البحث

التفاصيل

كتاب : فقه الجهاد .. الحلقة [ 23 ] : الباب الثالث : الجهاد بين الدفاع والهجوم (مناقشة أدلة الفريقين من الهجوميين والدفاعيين) الفصل الأول : الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم : السلم أم الحرب؟

 

 

• تمهيد : الجهاد بين الدفاع والهجوم

 

• حكم قتال من لم يقاتلنا وتصور حقيقة هذا الجهاد :

 

المقصود من هذا الباب الكبير والمهم (الجهاد بين الدفاع والهجوم): أن يعرف القارئ الكريم من أول الأمر: حقيقة هذا (الجهاد) الذي نتحدَّث عنه، وتتكشَّف له حقائقه. قبل أن نُبدئ ونُعيد في تفصيل أحكامه.

 

ولهذا رأينا أن نقدِّمه على بيان أهداف الجهاد، كما شرعه الإسلام، لأن الأهداف إنما تتَّضح معالمها إذا عرفنا حقيقة الجهاد الأساسية: أهي هجومية أم دفاعية؟ وقمنا بمناقشة أدلَّة الفريقين المتنازعين بموضوعية وإنصاف، لا يسوقنا إلا الدليل الصحيح.

 

وربما رغب بعض الإخوة بالفعل أن نقدِّم باب الأهداف على هذا الباب؛ لأن الأهداف إذا بُيِّنت تُسهم في تسديد تصوُّر حقيقة الجهاد، وهي وجهة نظر معقولة.

 

ولكني آثرت الوجهة الأخرى، لما ذكرتُ من قبل، ولكلِّ وجهة اعتبارها.

 

ولنشرع في فصول هذا الباب الذي هو أطول باب في الكتاب، وأكثره فصولا، فقد بلغت اثني عشر فصلا.

 

فلنشرع فيها على بركة الله سبحانه الذي نسأله العون والتوفيق. اللهم أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.

 

***

 

الفصل الأول : الأصل في عَلاقة المسلمين بالآخرين: السلم أم الحرب؟

 

• هل يجب على المسلمين قتال غير المسلمين المسالمين ؟ :

 

هل الأصل في عَلاقة المسلمين بغيرهم ممَّن يخالفهم في العقيدة: السلم أو الحرب؟ بمعنى آخر: هل يجب على المسلمين أن يقاتلوا غير المسلمين، ولو كانوا مسالمين لهم، كافِّين أيديهم عنهم، لا يضمرون لهم شرًّا، ولا يظاهرون عليهم عدوا؟

 

أو الواجب على المسلمين ألا يقاتلوا إلا مَن يقاتلهم ويعتدي على حرماتهم: على أنفسهم أو أهليهم وأموالهم أو أرضهم، أو يقف في وجه دعوتهم ويصد دعاتها، ويعترض طريقهم، ويفتن مَن دخل في الإسلام باختياره بالأذى والعذاب؟

 

وقد يعبَّر عن هذه القضية بصيغة أخرى، وهي: لماذا يقاتل المسلمون الكفار؟ أهو لمجرَّد كفرهم؟ أم لعدوانهم على المسلمين بصورة وأخرى؟

 

هذه قضية كبيرة، اختلف فيها العلماء قديما وحديثا، وإن كان مما يؤسف له: أن الذي شاع واشتهر لدى الكثيرين: أن الإسلام يأمر بمقاتلة كل مَن يخالفه، سواء كانوا وثنيين مشركين، أم أهل كتاب (يهودا أو نصارى)، أم ملاحدة جاحدين، أم غيرهم من الغافلين الذين لا يفكرون في أمر الدين إيجابا ولا سلبا، وسواء سالَمه هؤلاء أم حاربوه، فلا بد أن يقاتَلوا حتى يسلموا، أو يؤدُّوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

 

القضية تستحقُّ من أهل العلم والتحقيق في عصرنا: وقفة للتأمل والبحث العميق، ومراجعة النصوص الأصلية، وعدم الاكتفاء بالنقل عن هذا وذاك - ولا سيما كتب المتأخرين - وردِّ المتشابهات إلى المُحكمات، والظنيات إلى القطعيات، والفروع إلى الأصول، وربط النصوص - وخصوصا من القرآن – بعضها ببعض، وربط الظواهر بالمقاصد، أو ربط النصوص الجزئية بالمقاصد الكلية للشريعة، وبالأهداف العامة للإسلام. وفي ضوء المناقشة والموازنة والتحليل والتأصيل: يرجَّح الرأي الأقرب إلى مجموع نصوص الشرع ومقاصده، والمحقِّق للمصلحة الحقيقية للأمة الإسلامية الكبرى.

 

وهنا لا بد أن نذكر أن هذا الخلاف إنما هو فيما يسمى: (جهاد الطلب)، وليس في (جهاد الدفع)

 

والمقصود بجهاد الدفع: جهاد المقاومة والتحرير لأرض الإسلام من الغُزاة المحتلِّين، الذين هاجموها واحتلُّوا جزءا منها مهما تكن مساحته، فهذا النوع من الجهاد لا خلاف في فرضيته على المسلمين، لم ينازع في ذلك عالم في القديم أو الحديث. فالأمة - بجميع مذاهبها ومدارسها وفِرَقها - مُجمعة على وجوب الجهاد بالسلاح وبكل ما تقدر عليه، لطرد العدو المحتل، وتحرير دار الإسلام من رجسه، وهذا النوع من الجهاد والمقاومة: متفق على مشروعيته بين أمم الأرض جميعا.

 

ومثل ذلك: الأعداء الذين يهدِّدون ديار الإسلام بالغزو، والاحتشاد على الحدود، وهم قادرون على ذلك، وإن لم يدخلوا أرض الإسلام بالفعل، ولكن خطرهم قائم.

 

أما المقصود بجهاد الطلب، فهو: الجهاد الذي يكون الكفار في أرضهم، والمسلمون هم الذين يغزونهم ويطلبونهم في عقر دارهم، توقِّيا لخطرهم في المستقبل، أو تأمينا للأمة من شرِّهم، أو مباغتة لهم قبل أن تفاجأ الأمة بغزوهم، كما في غزوة تبوك. أو لإزاحة الحواجز أمام شعوبهم، لتبليغها دعوة الإسلام، وإسماعها كلمة الإسلام بصراحة، أو لمجرَّد إخضاعهم لسلطان الدولة الإسلامية، ولسيادة النظام الإسلامي الذي يحكم الحياة بتشريعاته العادلة وتوجيهاته الفاضلة.

 

• أنواع مشروعة من جهاد الطلب لا خلاف عليها:

 

وأودُّ أن أحرِّر هنا موضع الخلاف بين المعتدلين والمتشددين، أو بين الدفاعيين والهجوميين - كما يسمِّيهم البعض - في هذه القضية.

 

فبعض الهجوميين لم يكن أمينا مع أصحاب الرأي الآخر، فهو يقوِّلهم ما لم يقولوا، ويتَّهمهم بما هم منه براء، فهم يقولون: إن هؤلاء (الدفاعيين) لا يقرُّون جهاد الطلب بحال من الأحوال، ولا في أي صورة من الصُور، ولا لأي سبب من الأسباب، ولا يرون الجهاد مشروعا إلا في حالة واحدة، وهي: إذا اعتُدي على المسلمين في دارهم ووطنهم. هكذا صُوِّر رأي المعتدلين أو مَن يسمُّونهم الدفاعيين.

 

وأرى أن هذا ليس من الإنصاف مع الخصوم، ولا من الدقة والأمانة في عرض آرائهم، وأنا أعني: المعتدلين منهم، لا المستكينين والمستسلمين والانهزاميين! فمَن قرأ آراء هؤلاء المعتدلين: وجدهم يقرُّون جهاد الطلب، وغزو العدو في داره، لعدة أسباب، نذكرها فيما يلي:

 

(أولا ) : تأمين حرية الدعوة، ومنع الفتنة في الدين، ومقاومة الذين يمنعون الدعوة بالقوة، بل يقتلون الدعاة، كما فعل الأمراء التابعون لإمبراطور الروم. فهنا تتحتَّم إزالة الحواجز المادية التي تحُول بالقوة والجبروت بين جماهير الناس وبين بلوغ دعوة الإسلام إليهم. وعلى هذا كانت فتوح الراشدين والصحابة ومَن تبعهم بإحسان، لإزالة القوى الطاغية التي تتحكَّم في رقاب البشر وضمائرهم، وتقف بكلِّ قوَّتها العسكرية في وجه الدعوة، والصدِّ عنها، ولو بقتل الدعاة، وهي تقول ما قال فرعون لمَن آمن من أبناء شعبه: {آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [طـه:71، الشعراء:49]، وهذا الهدف تجسيد لقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة:193، الأنفال:39[

 

- ) ثانيا ) : تأمين سلامة الدولة الإسلامية، وسلامة حدودها، إذا كانت مهدَّدة من قِبَل أعدائها، الذين يتربَّصون بها، ويكيدون لها، ويهيئون أنفسهم لمهاجمتها، وهو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، في غزوة تبوك، حين بلغه أن الروم يتأهبون لغزوه في المدينة، فبادرهم بأن غزاهم هو في عقر دارهم. وهو ما يسمونه في عصرنا الحاضر: (الحرب الوقائية). وهذه من ضرورات حفظ المُلك، وحماية الدولة، ومقتضى سنة (التدافع). ومعظم الفتوحات الإسلامية كانت من هذا النوع من الحرب الوقائية، بعد أن اصطدمت الدولة الإسلامية مبكِّرا، منذ عهد الرسول بالدولتين الكبريين في العالم: الفرس والروم، وبدأ الصراع مع الروم منذ سرية مؤتة، وغزوة تبوك. وبدأت بذور الصراع مع الفرس، منذ مزَّق كسرى كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إليه، وتوعَّده بما توعَّد به.

 

)ثالثا ) : إنقاذ المستضعفين من أُسارى المسلمين، أو من أقلياتهم، التي تعاني التضييق والاضطهاد والتعذيب، من قِبَل السلطات الحاكمة الظالمة المستكبرة في الأرض بغير الحق، كما قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} [النساء:75[

 

بل إن الدولة الإسلامية - إذا استغاث بها هؤلاء المستضعفون المضطهدون ولو كانوا من غير المسلمين، وكانت تملك القدرة على إنقاذهم مما هم فيه - ليجب عليها أن تستجيب لدعوتهم، وتغيث لهفتهم إذا طلبوا نجدتها، فإن نصرة المظلوم، وإعانة الضعيف، وردع الظالم عن ظلمه: واجب شرعي، بل هو واجب أخلاقي في كل دين، وكل مجتمع يقوم على الفضائل، ورعاية القِيَم العليا، سواء كان المظلوم مسلما أم غير مسلم.

 

)رابعا ) : إخلاء جزيرة العرب من (الشرك المحارب)، المتجبِّر في الأرض، وخلع أنيابه المفترسة، واعتبار الجزيرة وطنا حرًّا خالصا للإسلام وأهله، وبهذا يكون للإسلام معقِله الخاص، وحِماه الذي لا يشاركه فيه أحد. ولله حكمة في ذلك: أن يكون الحجاز وما حوله من أرض الجزيرة هو الملاذ والمحضن لهذا الدين، الذي يأرز [1] إليه الإسلام كلما نزلت المحن والشدائد بأطرافه المختلفة. وهذا ما أثبت لنا التاريخ جدواه وأهميته خلال العصور والأزمات التي مرَّ بها تاريخ الأمة.

 

وفي هذا نزلت آيات سورة التوبة في البراءة من المشركين الناكثين للعهود، المتعدِّين للحدود ... وتأجيلهم أربعة أشهر، يسيحون فيها في الأرض، ثم يختارون لأنفسهم: الإسلام، أو الرحيل من هذه الأرض أو القتال، وهذه الأشهر الأربعة هي التي سمِّيت (حُرُما) لتحريم قتالهم فيها، ثم قال تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة:5]، وشاء الله أن يختار العرب - بإرادتهم الحرَّة - الدخول في الإسلام طائعين، قبل أن تمرَّ الأشهر الأربعة، وتصبح الجزيرة خالصة للإسلام، ويصبح العرب عَصَبة الإسلام، وجنده الأولين، وحملة رسالته إلى العالم.

 

وهذا من فضل الله على العرب، مع ما فضَّلهم به: فالقرآن نزل بلغتهم، والرسول بُعث منهم، والكعبة والمسجد الحرام والمسجد النبوي في أرضهم، وقد أصبحوا هم حُرَّاس الإسلام، ومبلِّغي دعوته إلى العالمين.

 

ومن هنا يتبيَّن لنا أن هذا السبب من أسباب جهاد الطلب، لم يعد له وجود اليوم، وأنه أصبح في ذمَّة التاريخ.

 

• موضع الخلاف بين الفريقين:

 

إذن ما هو موضع الخلاف بين الفريقين: المعتدلين والمتشددين، أو الدفاعيين والهجوميين، أو دعاة السلام ودعاة الحرب؟

 

موضع الخلاف يتحدَّد في نقطة واحدة، وهي: غير المسلمين المسالمون، الذين لم يقاتلوا المسلمين في الدين، ولم يخرجوهم من ديارهم، ولم يظاهروا على إخراجهم، ولم يظهر في أقوالهم ولا أعمالهم أي سوء يضمرونه للمسلمين، بل كفُّوا عن المسلمين أيديهم وألسنتهم، وألقَوا إليهم السلم، فهل يقاتَل هؤلاء أو لا يقاتَلون؟

 

فريق المعتدلين أو دعاة السلام، أو الدفاعيين كما يسمُّونهم، يقولون: هؤلاء لا يقاتَلون، لأنهم لم يفعلوا شيئا يستوجب قتالهم، بل صريح آيات القرآن الكثيرة يمنع من قتالهم. نقرأ من هذه الآيات:

 

في سورة البقرة: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190[

 

وفي نفس السورة: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256[

 

وفي سورة آل عمران: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64[

 

وفي سورة النساء: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} [النساء:90[

 

وفي نفس السياق: {فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُبِيناً} [النساء:91[

 

وفي سورة المائدة في سياق الحديث عن أهل الكتاب: {وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:13[

 

وفي سورة الأنفال: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال :62،61]، حتى عند إرادة الخداع يحثُّ القرآن المسلمين أن يستجيبوا لدعوة السلم.

 

وفي سورة التوبة، وهي سورة إعلان الحرب على الشرك وأهله الناقضين للعهود، الناكثين للأيمان: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة:6[

 

}إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:7[

 

وفي سورة الحِجر: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94[

 

وفي سورة النحل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125[

 

وفي نفس السورة: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:127[

 

وفي سورة الأحقاف: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الاحقاف:35[

 

وفي سورة الممتحنة: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8[

 

هذه الآيات كلُّها وكثير غيرها: يستدلُّ بها المعتدلون على أن الإسلام يسالم مَن يسالمه، ويعادي مَن يعاديه، ولا يقاتل إلا من قاتله أو صدَّ عن سبيل دعوته، وفتن المؤمنين بها من أجل دينهم.

 

والمتشدِّدون من ذوي الرأي المعاكس، يتخلَّصون من هذه الآيات بكلمة في غاية السهولة، ولكنها في غاية الخطورة، وهي قولهم: إن هذه الآيات كلها (منسوخة). والذي نسخها: آية أو جزء من آية من سورة التوبة، وهي: ما أُطلق عليه: (آية السيف)

 

وهذا ما اضطرَّنا أن نناقش موضوع آية السيف هذه بتفصيل، حتى نضع الأمور في مواضعها، ولا نأخذ الأقوال المرويَّة في المسائل الكبيرة قضايا مسلَّمة.

 

ويقول هؤلاء الهجوميون: إن الموجِب لقتال غير المسلمين - وبعبارة أخرى: قتال الكفار - ليس عدوانهم على المسلمين، ولا فتنتهم في دينهم، ولا تأمين الحرية لدعوتهم، ولا إنقاذ المستضعفين من تحت أيديهم، ولكنه شيء واحد، أو موجِب لا شريك له، وهو: الكفر، فالكفر سبب كافٍ أو عِلَّة تامة لوجوب القتال، وهو بطبيعته يحمل دائما تهديدا للمسلمين ولدينهم. فإذا وُجدت عِلَّة أخرى، فهي مؤكِّدة لا مؤسِّسة.

 

• من آثار الفكر الهجومي على العالم:

 

وأودُّ أن أذكر هنا بصراحة: أن لرأي إخواننا من أصحاب (الجهاد الهجومي) – الذي يعلن الحرب على الشرق والغرب، والشمال والجنوب، والأبيض والأسود، والمسالم والمحارب - أثارا عملية خطيرة، نلمس ثمراتها في الواقع، فليس هو مجرَّد رأي نظري أو فلسفي تجريدي يقول به أصحابه، دون أن ينضح على الواقع الإسلامي والعالمي المعيش. بل له آثار عملية خطيرة، نراها بأعيننا ونلمسها بأيدينا، منها:

 

( 1 ) رفض ميثاق الأمم المتحدة:

 

أول الآثار العملية لهذا الرأي، كما حدَّدتها كتبهم ورسائلهم،(مثل رسالة: (أهمية الجهاد للعَلْياني) [2]: هو الرفض والإنكار لميثاق الأمم المتحدة، لأنه يقوم على نظرة غير نظرتهم، وفلسفة غير فلسفتهم، فميثاق الأمم المتحدة مبني على فكرة إمكان التعايش السِّلمي بين البشر، أو تقليل الصدام بينهم إذا حدث، أو تضييق آثار الحرب إذا وقعت، وهم يرفضون هذه النظرية، ويرفضون بنودها التفصيلية التي انبثقت عنها.

 

( 2 ) تجريم الانضمام إلى هيئة الأمم المتحدة:

 

ومما ذكره صاحب كتاب (أهمية الجهاد): أنه شنَّع على من سمَّاهم (أهل الدفاع): (أنهم بقولهم الشنيع – إن الإسلام دين يسالم مَن سالمه، ويحارب مَن حاربه – أعطوا للحكومات والدويلات القائمة في البلاد الإسلامية سندا شرعيا – إن كانت في حاجة إلى سند – بأن تنضمَّ إلى ما يُسمَّى بهيئة الأمم المتحدة التي تحرِّم الحروب إلا في صورة واحدة، هي: صورة ردِّ الاعتداء المسلح [3]، فإن جهاد الابتداء والطلب محرَّم في شريعة الأمم المتحدة، وهي تدعو إلى أن يعيش الناس عموما على مختلف أديانهم من وثنية ومجوسية وبوذية ويهودية ونصرانية وهندوسية – بل حتى الملاحدة الذي لا يعترفون بوجود الله – في وئام وسلام ومحبة وتعاون. وإذا حصل بينهم نزاع على الحدود الأرضية، فيتحاكمون إلى مجلس الأمن الطاغوتي، الذي ما عرَف الرجوع إلى ما أنزل الله طرفة عين. لو يعقل أهل الدفاع ما يترتب على قولهم المشؤوم، من إسقاط لفريضة الجهاد، ومن تحكيم للكفر: لأعلنوا براءتهم من ذلك القول الخبيث، إن كان فيهم مَن يحب الله ورسوله، ويعرف حدود ما أمر الله به.

 

)ولننقل الآن ملخصا لأحد القرارات الهامة لهيئة الأمم المتحدة – التي قرَّرت المبادئ للعَلاقات الدولية – ليعرف المسلم: ماذا يراد بفريضة الجهاد، في عصر ما يُسمَّى بالتنظيم الدولي، الذي هو في الحقيقة تنظيم دولي لهدم الإسلام لا لشيء آخر(

 

• قرارهيئة الأمم المتحدة في مبادئ العلاقات الدولية (القرار رقم 6225 الدورة 25(

 

إن الجمعية العامة ... تعلن رسميا المبادئ الآتية:

 

-1 مبدأ امتناع الدول في عَلاقاتها الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استعمالها ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على أي نحو آخر يتنافى مع مقاصد الأمم المتحدة.

 

-2 مبدأ فضِّ الدول لمنازعاتها الإقليمية بالوسائل السِّلمية على وجه لا يعرِّض السلم والأمن الدوليين ولا العدل للخطر.

 

-3 المبدأ الخاص بوجوب عدم التدخل في الشؤون التي تكون من صميم الولاية القومية لدولة ما وفقا للميثاق.

 

- 4 مبدأ تساوي الشعوب في حقوقها وحقِّها في تقرير مصيرها بنفسها.

 

-5 مبدأ المساواة في السيادة بين الدول ... وتتضمن المساواة في السيادة العناصر الآتية بوجه خاص:

 

‌أ- الدول متساوية من الناحية القانونية.

 

‌ب- تتمتَّع كلُّ دولة من الدول بالحقوق الملازمة للسيادة الكاملة.

 

‌ج- على كلِّ دولة واجب احترام شخصية الدول الأخرى.

 

‌د- حرمة السلامة الإقليمية والاستقلال السياسي للدولة.

 

‌هـ- لكلِّ دولة الحق في أن تختار وأن تنمِّي بحرية نظمها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

 

‌و- وعلى كلِّ دولة واجب تنفيذ التزاماتها الدولية تنفيذا كاملا يحدوه حسن النية والعيش في سلام مع الدول الأخرى[4[

 

ويقول الشيمي: (وأصدرت الجمعية العمومية في اجتماعها في 24 سبتمبر من عام 1927م قرارا بإجماع الآراء جاء فيه: أنها تسلِّم بما يربط الجماعة الدولية من تضامن، وتعلن عن عزمها على حماية السلم العام، وتقرُّ فكرة أن الحرب العدوانية لا يصحُّ استخدامها كوسيلة لحسم المنازعات بين الدول، وتعتبر هذه الحرب جريمة دولية، وتطبيقا لذلك قامت بوضع قاعدتين التزمت بهما الدول الأعضاء، هما:

 

- 1 إن كل حرب اعتداء محرَّمة وستظل محرَّمة.

 

-2 من واجب الدول أن تلجأ إلى جميع الوسائل السِّلمية لحسم ما بينها من منازعات دولية مهما كانت طبيعتها) [5]اهـ.

 

قال العَلْياني: ومما لا شكَّ فيه عند الدول المصدِّقة على هذا الميثاق: أن جهاد الابتداء والطلب (وهو تطلب الكفار في عقر دارهم من غير اعتداء منهم وإرغامهم على الإسلام أو الجزية)، يعتبَر حربا عدوانية يعاقب عليها القانون الدولي، وتعتبَر جريمة في نظره، وقد سهَّلت آراء أهل الدفاع المنحرفة المخالفة للإجماع: انضمام الدول القائمة في البلاد الإسلامية إلى هذه الجمعية التي تحرِّم ما أوجب الله، فصاروا يتابعونهم على تشريعهم، ويتركون ما شرع الله. نعوذ بالله من الضلال والخذلان) [6]انتهى.

 

( 3 ) معارضة اتفاقية إلغاء الرق:

 

ومن آثار فقه (الهجوميين) العملية: معارضتهم لاتفاقية (إلغاء الرق من العالم)، التي أقرَّتها الأمم المتحدة، وهي لا تجيز لأحد أن يسترقَّ أحدا، بأي سبب كان. وبهذا يحرِّمون ما أحلَّ الله تعالى في نظرهم.

 

ومن هنا رد الهجوميون على كل عالم يقول: إن الشريعة لم تستحدث الرق، لكنها استحدثت العتق، وأن الإسلام لو نُفذت تعاليمه حقا، لأُلغى الرق بالتدريج من العالم، لأنه سدَّ كل مصادره إلا سببا واحدا، هو الأَسر في حرب شرعية، وفتح أبواب التحرير على مصاريعها [7[

 

لقد فتح العَلْياني - صاحب كتاب أهمية الجهاد - النار على رجل الفقه المعروف: الدكتور وهبة الزحيلي، واتَّهمه بأنه يحرِّف نصوص الشريعة، لكي توافق ما قرَّرته الدول الكافرة، ويظنُّ أنه بذلك صنع إلى الإسلام معروفا، حينما أظهره بمظهر الموافق للحضارة الغربية!

 

نقل العلياني عن د. الزحيلي قوله: (جاء الإسلام والحالة هذه عند الأمم المجاورة، فلم يتمكَّن من إلغاء الرقيق في العالم، حتى لا تصطدم دعوته مع مألوف النفوس، ولئلا تضطَّرب الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، فيكثُر المجادلون والمعارضون، وينتشر الفقر والعَوَز في المجتمع، وتتعدَّد حينئذ جرائم العبيد قبل تحريرهم. ولكن الإسلام الذي يقدِّر معنى الحرية ولذَّتها، ويعتبر الأصل في الإنسان هو الحرية، إلا أن من خصائص تشريعه التدرُّج في الأحكام، فإنه قد أقرَّ مؤقتا واقع الأمر، ولم يمحُ الرق دفعة واحدة، ومضى في التدرُّج بالمسلمين؛ فهيَّأ أسبابا للقضاء على الرق، وحرَّم سائر مصادره ما عدا رق الأَسر بسبب الحرب العادلة لدفع العدوان[8] ، وحفظ التوازن مع الأمم الأخرى، وما عدا الرق بسبب الوراثة. والشرع لا يبيح أن يُستَرقَّ مسلم أصلا.

 

)وهكذا قاومت الدعوة المحمدية الرق، مقاومة كانت بالتدريج أفعل في تهيئة الضمير البشري للقضاء عليه، من المفاجأة بالتحريم البات.

 

وبما أنه لم يرد نص في الكتاب ولا في السنة على إباحة الرق، وأن الاسترقاق بالوجه الشرعي لا يتأتَّى منذ زمن، لعدم وجود الحرب الشرعية العادلة، فإن الإسلام لا يتعارض مع إلغاء الرق من العالم اليوم)[9[

 

ويعلِّق العَلْياني على هذا النقل من الدكتور الزحيلي قائلا: (فهذا كذب صُرَاح وافتراء على الإسلام، فكيف يقول: لا يوجد نص في الكتاب ولا في السنة على إباحة الرق، وكتب العلماء أهل الحديث وغيرهم طافحة بأحكام الرقيق، وأحكام العتق وأحكام أموالهم، والإجماع منعقد على جواز استرقاق الكافر، بل والمسلم الذي أبوه رقيق فهو رقيق[10] ، إلا أن يُعتق. وهل يظنُّ هذا الكاتب أن المسلمين منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عام 1842م عندما وقِّعت اتفاقية دولية تحرِّم الرق كانوا يعملون غير مباح؟ نعوذ بالله من هذا التحريف المشين، والتهم الباطلة التي توجَّه إلى خير القرون رضي الله عنهم)[11] انتهى.

 

قلت: أعتقد أن الكاتب (الدكتور الزحيلي) يقصد بكلامه: أنه لا يوجد في الكتاب والسنة دعوة إلى الرق، أو أمرٌ به، وإن كانت عبارته غير دقيقة للتعبير عمَّا أراده[12] . وأن الإسلام ليس هو الذي استحدث ظاهرة الرق، وإنما وجدها سائدة في العالم، فتعامل معها بما يلائمها من الأحكام التشريعية والتوجيهات الأخلاقية، وإنما الذي استحدثه الإسلام هو: التوسُّع في تحرير الرقيق، بأسباب شتَّى، حتى إن الإسلام جعل من مصارف الزكاة الثمانية: مصرفا لتحرير الرقيق، هو (في الرقاب)، وحتى رأينا موضوع الرقيق يُطرح في كتب الفقه تحت عنوان (كتاب العتق(

 

ونحن نعلم أن القرآن حينما ذكر الموقف من الأسرى في الحرب، لم يذكر إلا أمرين فقط: المنُّ عليهم بلا مقابل. أو الفداء بأسرى أو بمال. قال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد:4[

 

قال العَلْياني: (أما قوله (أي الزحيلي): (وإن الاسترقاق بالوجه الشرعي لا يتأتَّى منذ زمن لعدم وجود الحرب الشرعية العادلة) قال العَلْياني: فهذا كذب أيضا، فكيف حكم على جهاد المسلمين منذ زمن بأنه ليس حربا شرعية عادلة؟ ألا يعتبر هذا المؤلِّف حرب المسلمين لإسرائيل شرعية عادلة؟

 

قلت: وهذه مغالطة من هذا الباحث المتشدِّد، فالرجل لم يتعرَّض لحرب إسرائيل، إنما تعرَّض للحروب الأخيرة حتى اتفاقية إلغاء الرقيق.

 

قال الكاتب: وأمثال الزحيلي كثير، من أشهرهم شوقي أبو خليل في كتابه (الإسلام في قفص الاتهام)[13[

 

( 4 ) معارضة اتفاقية جنيف بشأن الأسرى:

 

وكذلك يعارض هؤلاء (الهجوميون) من دُعاة الحرب على العالم: (اتفاقية جنيف) الدولية بشأن (معاملة الأسرى). حيث توجب هذه الاتفاقية: إحسان معاملة الأسرى، وتوفير الظروف الإنسانية المناسبة لهم، من حيث المأكل والمشرب والملبس والمسكن والعلاج عند المرض، وتحرِّم تعذيبهم أو قتلهم، أو إهدار كرامتهم البشرية، إلى آخره.

 

فقد نصت المعاهدة الموقَّعة في 12 أغسطس 1949م على أنه: لا يجوز قتل المقاتلين الذين يلقون بسلاحهم، ويرضخون للعدو، أو يستسلمون له، ولا يقاومون أخذهم أسرى حرب، وبأن المبالغ النقدية، والأشياء النفيسة التي يحملها الأسير لا تُعدُّ من غنائم الحرب؛ إذ تلتزم الدولة الآسرة بردِّها عند انتهاء حالة الأسير.

 

كما نصَّت معاهدة جنيف على تحريم الاعتداء على الأسرى، سواء في أشخاصهم، أو شرفهم أو امتهانهم، وكذلك يحرُم قتلهم مهما كانت الظروف، أو أخذهم كرهائن، أو عقابهم بلا محاكمة، أو توقيع عقوبة جماعية عليهم، أو وضعهم في السجون، أو في أمكنة غير صحية، أو تعريضهم لأعمال القصاص[14[

 

أنكر الشيخ العَلْياني هذا كله، وأوسع كل مَن يقر هذه الاتفاقيات الدولية ذمًّا وتجريحا، واعتبره: مبدِّلا للدين، مغيِّرا لأحكام الشرع، لأن الإسلام يجيز قتل الأسير أو استرقاقه، فكيف نغيِّر أحكام الله ؟[15[

 

وقد رددنا على هذه الدعاوى والمقولات في حديثنا عن معاملة الإسلام لأسرى الحرب، وبيَّنا أن موقف الإسلام الصحيح يتماشى مع مُجمل هذه الاتفاقيات، ويرعى حرمة الأسير، وكرامته الإنسانية، ومَن قال بجواز قتله فليس على إطلاقه، وكذلك الاسترقاق، فهذا مجرَّد مباح يمكن تقييده للمصلحة الإسلامية العامة، مثل كل المباحات.

 

على أن من السلف - بل من الصحابة والتابعين - مَن لم يجز قتل الأسير، فلا إجماع في المسألة[16[

 

• المتشددون يتبنَّوْن انتشار الإسلام بالسيف:

 

بالإضافة إلى ما تقدم: رأينا خصوم الدعوة الإسلامية من المتعصبين من رجال التنصير (التبشير) والاستشراق من اليهود والنصارى: يشيعون فِرْية ما فيها مِرية، على الإسلام: أنه انتشر بالسيف والقوة، وأن السيف هو الذي أكره الناس على الدخول في هذا الدين.

 

وقد أبطلنا هذه الفِرية بالبراهين الساطعة، في موضعها من هذا الكتاب في الباب الرابع، ولله الحمد[17[

 

إلا أن أعجب ما رأيتُ وما قرأتُ: أن أحدا من بني جلدتي، أي من المسلمين بل من المنتسبين للعلم الشرعي، وممَّن حصل على درجة (الدكتوراه) في (أهمية الجهاد): مَن يتبنى مقولة انتشار الإسلام بالسيف! ويدافع عنها، ويتَّهم كل مَن يشكِّك فيها أو يردُّ عليها بأنهم من تلامذة الاستعمار! وهو يسميه انتشار الإسلام بالجهاد، ولا فرق بين كلمة (الجهاد) وكلمة (السيف) في هذا المقام.

 

وقد صبَّ جام غضبه، ووجه جُلَّ نباله إلى صدر المستشرق الباحث والمؤرخ المنصف بشهادة الجميع: توماس أرنولد، لردِّه المقنع الموثَّق بالأدلة التاريخية على المبشرين والمستشرقين الحاقدين، الذين وصموا الإسلام بأنه لم ينتشر إلا بحدِّ السيف! وقد ترجم الكتاب إلى العربية: د. إبراهيم حسن وزميلاه، جزاهم الله خيرا.

 

يقول هذا الباحث في رسالته للدكتوراه المعنونة بـ(أهمية الجهاد(

 

)وقد شكَّك في تأثير الجهاد في نشر الإسلام في هذه الأزمنة المتأخرة: بعض الذين ربَّاهم الاستعمار على عينه، فآثروا حياة الذلِّ والاسترخاء على حياة العزِّ والجهاد، فزعموا أن الدعوة السِّلمية المجرَّدة عن الجهاد هي سبب انتشار الإسلام سابقا، وهي الطريق الأصلح الآن، بل بلغ بهم الأمر إلى اعتبار أن انتشار الإسلام بالجهاد: فِرْية على الإسلام ينبغي أن تُدفع!! وكان أساتذتهم في هذا العِوَج الفكري المستشرقون. ومن أشهر هؤلاء: المستشرق الخبيث (توماس أرنولد) الذي ألَّف كتابا بعنوان (الدعوة إلى الإسلام)، يهدف منه إلى إماتة الروح الجهادية عند المسلمين. ومَن يقرأ كتابه سالف الذكر: يرى أنه حريص على تصيُّد الأخبار الموضوعة والواهية، لكي يبرهن بأن الإسلام لم ينتشر بالجهاد، وإنما انتشر بالدعوة السِّلمية، المتبرِّئة من كل قوة، وانتشر بالموالاة بين المسلمين والكافرين وبخلط أنظمة الكفر مع أنظمة الإسلام [18]، ونحو ذلك. وقد قام بترجمة الكتاب المذكور ثلاثة من أبناء المسلمين ذكروا في المقدمة ما يلي:

 

)وأما مؤلف هذا الكتاب - وهو العالم المحقِّق السير توماس أرنولد - فلا نستطيع أن نقدِّره قدره!!) [19[

 

قال العَلْياني مؤلف كتاب (أهمية الجهاد): (قلتُ: إن قدره – لو يعلم هؤلاء - هو الضرب بالسيف حتى يبرد، إن لم يخضع للإسلام، أو يدفع الجزية!!) [20] انتهى.

 

فيا للعار، ويا للغباء!! وأي غباء أعظم من أن يحتضن الإنسان ما يتَّهمه به عدوه، وما يفتريه عليه، ويحاول أن يسنده ويدلِّل عليه، ويتحمَّس له، وأن يعادي مَن ينصره، ويردُّ على خصومه، ويقول بكل جهل وصفاقة: قدره عندنا أن يُضرب بالسيف!!

 

إن هذا الكاتب وأمثاله يؤذون الإسلام بأكثر مما يؤذيه به أعداؤه المجاهرون، ويخدمون أعداء الإسلام من حيث لا يشعرون بأكثر مما يخدُمهم المبشرون والمنصِّرون، فهم يضرون حيث يريدون أن ينفعوا، ويهدمون حيث يريدون أن يبنوا، وقديما قالوا: عدو عاقل خير من صديق أحمق!

 

والأعجب من هذا كله: أن يَتهِم هذا الإنسانُ المغلقُ: علماء العصر ودعاته الذين يدافعون عن حقائق الإسلام، ويردُّون أباطيل خصومه، بأنهم من (الذين ربَّاهم الاستعمار على عينه) فإنا لله وإنا إليه راجعون!!

 


: الأوسمة



التالي
كتاب : الحق المر- الحلقة [ 24 ] : الديمقراطية في بلادنا
السابق
كتاب : الحق المر - تأليف الحلقة [ 23 ] : آفة إرضاء الناس

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع