم، حكاما أو محكومين، يقول تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام:155]، {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف:3]، {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء:105]، {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:48]، {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة:49[

فهذه النصوص كلها توجب على الأمة - بيقين لا ريب فيه - اتباع ما أنزل الله، والاحتكام إليه إذا اختلفوا، كما قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10]، أي إلى ما في كتابه، فهو الذي تضمَّن حكمه سبحانه. وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]، وقد أجمعت الأمة على أن الردَّ إلى الله تعالى يعني: الردَّ إلى كتابه، والردُّ إلى الرسول يعني: الردَّ إلى سنَّته.

وقال تعالى في شأن قوم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [النساء:61[

فكيف يسوغ للمسلم - بغير برهان قاطع - أن يأتي بعد هذه البينات إلى بعض آيات من كتاب الله، ليقول عنها: إنها مُلغاة، بَطَل مفعولها! بغير برهان من الله. يا للهول من هذا القول!

ولكن هذا ما حدث، فقد شاع القول بأن في القرآن آيات منسوخة، وأخرى ناسخة، وصُنفت في ذلك الكتب، وتوارثه الخلف عن السلف، وأصبحت وكأنها قضية مسلَّمة، مع أن القضية ليس فيها نص قاطع، ولا إجماع متيقَّن!

وساعد على ذلك: أن إطلاق السلف لكلمة (النسخ) كثيرا ما يعنون بها غير ما يعنيه الخلف، وأمسى مصطلحا لديهم، وهو: رفع حكم شرعي سابق بدليل شرعي متأخر. ولم يكن السلف يقصدون هذا المعنى دائما.

فما أدلة القائلين بالنسخ إذن؟

• ( 1 ) الدليل الأول من القرآن :

أول الأدلة وأبرزها قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ * أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} [البقرة:106-108]، فهذه الآية الكريمة وما بعدها هي عمدة القائلين بالنسخ.

ومعناها عند عامة العلماء أو جمهورهم: ما قاله ابن جَرير الطبري في (جامع البيان) ونقله عنه الحافظ ابن كثير: قال: ({مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ}: ما ننقل من حكم آية إلى غيره، فنبدِّله ونغيِّره، وذلك: أن نحوِّل الحلال حراما، والحرام حلالا، والمباح محظورا، والمحظور مباحا، ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي، والحظر والإطلاق، والمنع والإباحة. فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ. قال ابن كثير: وأما علماء الأصول فاختلفت عباراتهم في حدِّ النسخ، والأمر في ذلك قريب، لأن معنى النسخ الشرعي معلوم عند العلماء، ولحظ بعضهم: أنه رفع الحكم بدليل شرعي متأخر)[1] انتهى.

ومن أدلتهم من القرآن أيضا قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النحل:101[

قالوا: المراد بالتبديل هنا: النسخ.

• ( 2 ) إقرار العلماء كافة بوجود النسخ:

ومن الأدلة على شرعية النسخ: أن العلماء من قديم قالوا بمبدأ النسخ، وذهبوا إلى أن في القرآن آيات منسوخة، وإن اختلفوا فيها اختلافا كثيرا، فهذا يقول بنسخ هذه الآية، وآخر أو آخرون يعارضونه. ولكن المحصِّلة النهائية: أنهم جميعا أقرُّوا بقاعدة النسخ.

وقد ذُكر ذلك في كتب التفسير كلها، كما أُلِّفت كتب خاصة في الناسخ والمنسوخ في القرآن: لأبي عبيد، وأبي جعفر النحاس، وهبة الله الضرير، وابن العربي وابن الجوزي وغيرهم، ممَّن أحصاهم الدكتور مصطفى زيد - رحمه الله - في كتابه (النسخ في القرآن الكريم) وعقد لهم ولمؤلفاتهم فصلين كاملين من الباب الثاني من كتابه[2[

ولكن الذي يتأمَّل ما جاء عن السلف فيما سمَّوه (نسخا)، يجد أن كثيرا منه ليس من النسخ المعروف عند المتأخرين في شيء، والآفة هنا تأتي دائما من إطلاق المصطلحات الحادثة على المصطلحات القديمة، مع تغايرها وتباينها في المفهوم، فقد كان المتقدمون من العلماء يريدون بالنسخ ما قد يسميه المتأخرون تخصيصا للعام أو تقييدا للمطلق، أو تفسيرا للمجمل، أو غير ذلك، ولا يعنون به (رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر(

وهذا ما نبَّه عليه المحقِّقون من أمثال الإمام ابن القيم الحنبلي، والإمام الشاطبي المالكي، وهذا في المغرب، وذاك في المشرق.

يقول الإمام ابن القيم: (ومراد عامة السلف بالناسخ والمنسوخ: رفع الحكم بجملته تارة - وهو اصطلاح المتأخرين - ورفع دلالة العام والمطلق وغيرها تارة، إما بتخصيص عام أو تقييد مطلق، وحمله على المقيَّد وتفسيره وتبيينه، حتى إنهم يسمُّون الاستثناء والشرط والصفة نسخا، لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر وبيان المراد، فالنسخ عندهم وفي لسانهم هو بيان المراد بغير ذلك اللفظ، بل بأمر خارج عنه، ومَن تأمَّل كلامهم رأى من ذلك فيه ما لا يحصى، وزال عنه به إشكالات أوجبها حمل كلامهم على الاصطلاح الحادث المتأخر)[3[

ويقول الإمام أبو إسحاق الشاطبي: في "موافقاته": (الذي يظهر من كلام المتقدِّمين: أن النسخ عندهم في الإطلاق أعم منه في كلام الأصوليين، فقد كانوا يطلقون على تقييد المطلق نسخا، وعلى تخصيص العموم بدليل متصل أو منفصل نسخا، وعلى بيان المبهم والمجمل نسخا. كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي بدليل متأخر نسخا، لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد)[4[

• ( 3 ) وجود المنسوخ بالفعل:

ومن أدلة القائلين بالنسخ: وجود المنسوخ بالفعل، وليس أدلُّ على جواز الأمر من وقوعه بالفعل، فإن الوقوع أقوى من مجرَّد الجواز، فإن الشيء قد يكون جائزا ولا يقع.

ودليل الوجود بالفعل أمران:

الأول: وجود نصوص متعارضة في القرآن، ولا يمكن الجمع بينها، ولا تفسير لهذا التعارض في كتاب الله، إلا أن أحدهما ناسخ والآخر منسوخ.

ولذلك أمثلة كثيرة ذكرها العلماء، مثل آية التخيير في الصوم: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:184]، عارضتها الآية التي تليها: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]، فالآية الأولى خيَّرت بين الصيام ودفع الفدية: طعام مسكين، والآية الثانية ألزمت بالصيام: {فَلْيَصُمْهُ{

وفي البقرة أيضا: آيتا النساء المتوفَّى عنهن أزواجهن، الآية الأولى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:234[

والآية الأخرى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} [البقرة:240[

قالوا: الآية الأولى نسخت الآية الثانية، وإن كانت قبلها في المصحف.

الثاني: ما ذكرناه من أقوال عدد من مفسري القرآن بوقوع النسخ في أعداد من الآيات في عدد من سور القرآن مكية ومدنية. وقد أُلِّفت كتب كثيرة في ذلك معروفة لدى الدارسين.

• ردود المنكرين للنسخ في القرآن:

وللمنكرين للنسخ في القرآن وِجهتهم وموقفهم من هذه الأدلة التي استند إليها المدَّعون للنسخ والمتوسِّعون فيه، ومن حقِّهم أن نستمع إليهم، ولا سيما بعد إفراط المفرطين في دعاوى النسخ.

• ( 1 ) الرد على الاستدلال بآية {مَا نَنْسَخْ{

أما ما استدلَّ به القائلون بالنسخ - وهم جمهور علماء الأمة أو عامتهم - من قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ * أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} [البقرة:106-108]، فإن الذين ينكرون النسخ لهم فيها نظر وتأويل يمكن أن يُسمع.

فمنهم مَن قال: هذا في النسخ ما بين الشرائع بعضها وبعض، فمن المقرَّر المعروف: أن الأديان السماوية كلها متفقة في أصولها العقدية، ولكنها مختلفة في أحكامها التشريعية، كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:48[

وهذا من الحكمة، لاختلافها بعضها عن بعض: زمانا وظروفا وأوضاعا، ولهذا حرَّمت التوراة بعض ما كان حلالا لأولاد آدم من صُلبه من إباحة تزوُّج الأخ لأخته، نزولا على حكم الضرورة، وإلا ما تناسلت البشرية، واستمرَّ النوع.

ومثل ما ذكره الله عن المسيح الذي قال لبني إسرائيل: {وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:50[

فالمقصود بالنسخ في الآية الكريمة هنا: نسخ بعض الأحكام التي جاءت بها التوراة أو الإنجيل من قبل، كما قال تعالى في وصف الرسول، في التوراة والإنجيل: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157[

فقد ذكر لنا القرآن: أن الله تعالى حرَّم على بني إسرائيل طيبات أُحلت لهم بسبب ظلمهم وبغيهم، كما قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً * وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ...} [النساء:161،160]، فجاء الإسلام فردَّ هذه الطيبات المحرَّمة على بني إسرائيل - بسبب ظلمهم - إلى أصل الحلِّ.

وهذه الآية: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة:106]، قد جاءت في سورة البقرة تمهِّد لما شرعه الله تعالى لمحمد وأهل مِلَّته من (نسخ القبلة) وتغييرها من (بيت المقدس) إلى (المسجد الحرام)، كما كان يتمنَّى النبي صلى الله عليه وسلم، ولذا قال له: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:144]، وقد أحدث يهود المدينة ضجَّة حول هذا التغيير، أو هذا النسخ للحكم القديم، وردَّ عليهم القرآن: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:142[

فلا غرو أن تأتي هذه الآية في هذه السورة، لتمهِّد لهذه المعركة التي أشعلها اليهود ضدَّ نسخ القبلة.

فهذا رأي من آراء العلماء - وأنا منهم - أن المراد بالنسخ: النسخ الواقع بين الشرائع السماوية بعضها وبعض. وهذا لا ينبغي أن يُنكر، فهو مقبول حكمة وعقلا، ثابت واقعا وفعلا.

ورُوي عن بعض السلف مثل الضحاك: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة:106]: ما نُنسِك[5] . كأنه يشير إلى قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى:7،6[

وقال عطاء: أما {مَا نَنْسَخْ}: فما نترك من القرآن. وقال ابن أبي حاتم: يعني: تُرِك فلم ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم[6] انتهى.

وقال الزركشي: قيل في قوله تعالى : (ما ننسخ من آية) ( البقرة : 106 ) ولم (يقل من القرآن ) لأن القرآن ناسخ مهيمن على كل الكتب ، وليس يأتي بعده ناسخ له ، وما فيه من ناسخ ومنسوخ فمعلوم وهو قليل ; بين الله ناسخه عند منسوخه ، كنسخ الصدقة عند مناجاة الرسول ، والعدة والفرار في الجهاد ونحوه ; وأما غير ذلك فمن تحقق علما بالنسخ علم أن غالب ذلك من المنسأ ، ومنه ما يرجع لبيان الحكم المجمل ، كالسبيل في حق الآتية بالفاحشة ، فبينته السنة ، وكل ما في القرآن مما يدعى نسخه بالسنة عند من يراه فهو بيان لحكم القرآن ، وقال سبحانه : (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس) ( النحل : 44 ) [ ص: 175 ] وأما بالقرآن على ما ظنه كثير من المفسرين فليس بنسخ ; وإنما هو نسأ وتأخير ، أو مجمل أخر بيانه لوقت الحاجة ، أو خطاب قد حال بينه وبين أوله خطاب غيره ، أو مخصوص من عموم ، أو حكم عام لخاص ، أو لمداخلة معنى في معنى ، وأنواع الخطاب كثيرة فظنوا ذلك نسخا وليس به ، وأنه الكتاب المهيمن على غيره ، وهو في نفسه متعاضد ، وقد تولى الله حفظه ، فقال تعالى : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون[7] ( الحجر : 9 (

ويرى الأستاذ الأمام محمد عبده - كما نقل ذلك الشيخ رشيد رضا صاحب تفسير المنار - رأيا آخر في آية النسخ. فإنه فسَّر كلمة {آيَةٍ} في قوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} بأن المراد بها: الآية الكونية، مثل الآيات التي أيَّد الله بها رسله قبل محمد عليه الصلاة والسلام. وأيَّد ذلك بأن الآية ختمت بقوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:106]، وهذا التذييل يناسب الآيات الكونية وإلا لكان الأنسب أن يقال مثلا: ألم تعلم أن الله عزيز حكيم، أو عليم حكيم. وكذلك قوله بعدها: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} [البقرة:108]، وقد سألوه آيات كونية، مثل قولهم: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء:153]، ونحو ذلك، فهذا التعقيب أقرب إلى الآيات الكونية منه إلى الآيات التنزيلية والتشريعية[8] . ولو كان المقصود نسخ الأحكام _كما في المشهور _ لقال : ما ننسخ من حكم في آية أو ننسه ، نأت بخير منه. ولكنه قال : ما ننسخ من آية.

وبهذا نرى أن الدلالة في الآية ليست دلالة قاطعة على مشروعية النسخ في القرآن، ولو كانت قاطعة ما وجدنا من العلماء القدامى مَن ينكر النسخ بالكلية مثل أبي مسلم الأصفهاني، ومَن ذكرهم الإمام الزركشي في (البرهان) من العلماء. وما وجدنا من العلماء في عصرنا: مَن ينكر النسخ كذلك[9[

والمعركة بين الفريقين لم تزل حية، ولكل فريق أسلحته في الهجوم والدفاع.

ولا أريد أن أخوض في ذلك أو أُطيل، فهذا ليس موضوعنا، وإنما اضطررنا للخوض فيه من أجل توسُّع مَن توسَّع في القول بالنسخ بآية السيف.

إنما يكفينا هنا: أن نقول: إن الآية التي هي عمدة القائلين بالنسخ ليست قاطعة الدلالة على قولهم، مع أن قولهم بإنهاء حكم آية أو أكثر من كتاب الله من الخطورة ومن الأهمية، بحيث يحتاج إلى دليل قطعي يسنده، وإلا فإن الأصل: أن آيات كتاب الله مُحْكَمة مُلْزِمة، دائمة ثابتة إلى يوم القيامة.

على أننا نستطيع أن نستدلَّ بالآية على نسخ بعض ما كان ثابتا في الشرائع السابقة، على ما اخترناه.مثل نسخ القبلة إلي بيت المقدس ونحوه.

• ( 2 ) آية سورة النحل:

وأما الآية الأخرى من سورة النحل، التي استدلَّ بها القائلون بالنسخ، وهي قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النحل:101[

قالوا: المراد بالتبديل هنا: النسخ.

ولكن المنكرين يقولون: إن هذه الآية من سورة النحل: مكية بالإجماع، وفي العهد المكي لم يحدث أي نسخ في القرآن الكريم. إذ لم تكن آيات الأحكام قد نزلت بعد.

وما قيل في تأويل آية البقرة، يسهُل أن يقال هنا، بل ربما كان أكثر قَبولا.

• ( 3 ) ليس في السنة دليل على النسخ في القرآن:

ثم إن مَن قرأ كتب الحديث الستة المعروفة، أو التسعة، بإضافة الموطأ ومسند أحمد والدَّارِمي. أو الأربعة عشرة، بإضافة مسندي أبي يعلى والبزار ومعاجم الطبراني الثلاثة. أو السبعة عشر، بإضافة صحيح ابن خزيمة، وصحيح ابن حِبان ومستدرك الحاكم. أو أكثر منها: لم يجد فيها حديثا ثابتا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول فيه: أن الآية الفلانية في سورة كذا منسوخة، وقد بطل حكمها، أو يقول: إن هذه الآية من سورة كذا قد أبطلت حكم آية كذا من سورة كذا.

فقد تلقَّى كُتَّاب الوحي، وحُفَّاظ القرآن، وعامة الصحابة: القرآن من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أمره ربه أن يبلغه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67]، ولم يسمعوا من رسول الله شيئا من ذلك: أن من القرآن ما هو منسوخ بالمعنى الاصطلاحي للنسخ، وهو: رفع حكم متقدِّم بدليل شرعي متأخِّر.

كما أن الله تعالى كلَّفه عليه الصلاة والسلام، ببيان القرآن المنزَّل عليه، كما قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]، ولم يكن في بيانه للقرآن طوال ثلاثة وعشرين عاما: ما يفيد أن آية نسخت آية أخرى، مع أهمية هذا البيان وضرورته، وحاجة المسلمين الماسَّة إليه، وقد قرَّر العلماء: أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، لما فيه من إضلال الناس عن الحقيقة.

• ( 4 ) لا إجماع على النسخ:

وكما أنه لا يوجد دليل قاطع من القرآن على شرعية النسخ فيه، ولا دليل قاطع ولا غير قاطع من الحديث النبوي: كذلك لا يوجد إجماع من الأمة - التي لا تجتمع على ضلالة - على جواز النسخ ووقوعه في القرآن.

وقد عرَفنا من المخالفين للنسخ في القرآن: أبا مسلم الأصفهاني [10] (ت322هـ)، الذي يذكر الإمام فخر الدين الرازي في (تفسيره الكبير) أقواله المعارضة للنسخ في الآيات التي اشتهر فيها القول بالنسخ، كما يذكر دليله على عدم قَبول النسخ. ويبدو لمَن يتأمل كلام الرازي ونقله عن أبي مسلم، وعدم ردِّه على قوله، يبدو وكأنه يؤيِّده بوجه من الوجوه. وفي بعض الأحيان قال: رأيُ أبي مسلم - إن لم يسبقه إجماع - فهو قول صحيح حسن[11] . وفي تفسير الآية (240) من سورة البقرة: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ...} الآية [البقرة:240]. ذكر الرازي رأي أبي مسلم في عدم النسخ، ووضَّحه، ثم قال: (فهذا تقرير قول أبي مسلم، وهو في غاية الصحة)[12[

هذا وإن كان كلام أبي مسلم في تأويل بعض الآيات المدَّعى نسخها لا يخلو من تكلف واعتساف.

وقد ذكر الإمام الزركشي في البرهان: أن هناك من العلماء مَن نفى النسخ في القرآن، أو نفى النسخ بالكلية في الشريعة، فقد تكلَّم عن معنى النسخ ثم قال:

(اختلف العلماء فقيل: المنسوخ ما رُفع تلاوة تنزيله، كما رُفع العمل به (يريد: أن ما بقي لفظه متلوا في القرآن لا يُنسخ). ورُدُّ بما نسخ الله من التوراة والإنجيل بالقرآن، وهما متلوان[13[

وقيل: لا يقع النسخ في قرآن يُتلى وينزل. قال: ويفرُّ هؤلاء من القول بأن الله ينسخ شيئا بعد نزوله والعمل به.

قال: والصحيح: جواز النسخ ووقوعه سمعا وعقلا) [14] انتهى.

والذي يهمُّنا هنا من نقل الإمام الزركشي: أن هناك مَن أنكر نسخ ما هو متلوٌّ من القرآن.

ومما يؤيِّد نفي الإجماع: أنه لا توجد آية قيل بنسخها، إلا وجدنا مَن يخالف فيها من المفسرين المتقدمين.

ومعنى هذا: أنه لا توجد آية في كتاب الله: اتَّفق جميع العلماء بيقين على أنها منسوخة.

والأصل في آيات القرآن: أن الله عز وجل إنما أنزلها، ليُعمل بها، ويُهتدى بهداها، لا ليُبطل حكمها بآية أخرى. وأنه جعل هذا الكتاب متشابها يصدِّق بعضه بعضا، ويفسِّر بعضه بعضا، ويتكامل بعضه مع بعض، كما قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82[

يقول الإمام أبو محمد ابن حزم في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام(

(لا يحلُّ لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر، أن يقول في شيء من القرآن والسنة: هذا منسوخ إلا بيقين؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء:64]، وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف:3]، فكلُّ ما أنزل الله تعالى في القرآن أو على لسان نبيه: ففرض اتِّباعه، فمَن قال في شيء من ذلك: إنه منسوخ، فقد أوجب ألاَّ يُطاع ذلك الأمر، وأسقط لزوم اتِّباعه. وهذه معصية لله تعالى مجرَّدة، وخلاف مكشوف، إلا أن يقوم برهان على صحَّة قوله، وإلا فهو مفترٍ مبطل. ومن استجاز خلاف ما قلنا: فقوله يؤول إلى إبطال الشريعة كلِّها؛ لأنه لا فرَّق بين دعواه النسخ في آية ما أو حديث ما، وبين دعوى غيره النسخ في آية أخرى وحديث آخر، فعلى هذا لا يصحُّ شيء من القرآن والسنة، وهذا خروج عن الإسلام، وكل ما ثبت بيقين، فلا يبطل بالظنون، ولا يجوز لنا أن نُسقط طاعة أمر أمرنا به الله تعالى ورسوله، إلا بيقين نسخ لا شك فيه ...)[15[

وبعد الإمام ابن حزم، نجد الإمام أبا إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي يؤكِّد ما قاله ابن حزم برغم تفاوت ما بينهما في الاتجاه، فابن حزم (ظاهري) والشاطبي (مقاصدي). يقول الشاطبي في (موافقاته(

(إن الأحكام - إذا ثبتت على المكلَّف - فادِّعاء النسخ فيها لا يكون إلا بأمر محقَّق؛ لأن ثبوتها على المكلَّف أولا محقَّق، فرفعها بعد العلم بثبوتها لا يكون إلا بمعلوم محقَّق. ولذلك أجمع المحقِّقون على أن خبر الواحد: لا ينسخ القرآن ولا الخبرَ المتواتر؛ لأنه رفع للمقطوع به بالمظنون. فاقتضى هذا أن ما كان من الأحكام المكية يُدَّعى نسخه: لا ينبغي قَبول تلك الدعوى فيه إلا مع قاطع بالنسخ، بحيث لا يمكن الجمع بين الدليلين، ولا دعوى الإحكام فيهما. وهكذا يقال في سائر الأحكام، مكيَّة كانت أو مدنيَّة (

وبعد أن يقرِّر أن (غالب ما ادُّعي فيه النسخ إذا تُؤمل وُجد متنازَعا فيه، ومحتملا، وقريبا من التأويل بالجمع بين الدليلين، على وجه من كون الثاني تفصيلا لمُجمل أو تخصيصا لعموم... إلخ). وبعد أن يذكر: أن ابن العربي قد أسقط من الناسخ والمنسوخ كثيرا بهذه الطريقة - نراه ينقل عن الطبري حكاية الإجماع عن أهل العلم على أن زكاة الفطر فُرضت، ثم اختلافهم في نسخها، ليقول عقب هذا: (قال النحاس: فلما ثبتت بالإجماع، وبالأحاديث الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم: لم يَجُز أن تزال إلا بالإجماع، أو حديث يُزيلها ويبيِّن نسخها. ولم يأت من ذلك شيء) [16[

هذا فيما ثبت بالسنة فكيف بما ثبت بصريح القرآن؟


: الأوسمة



التالي
حقوق الشعب الفلسطيني وواجبنا الشرعي نحوهم
السابق
الحصار شتت شمل الأسر وضيع الحقوق

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع