البحث

التفاصيل

كتاب : فقه الجهاد - الحلقة [ 22 ] : الباب الثاني : (أنواع الجهاد ومراتبه) الفصل الثامن : الجهاد العسكري أو (تطور الجهاد من الدعوة إلى القتال)

• قتال أعداء الأمة :

هذا الفصل يتحدَّث عن (الجهاد العسكري) أي الجهاد بمعنى القتال، وهو الجهاد الموجَّه إلى أعداء الأمة، الذين يعتدون على دينها، وعلى أرضها، وعلى أهلها. ويلزم الأمة أن تردَّ عداونهم، مدافعة عن حرماتها ومقدَّساتها، والشرُّ بالشرِّ يحسم، والبادئ أظلم. وهذا هو الذي غدا يُفهم من كلمة (الجهاد) عند إطلاقها، وهو قتال الأعداء.

وفي هذا جاء قول الله تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة:190-193[

وهذا هو الجهاد (أي القتال) الذي تحدَّثنا في الباب الأول عن حكمه، سواء كان جهاد طلب أم جهاد دفع، متى يكون فرض كفاية، وما معنى الكفاية؟ وكيف تتحقَّق؟ ومتى تكون فرض عين؟ وكيف يتحقَّق فرض العين؟ وهو المقصود بالذات في كتابنا هذا، لما يحوط به من لبس وتخليط كثير، يجب على أهل العلم أن يزيلوه، حتى يتبيَّن للناس الحقُّ واضحا جليًّا، ليكون المسلم على بيِّنة من ربِّه، وبصيرة من دينه.

• تطور الجهاد في عهد النبوة :

وقد تطوَّر الجهاد في عهد النبوة من طور إلى طور، حتى وصل إلى طور الأمر بالقتال لمواجهة الأعداء الذين لا يريدون لهذا الدين أن يمتدَّ نوره في الآفاق. وسنبيِّن ذلك في الصفحات التالية.

لقد نزل الوحي الإلهي على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو على رأس الأربعين من عمره، وأقرأه الروح الأمين جبريل الآيات الأولى من القرآن الكريم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1-5[

كان هذا الوحي مفاجأة لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن يرجوه ولا يتوقَّعه، فرجع إلى بيته يرجف فؤاده، حاكيا لزوجه خديجة ما وقع له، خائفا منه، وزوجه تطمئنه وتقول له: والله لا يخزيك الله أبدا. ثم أخذته إلى ابن عمها وَرَقَة بن نَوْفَل، وكان ممَّن اطَّلع على كتب أهل الكتاب من قبل. فقال له: لا تخف، هذا الناموس الذي أنزله الله على موسى. وليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك فأنصرك! قال: "أو مخرجي هم؟". قال: ما جاء أحد قط بمثل ما جئت به إلا عودي [1[

أراد الرجل الخبير بالنبوات السابقة وأنبيائها: أن يهيِّئ نفسيَّة هذا النبي الجديد لما ينتظره من ألوان الإيذاء من المشركين من قومه، بمجرَّد أن يعلن دعوته، فهذه سُنة الله التي لا تتخلَّف. وقابل محمد عليه السلام مقولة الرجل وما تحمل من صراع منتظر، باستغراب الإنسان البريء المخلص، الذي يعجب: لماذا يعاديه قومه ويخرجونه؟!

وبهذا عرَف محمد عليه الصلاة والسلام: أن طريق الدعوة طريق طويل محفوف بالمكاره، وأنه يحتاج إلى ألوان من الجهاد المتنوِّع، وأنه لا بد أن يمر بأطوار مختلفة ينبغي لنا إلقاء الضوء عليها في الصحائف التالية:

• ( 1 ) طور الإنذار والتبليغ بالدعوة الفردية:

ثم نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ*وثيابك فطهر * والرُجْزَ فَاهْجُرْ*ولا تَمْنُنْ نَسْتَكْثِرُ*وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:1-7] الآيات من سورة المدثر.

فشرع ينذر أقرب الناس إليه، ويبلِّغهم رسالة ربه، فآمن به السابقون الأولون: أبو بكر من الرجال، وعليٌّ من الصبيان، وزيد بن حارثة من الموالي، بعد خديجة التي كانت أول مَن آمن به على الإطلاق.

ودخل بدعوة أبي بكر عدد من السابقين: عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجرَّاح، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد ابن أبي وقاص.

وبدأ الإسلام ينتشر بالدعوة الفردية، دون ضجيج ولا إعلان بين القليلين من أهل مكة. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أهله وعشيرته من بني عبد مناف، استجابة لأمر الله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] [2[

ويسمِّي بعضهم هذه المرحلة: مرحلة (الدعوة السرية)، والواقع أنها لم تكن سرية بمعنى أنها لا تعلن عن نفسها، ولكنها قامت على الدعوة الفردية الهادئة.

• ( 2 ) طور جهاد الدعوة الكبير في العهد المكي:

وبعد ثلاث سنوات من بدء الوحي، أراد عليه السلام أن يبلِّغ الجماعة دعوته جِهارا، كما أمره الله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94[

وجمعهم عند الصفا، وبلَّغهم أنه رسول الله إليهم خاصة، وإلى الناس كافة، وهزأ به عمه أبو لهب، وقال له: تبًّا لك! ألهذا جمعتنا؟! ونزل فيه وفي زوجه قول الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:1-5] [3[

وبدأت المعركة مع قريش، وهي معركة غير متكافئة، رسول الله وأصحابه القليلون، ليس معهم غير القرآن، يتلونه ويبلِّغونه، وقريش معها القوة والبطش والجبروت والإيذاء.

ظلَّ الرسول الكريم يجاهدهم بالقرآن، يتلو عليهم آياته، ولا سيما الآيات التي تهدِّدهم وتردُّ عليهم، وتهاجم باطلهم وطغيانهم، مثل سورة الهمزة: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} [الهمزة:1-3]، ومثل ما جاء في سورة القلم: {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ * وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم:8-13]، وفي آخر السورة نفسها: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:45،44]. وما جاء في سورة المدثر: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً...} [المدثر:11-14]. وما جاء في سورة المزمل: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً * إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالاً وَجَحِيماً * وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً} [المزمل:11-13[

والمشركون إزاء هذه الحملات القرآنية لا يجدون حُجَّة إلا أن يصبُّوا سياط العذاب على المؤمنين، فكانوا يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما بين مضروب ومجروح ومشجوج، يشكون إليه ما أصابهم من إيذاء المشركين وظلمهم، ويسألونه أن يأذن لهم في الدفاع عن أنفسهم بما يقدرون عليه من سلاح، فيقول لهم: "كفُّوا أيديكم وأقيموا الصلاة" [4]. كما حكى القرآن بعد ذلك.

وحين اشتدَّ الأذى بالمسلمين من أصحاب النبي، أذن لهم أن يهاجروا إلى الحبشة، حتى يأتي الله بالفرج.

فهاجر المسلمون مرتين إلى الحبشة، ووجدوا في جوار ملكها (النجاشي) النصراني: الحماية والأمن، حتى إن النجاشي كان عند حسن الظن به، فرفض طلب قريش تسليم المهاجرين من أصحاب محمد لها.

وبعد ثلاثة عشر عاما من الدعوة والبلاغ، والإيذاء والاحتمال، نزل فيها نحو ثمانين سورة من القرآن، وحوصر المسلمون فيها لمدة ثلاث سنوات، قوطعوا فيها اقتصاديا واجتماعيا، حتى أكلوا أوراق الشجر من شدة الجوع: أذن الله لرسوله وأصحابه بالهجرة إلى يثرب، التي سمِّيت بعد (المدينة)، ليتأسس فيها أول (دار للإسلام) يأوي إليها كل مَن دخل في هذا الدين، وتقوم فيها لهذه الدعوة (دولة) تنصرها وتُمكِّن لها في الأرض، وتذود عن حِماها كل مَن يعتدي عليها ويصدَّها عن سبيلها، يقود هذه الدولة الفتيَّة، حاملة رسالة الهداية للبشر: رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كان جهاد الرسول صلى الله عليه وسلم وجهاد أصحابه خلال هذه الفترة المكية: هو جهاد الدعوة والتبليغ لما أنزل إليه من ربه من القرآن، يُعلِّم به مَن جهل، وينبِّه به مَن غفل، ويُذكِّر به مَن نسي، ويهدي به مَن ضل، كما قال تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45]، {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍٍ} [الغاشية:22،21]، {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]، {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً * وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً * وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ …} [الكهف:27-29[

وكان القرآن - بحججه وبيناته وتبشيره وإنذاره - يؤثِّر في المشركين إذا أنصتوا له واستمعوا إليه، لما يحسُّون به من حلاوة، وما يجدون عليه من طلاوة، وما يلمحون به من نورانية غير معهودة، لذا كانوا يجتهدون أن يشوشوا عليه، وأن يمنعوا نساءهم وفتيانهم من سماعه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26]، وقال: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:3-5[

كان جهاد الرسول وصحبه في هذه المرحلة: جهادا بالقرآن، كما جاء في سورة الفرقان عن القرآن: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً * وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً * فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} [الفرقان:50-52]. والضمير في قوله: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ}، يعود للقرآن، المذكور قبله في قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} فسمَّته الآية جهادا، بل جهادا كبيرا.

• ( 3 ) طور جهاد الصبر على الأذى ومنع القتال:

وكان هناك جهاد آخر للرسول وأصحابه مصاحب لجهاد الدعوة والتبليغ، هو جهاد الصبر والمصابرة على ما أصابهم من لأواء وبلاء وأذى وعذاب، خلال هذه الفترة القاسية، من فتنة للمؤمنين، وتعذيب للمستضعفين، وحصار وتجويع، واضطرار إلى الهجرة، كما أشرنا إلى ذلك، وهو ما نزل فيه قوله تعالى في أوائل سورة العنكبوت: {ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} إلى قوله: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:1-6[

كان هذا هو جهاد الرسول وأصحابه في هذا الطَّور، ولم يؤذن لهم بأي جهاد عسكري (قتالي)، ولم يكن من الحكمة أن يسمح لهم بأن يدخلوا مع قومهم معركة غير متكافئة، بل هي في الحقيقة (معركة فناء)، يلقون فيها بأيديهم إلى التهلكة، نتيجة الغضب والاستعجال، ودخول الحرب قبل الأوان.

ولهذا أمر الله رسوله بالصبر في آيات كثيرة من القرآن المكِّي، مثل قوله تعالى: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يونس:109]. وقوله تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:127[

وقوله سبحانه: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60[

وقوله عزَّ وجلَّ: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35[

وما خوطب به رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو بالتالي موجَّه إلى أمَّته، لتتأسَّى به، وتتحلَّى كما يتحلَّى بالصبر الجميل، حتى يأتي وعد الله [5[

• ( 4 ) طوْر الإذن بالقتال:

ثم كانت الهجرة إلى المدينة، وانتقل الجهاد من صورته المكية، إلى صورة أخرى: صورة الصدام المسلح، الذي فُرض على الرسول والمسلمين فرضا، وهم كارهون له، ولكنهم مضطرون إليه، كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216[

• أول آية نزلت في القتال :

كانت مشروعية القتال أول الأمر في صورة إذن من الله تعالى لرسوله والمؤمنين، بعد الحظر الذي كان مفروضا عليهم من الله تعالى، حين كانوا مأمورين أن يكفُّوا أيديهم، ويكتفوا بإقامة الصلاة وعبادة الله.

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم! إنا لله وإنا إليه راجعون! ليهلكنَّ، فنزلت: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39[

قال: فعرَفت أنها ستكون. قال ابن عباس: فهي أول آية نزلت في القتال [6[

وقد رُوي عن بعض مفسري السلف: أن أول ما نزل في القتال: قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190[

• ترجيح رواية بن عباس :

ولكن رواية ابن عباس هنا مقدَّمة من عدة أوجه:

أولا: أن سندها صحيح، فإن آفة أكثر ما ورد من روايات السلف في التفسير: أنه غير صحيح السند، وهذا لا يدقِّق فيه الكثيرون.

ثانيا: أنها عن ابن عباس، وهو ترجمان القرآن، والمقدَّم على غيره في التفسير[7[

ثالثا: أنها أقرب إلى المنطق، فإنها اشتملت على الإذن بالدفاع بعد الحظر، وآية البقرة فيها الأمر بالقتال، والمعقول أن يكون الإذن والإباحة أولا، ثم يكون الأمر بعد ذلك.

رابعا: أن الرواية تقول: إن الآية نزلت عقب خروج النبي من مكة، أما آية: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} من سورة البقرة، فلا شك أنها نزلت بعد ذلك، بعد استقرار الجماعة الإسلامية في المدينة، وبعد أن وقع منهم ما وقع في الشهر الحرام. فالمعقول أن تكون آية سورة الحج قبل آية سورة البقرة.

وقول ابن عباس: إن أول آية نزلت في القتال: {أذن للذين يقاتلون...}: لا يعني أنها (آية واحدة)، فالحق أنها (آيات ثلاث) متَّصلة نزلت في سياق واحد مترابط. وتتمتها: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41،40[

وعلَّق العلامة رشيد رضا على هذه الآيات، وهو بصدد بيان أحد مقاصد القرآن، وهو ما جاء به من إصلاح وتجديد في شأن (الحرب)، وما شرعه من قواعد وأحكام، لضبط أمرها، حتى تقوم - إذا كان لا بد منها - على أحكم قوانين العدل والرحمة. فقال رحمه الله في بيان (القاعدة الثانية في الغرض من الحرب ونتيجتها): (وهي أن تكون الغاية الإيجابية من القتال - بعد دفع الاعتداء والظلم واستتباب الأمن - حماية الأديان كلها، وعبادة المسلمين لله وحده، ومصلحة البشر، وإسداء الخير إليهم، لا الاستعلاء عليهم والظلم لهم، مستدلا بهذه الآيات من سورة الحج: {أذن للذين يقاتلون...} الآيات الثلاث

وذكر في تعليل إذنه لهم بالقتال المذكور ثلاثة أمور:

أولها: كونهم مظلومين معتدًى عليهم في أنفسهم، ومخرَجين نفيا من أوطانهم وأموالهم لأجل دينهم وإيمانهم، وهذا سبب خاص بهم بقسميه الشخصي والوطني، أو الديني والدنيوي.

ثانيها: أنه لولا إذن الله للناس بمثل هذا الدفاع لهدِّمت جميع المعابد التي يذكر فيها اسمَ الله تعالى أتباعُ الأنبياء، كصوامع العبَّاد وبيع النصارى وصلوات اليهود (كنائسهما) ومساجد المسلمين، بظلم عبَّاد الأصنام ومنكري البعث والجزاء، وهذا سبب ديني عام صريح في حرية الأديان في الإسلام، وحماية المسلمين لها ولمعابد أهلها، وكذلك كان.

ثالثها: أن يكون غرضهم من التمكُّن في الأرض والحكم فيها: إقامة الصلاة المزكية للأنفس بنهيها عن الفحشاء والمنكر كما وصفها تعالى، والمربِّية للأنفس على مراقبة الله وخشيته ومحبته، وإيتاء الزكاة المُصلحة للأمور الاجتماعية والاقتصادية، والأمر بالمعروف الشامل لكل خير ونفع للناس، والنهي عن المنكر الشامل لكل شرٍّ وضرٍّ يلحق صاحبه أو غيره من الناس) [8[

• ( 5 ) طور الأمر بالقتال:

وبعد أن كان القتال مجرد شيء (مأذون به) للمسلمين، بعد أن كان محظورا عليهم في العهد المكي: أصبح (مأمورا به) من الله عز وجل، أي أصبح فريضة عليهم، كما جاء في سورة البقرة قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ * الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة:190-194[

فهذه الآيات تأمر المؤمنين بالقتال، وتحرِّضهم عليه، وتذكِّرهم بالدوافع والمبرِّرات التي تحفزهم على قتال هؤلاء، وتضع له الضوابط الشرعية والأخلاقية.

وأول هذه الدوافع والمبرِّرات: أنهم هم الذين يقاتلون المسلمين: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة:190[

وثانيها: أنهم الذين أخرجوا المسلمين من ديارهم بغير حق: {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} [البقرة:191].

وثالثها: أنهم هم الذين يفتنون المسلمين عن دينهم بالإيذاء والتعذيب والتنكيل: {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة:193]، {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:191[

ورابعها: أنهم لا يبالون بالحرمات المقدسة، سواء حرمة المكان: {الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:191]، أم حرمة الزمان: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ} [البقرة:194[

ومع هذا ضبط النص القرآني هذا القتال بضوابطه الشرعية والأخلاقية، كما نرى:

أ. فنهى عن الاعتداء: {وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190[

ب. وأمر برعاية حرمة المسجد الحرام: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة:191[

ج. كما أمر برعاية حرمة الشهر الحرام ما لم ينتهكوها: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة:194].

د. الردُّ على اعتدائهم بمثله تأديبا لهم، دون تجاوز: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194[

هـ. الأمر بالتزام (تقوى الله) عل كل حال، فهي صمام الأمان، لحسن سلوك الإنسان: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة:194[

• ( 6 ) طور الجهاد القتالي المختلف فيه:

هذه الأطوار الثلاثة بالنسبة للجهاد القتالي متفق عليها بين العلماء، وهي:

1 - طَور الكف عن القتال والمنع منه: {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء:77[

2 - وطَور الإذن بالقتال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا...} [الحج:39[

3 - وطَور الأمر بالقتال للذين يقاتلون المسلمين أو يفتنونهم في دينهم: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة:190[

وبقي هناك أمر مختلف فيه بين أهل العلم، وهو (قتال مَن لم يقاتلنا في الدين، ولم يخرجنا من ديارنا، ولم يظاهر على إخراجنا(

فهناك من العلماء مَن يقول: إن الطور الرابع للجهاد - بالمعنى القتالي - هو (قتال المشركين كافة)، سالمونا أو حاربونا. وإن هذا ما انتهى إليه القتال، وما تفيده آيات سورة التوبة، وبخاصة ما سُمِّي (آية السيف(

ونقول: إن هذا قد يكون مسلَّما بالنسبة لمشركي العرب الذين أعلنوا الحرب على الدعوة من أول يوم، وحاولوا اغتيال الرسول قبل أن يهاجر، وحاربوه بعد أن هاجر، وغزَوه في عقر داره مرتين، وعاهدهم فنقضوا عهده، وغدروا بحلفائه، ولم تعُد الجزيرة تَسَعه وتَسَعهم، وفيهم نزلت أوائل سورة براءة، تنبِذ إليهم عهودهم المطلقة، وتوفِّي لكل ذي عهد محدَّد عهده إلى مدته. إلى آخر ما جاءت به السورة الكريمة.

فإن كان هذا هو الطَور المقصود بالقتال، فلا نتوقف فيه، لكن نتوقف إذا قُصد قتال العالم كله، مسالمين ومحاربين.

ومن حق هذه القضية الكبيرة والخطيرة: أن تفرد بالبحث، ويتَّسع فيها القول، فهي مجال تعترك فيه الأقلام، وتتصارع فيه الأفهام. ولا مناص لنا من مناقشتها مناقشة مستفيضة في ضوء الأدلة الشرعية، موازنين بين الآراء بالقسط، دون تحيُّز لقول قائل، وإن علا كعبه في العلم، وسمت منزلته في التقوى، فالحق لا يُعرف بالرجال، ولكن يُعرف بالدليل، فمَن كان أسعد بالدليل، كان أولى بالترجيح والتفضيل. وسنفصل ذلك في الباب الثالث بتوفيق الله


: الأوسمة



التالي
الأمين العام يشارك في الملتقى الثالث لاتحاد العلماء والمدارس الإسلامية
السابق
كتاب : الحق المر الحلقة [ 22 ] : لماذا يسكت علماء المسلمين؟

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع