البحث

التفاصيل

كتاب : الدعوة الإسلامية في القرن الحالي فضيلة : الشيخ محمد الغزالي الحلقة [ 22 ] الفصل العاشر : الأبعاد الجديدة: بعد ما صعدوا هبطنا!!

الرابط المختصر :

 

الإنسان بفطرته يكره الرق والظلم والجهالة، ويحب الحرية والعدالة والمعرفة. ونحن نقدم الإسلام للناس إيمانا ونظاما، أو بتعبير العصر " دينا ودولة " فإذا كان الإسلام الذى نقدمه لا يشبع حاجة الفطرة إلى ما تحب، ولا يقيها سيئات ما تكره، فإن الناس سوف تفر منه يقينا ..!

قد تقول: كيف يوصف الإسلام بالتناقض مع الفطرة، والتنافر مع ما تهوى وتبغض، وهو دين الفطرة؟ إنه المعروف الذى قال فيه الشاعر:

ولم أر كالمعروف، أما مذاقه .. فحلو، وأما وجهه فجميل..!

نقول: ذلك حق كله، والشبهة تجئ للإسلام من سوء العرض وسوء التطبيق، ومن قبل هذا وذاك، من سوء الفقه، وكلال البصيرة!!

وقد شكوت إلى صديق لى أن الإسلام فى العصور الأخيرة كان يحارب فى جبهتين، جبهة الأتباع الهمل الذين ظفروا منه بأطراف وقشور، وعموا عن حقائقه الكبرى.. وجبهة الخصوم الضاغنين الذين عرفوه خطراً على أطماعهم، وضوءاً على ظلماتهم...

والجبهة الأولى هى مكمن الداء.. لقد كان المتحدث عن الإسلام فى بلاط كسرى من أدهى الرجال وأذكاهم حين قال لحاشية كسرى وقادته: جئنا نخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله...

إن للكلمة القصيرة الواعية هنا آثارا تتجاوز قصر كسرى إلى ما وراءه من جماهير هائمة سائمة، ولو أن الإسلام بعقائده وعباداته سيُبقى الكسروية وآصارها، ما لَامَ الفرسَ أحدٌ إذا زهدوا فيه.

فى ظنى أن " ربعيا " رضي الله عنه فَقِهَ رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل التى يدعوه فيها إلى الإسلام، وهى الرسالة التى ختمها بقوله ـ سبحانه: ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله )..

توحيد لله، وإصلاح للأرض، وإحسان للعمل، ومساواة بين الناس.. هذه المعانى الناضرة تظل خيالات حائرة حتى يخرجها التطبيق الحسن إلى عالم الواقع، فتنجذب إليها الطبائع المستقيمة، وتهرع إليها الجماهير وهى مطمئنة راغبة..

إن الإسلام يوم تقدمه فرعونية حاكمة، أو قارونية كانزة، فمن حق الشعوب أن ترفضه وتنأى عنه...! فمن الذى يؤثر العيش فى ظل فرد متسلط إذا كان فى مجتمعه يمرح فى ظل حقوق الإنسان؟

ومن الذى يرضى الانتقال إلى مجتمع ضاع فيه الحق المعلوم إذا كان فى مجتمعه الأول مُعانا تحيط به ضمانات ضد المسغبة والضياع؟

ثم من قال: إن الذى يُعرَض على هؤلاء الحائرين هو دين الله الذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وحكم به خلفاؤه الراشدون؟

إن على دعاة الإسلام وعلمائه أن يعرفوا دينهم، وقضاياه الكبرى.

وعندما أنظر إلى أغلب المنسوبين إلى الدعوة والعلم أحس غضبا وأسفاً، لأنهم دون ذلك. والصغار لا يستطيعون فهم القضايا الكبرى، كما تعجز المراصد البدائية عن التقاط صور للكواكب البعيدة، كذلك الدعاة الضيقون والعلماء بالتسمية والوظيفة لا بالفكر والفؤاد ..!!

عندما سأل حذيفة النبي صلى الله عليه وسلم هل بعد عصره الطيب شر؟ ـ أى خير مشوب..

قال: " نعم "، وقال: فهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: " نعم، وفيه دخن".

سأل حذيفة: ما دخنه؟ قال المعصوم صاحب الرسالة الخاتمة: " أناس يهدون بغير سنتى تعرف منهم وتنكر "..

إن هناك دعاة وعلماء جل بضاعتهم هذا الدخن، ولقد تسلسل فى أعصار متطاولة حتى بلغ هذا الجيل، كثيفاً سخيفا، ثم غلب على ثقافتنا النظرية وسياستنا العملية فلم يكن عجبا أن يتراجع الإسلام عن أقطار بلغها، بل أن يهدد فى بيضته نفسها لولا بقايا من لطف الله..

المشكلة العلمية فى نظرى هى الأساس فليس تصور الإسلام وتصويره درساً لبعض النظرات الكلامية فى العقيدة، وإحصاء لبعض الفروع العملية فى الفقه.

الإسلام أكبر من ذلك، ولا يعرف روحه وأبعاده، ويقدر على تعريفها للناس إلا امرؤ راسخ القدم فى الكتاب والسنة، واقف على سير الخلفاء والأئمة المتبوعين، خبير بأخطاء ، الساسة والدارسين على سواء...

سمعت يوما إحدى خطب الجمعة فقلت لصاحبى: لو أن أحدا نقل هذه الخطبة على أنها من مواعظ القرن الخامس أو السادس ما أنكر عليه أحد...

قال: وما الذى يجعل الدعاة والواعظين يفرون من مواجهة هذا العصر؟ قلت: مزيج من الخوف والقصور، الخوف من الحكام، والقصور عن البلاغ الشافى..

وسمعت خطيبا يهدر وكأنما ثكل أبنه، لأن الناس اعتدوا على شعر اللحية . ولا ريب أن اللحية من سنن الفطرة ولكن هذا الخطيب لم ينبس ببنت شفة عندما قتل نحو عشرين ألف مسلم فى زنجبار، وسكت هو وغيره سكوتاً مطبقاً.. لماذا؟ لأن وعيهم بالإسلام وحقيقته وقضايا أمته محصور فى نطاق خاص ( ذلك مبلغهم من العلم ) .

والعلم بالحياة الإنسانية، وما ظهر فيها من فلسفات، وما تسوقه للناس من إغراءات، ضرورة ملحة لإحسان عرض الإسلام، وكشف الجوانب التى تضئ حياتهم منه.

لقد كنا نصدر المبادئ والقيم إلى غيرنا، فهل استغنى هذا الغير عنا؟ وبم؟ ولم زهد فينا؟ ما هى أخطاؤنا..؟؟

إن أخطاءنا فى جنب الله كثيرة، وتقصيرنا فى خدمة الإسلام فاضح، ومن قرون والفقه الدستورى والدولى عندنا صفر، وفقه المعاملات مجمد، والتربية الفردية والاجتماعية فوضى...

ومع أن فقه العبادات متحرك إلا أن الخلافات فيه تشير إلى عوج عقلى ينفر المتدينين من المسالك الدينية جملة.

أفهم شخصياً أن يثور جدل حول سدل اليدين أو قبضهما فى الصلاة، وحول الوضوء من أكل لحم الإبل أو عدمه.. لكن الإنس والجن لا يفهمون لماذا تكون هذه الأمور التوافه مثار معارك طاحنة وتغاضب شديد..

كنت أسير فى أحد شوارع القاهرة فوجدت مبنى لبعثة إيطالية تدرب أبناءنا على صنع الأحذية... قلت لنفسى: حتى فى هذا الميدان نحتاج إلى تدريب ثم وثب بذهنى خيال دعاة يريدون نشر الإسلام بالسيف فقلت لهم فى الخيال: حاربوا حفاءكم أولا، ثم تواضعوا لله، وتعلموا دينكم ممن هو أبصر منكم بأصول الدين، وفروعه، ووسائله، وغاياته، إنكم عبء على دين الله ودنيا الناس..

وهناك حقيقة لا يجوز أن تغيب عنا، نريد أن نعرفها: هل توقف سير القافلة البشرية عندما توقف العقل الإسلامى عن التفكير؟ هل توقف التعمير العالمى عندما قل إنتاجنا فى استعمار الأرض؟

كلا… إن العالم مضى فى طريقه يسعى ويطفر، وحقق فى سعيه وطفرته خيرا كثيرا وشرا كثيرا، أما خيره فإنه تجاوب مع نداء الفطرة فى مجالات تتصل بالحريات الإنسانية والحقوق السياسية، وأما شره فإنه يمشى مع الغرائز الدنيا، ويسر لها وقودها على نحو جعل الصعاليك يستمتعون بما لم يستمتع به الملوك الأقدمون ….!!

وأحب أن أضع بين يدى الدعاة صورة سريعة عن المقومات الأساسية للمجتمع الغربى كتبها أخونا الأستاذ سيد أبو المجد، وغرضى من ذلك أمور:

الأول: أن يعرف الدعاة من يواجهون؟ وما الفكر الذى يحركهم؟ وما البديل الذى ينبغى أن نعده نحن ليحل محله؟

والثانى: أن يعرفوا مصادر الشر التى تنطلق فى الدنيا إثر انتصار الغرب، وانتشاره فى القارات الخمس، واقتباس الناس منه ما يحمد وما يعاب..

وأخيراً… أن يصحو المسلمون من غفلتهم ، ومن تطاحنهم على شئون لا يباليها أولو النهى، وكيانهم مهدد من القواعد.

إننا نتحاقد على أرغفة الخبز وفى الدنيا ثروات طائلة. ونتخاصم على شكليات، وقد أقام غيرنا موضوعات لها طول وعرض..

وهذه هى مقومات الفكر الغربى الحديث:

( 1 ) الواقعية المادية:

تتجه الحضارة الغربية المعاصرة إلى الإيمان بالواقع الحسى الملموس والميل عن الروحية والمثالية والأفكار المعنوية، فانصرفت عن الدراسات الميتافيزيقية، والسبحات الروحية، وقد نتج هذا عن عدة عوامل أهمها:

أولا : طبيعة البلاد الغربية العنيفة القاسية المتقلبة التى توحى بالكفاح والنضال والاعتماد على الجهود البشرية الملموسة، دون ارتكان على قوى خارجية معنوية، أو التماس معونة من السماء.

ثانيا: الديانة المسيحية بحسب ما صورها الكهان والأحبار لا تتفق مع العقل الواعى المفكر الذى يجرب ويحلل ويستنبط، لأن فكرة التثليث معقدة بعيدة عن المنطق الدارس والبحث الرصين، ولأن فكرة الانصراف عن الدنيا كل الانصراف، والإقبال على الآخرة كل الإقبال، وما يستدعيه هذا من رهبانية وزهد فى الطيبات، وتسامح يصل إلى درجة الإذلال، هذا كله كفيل بهدم الحياة والقضاء على البشرية جمعاء.

ثالثا: اهتزت العقيدة المسيحية فى نفوس الغربيين كل الاهتزاز نتيجة لتحكم الكنيسة فى قلوب وعقول المسيحيين، وفرضها حصاراً نفسيا وثقافيا يشل حركة التطور والتفكير، ويساعد على هذا ظهور كثير من المصلحين الاجتماعيين ومن أشهرهم " مارتن لوثر " الذى أضعف سلطة الكنيسة وأذهب هيبتها من النفوس، وأعانه على هذا تأييد الكنيسة للحكم الإقطاعى، والملوك الطغاة المستبدين.

رابعا: اتصل الغربيون بالمسلمين عن طريق الأندلس من جهة، وعن طريق الحروب الصليبية من جهة، فاستزادوا من الحضارة الإسلامية جانب العمل المثمر. وإن كان التعصب الدينى حال بينهم وبين الجانب الروحى الوضاء.

خامسا: الثورات المتلاحقة والحروب الطاحنة التى تعتمد على الأسلحة المادية، وتجعل لها السلطان الأول فى النصر جعلتهم يقبلون على الماديات كل الإقبال، ويتفننون فى الإيمان بها كل فاستغلوا خيرات بلادهم واستثمروها خير استثمار، فنمت الثروات واتسعت التجارات، فأقبلوا على إرضاء غرائزهم وإشباع نفوسهم وإمتاع حواسهم بما صرفهم عن الروحانيات إلى الماديات.

سادسا: النهضة الصناعية وما أنتجته من خيرات وفيرة صرفتهم إلى البحث فى بطون الأرض عن المعادن والمناجم والخامات الأولية، ودفعتهم إلى المبالغة فى الإنتاج وساعدهم على هذا اختراع الآلات ووفرة الثروات، فأصبحت المادة هى الإله المفضل الذى يستحق فى نظرهم العبادة والتقديس.

ولهذا كله كفروا بالديانات جميعا ـ إلا المحترفين منهم ـ ووجهوا إلى الديانات السماوية أعنف الحروب، وبخاصة الإسلام، لأنه وقف عقبة فى طريق استعمارهم للأمم الإسلامية، فحاربوه تارة بالجيوش الجرارة، وتارة باسم العلم، وتارة باسم التبشير.. وكثيرا ما حاكوا الدسائس وأشعلوا نيران الفتنة بين المسلمين، فمزقوهم كل ممزق، وشردوهم كل تشريد، ولم يكتفوا بهذا، بل خلقوا طوائف دينية تحمل اسم الإسلام وتعمل على هدم الإسلام، مثل البهائية، والقاديانية، أو شجعوا بعض المنحرفين مثل الإسماعيليين.

* * *

( 2 ) الحضارة العلمية :

استطاع العلم فى العصر الحديث أن يكشف عن كثير من الحقائق المادية: فكشف الجراثيم الوبائية، وعرف مركز الأرض من الشمس ومن الأجرام السماوية، واستطاع أن يسخر البخار لطى الأرض وقطع البحار. كما كشف الكهرباء واستغلها فى الصناعة والتجارة وتيسير سبل الرخاء، وها هو ذا أخيراً يفتت الذرة ويطلق المارد الجبار من عقاله ليسيطر عن طريقه على الأرض والسموات، وها هو ذا يغزو الفضاء ويحاول الوصول إلى الكواكب واستغلالها لخير الإنسان، وقد دفعته نشوة الانتصار إلى أن يحاول خلق الحياة.

هذه النهضة العلمية القوية جعلت كثيرين من الغربيين يؤمنون بالعلم وحده، ويعتقدون أنه الجدير بالعبادة والتقديس، فنادوا بأن عصر الديانات قد انتهى إلى غير رجعة، وأن البحث فيما وراء الطبيعة، عبث فى عبث، وأوهام فى أوهام، وخيالات تدور فى أذهان المرضى أو المنحرفين.

وقد أعانهم على هذا الاتجاه نظريات "فرويد" فى علم النفس ومحاولته إثبات أن الإنسان عبد نزواته وغرائزه الجنسية، وأن العقل الباطن هو المسيطر الفعال فى توجيه الإنسان، وبهذه النظرية أدخل الإنسان فى حظيرة الحيوان.

ثم كانت نظرية " داروين " التى تنادى بأن الإنسان سليل الحيوان وأنه ينتمى إلى فصيلة القرود، وهذه النظرية تعارض ما أوردته الديانات السماوية جميعا كل من خلق آدم، وأنه خليفة الله فى أرضه، وأن الله كرم بنى آدم وحملهم أمانته، وفضلهم على كثير من خلقه تفضيلا.

وكلما وصل الغربيون إلى كشف علمى جديد هللوا له وكبروا، واعتقدوا أنهم فى طريقهم إلى كشف أسرار الكون والسيطرة على مقومات الحياة.

وكلما نظروا إلى الشرقيين وإيمانهم بالروحانيات، ازدادوا اقتناعا بأن علة تأخير الشرقيين هو تمسكهم بالدين، وبهذا حكموا على المبادئ بالشخصيات... ولم لا ؟ أليس لهم العذر من أوضاعنا نحن؟

***

( 3 ) المذاهب الاقتصادية:

تسيطر على العالم الغربى الآن عدة مذاهب اقتصادية لها كل الهيمنة على آرائه وأفكاره ومستقبله فى الحياة، وأهم هذه المذاهب مذهبان هما:

المذهب الرأسمالى:

وتعتنقه أمريكا والدول التى تدور فى فلكها، ويستندون فى تبرير الإيمان بهذا المذهب على أنه:

(أ) يكفل للأفراد حرية التملك وهى حق مشروع يرتكن على غريزة فطرية فى النفس البشرية، ومقاومة هذه الغريزة خروج على مقومات الحياة.

(ب) يعطى هذا المذهب لكل إنسان ثمرة ما يبذله من جهود، ولا يحرمه حقاً من حقوق الحياة.

(جـ) يبيح هذا المذهب للفرد أن يصل بثمرة جهوده إلى أقصى ما يستطيع ثم يترك هذه الثمرة أو معظمها من بعده للأبناء والأحفاد، وهذا يكفل بناء الأسرة على أساس متين، والأسرة هى أساس الدول والشعوب.

(د) يحفظ هذا المذهب للفرد جميع حقوقه فلا يكون عبدا للجماعة توجهه كيفما تشاء، بل يستطيع هو أن يوجهها إن كان من ذوى المواهب والعبقريات.

وفى هذه الآراء كثير من المغالطات، فإن طغيان رأس المال فى الدول الرأسمالية يكاد يسلب الأفراد حقوقهم، ويخضع الشعوب لحفنة قليلة من الرأسماليين تسيطر على الحكومات، وتدفعها إلى الحروب الاستعمارية وتسخرها لقضاء ما لها من مآرب وشهوات، وكثيرا ما تنتشر فى هذه الدول البطالة، وما تجره وراءها من مشكلات، وفى الدول الرأسمالية أصبحت الشركات الكبرى وأربابها من أصحاب الملايين هم السادة المسيطرون، وإن نادوا بالديمقراطية والإخاء والمساواة تخديراً للشعوب وتسخيراً للجماعات.

المذهب الشيوعى:

وهو سائد الآن فى روسيا ومن والاها من دول المعسكر الشرقى وكذلك الصين ومن والاها، ويستندون فى تبرير اعتناقهم لهذا المذهب إلى الأسباب الآتية:

(أ) أنه يهدم نظام الطبقات فلا تتحكم طبقة فى أخرى ولا يستعبد فريق من الشعب سواه.

(ب) يدعو هذا المذهب إلى المساواة المطلقة فلا سيد ولا مسود ولا تابع ولا متبوع، فكل المعتنقين لهذا المذهب زملاء متساوون ولقب كل منهم الرفيق.

(ج) يكافئ هذا المذهب كل إنسان بحسب ما يبذله من جهود، فلا ظلم ولا تسخير، ولا استعباد ولا استرقاق.

(د) يكفل هذا النظام لكل إنسان العمل والإنتاج، فلا عطلة ولا بطالة، وبهذا يستطيع كل إنسان أن يطمئن إلى موارد رزقه بغير مشقة أو عناء.

وفى هذه الآراء كثير من المغالطات فإن هذا المذهب حين يهدم نظام الطبقات يعطى الحق لفئة قليلة من زعماء الحزب بالتحكم المطلق فى حياة الشعب جميعه، وتسخيره لقضاء مآربها، وفرض الحكم المطلق عليه حتى يصل إلى التجرد من جميع الحريات...

وما الأفراد فى هذا الحكم إلا آلات مسخرة: لا تملك حرية التعبير، أو حرية الملك، أو حرية الاعتقاد، ولهذا قام الحكم الشيوعى على سلب الحريات وإراقة الدماء لأوهى الأسباب وأتفه الملابسات، وأكل زعماء الشيوعيين بعضهم بعضا، وكلما وليت طائفة منهم الحكم لعنت أختها ورمتها بأشنع الخيانات.

والشيوعية فوق هذا تحارب الديانات وتراها أفيونا مخدراً للشعوب، وبهذا تسلب الإنسان سموه النفسى، وعزاءه الروحى ورقيه المعنوى، وتحيله إلى حيوان أعجم أو آله صماء.

***

وأخيراً... تستطيع أن تقول: إن الغربيين ارتقوا ماديا بانصرافهم إلى المادة كل الانصراف، ولكنهم: تجردوا عن المعنويات وانصرفوا عن الروحانيات وأغفلوا المثل الأخلاقية العليا، وحادوا عن الحق والخير والجمال، فسمت حياتهم المادية وانحطت قواهم الروحية، فقامت بينهم الحروب المدمرة والثورات الساحقة، ونشأ فيهم الانحلال الخلقى، وسيطرت عليهم النزعات البهيمية، وأوشكت الكشوف العلمية الرائعة التى حققوها أن تكون وبالا ساحقاً عليهم، وستقضى عليهم القضاء الأخير ما لم يفيئوا إلى الصواب، ويرجعوا إلى الإيمان، ويوازنوا بين المادة والروح وبين الجسم والنفس، وبين الدنيا والدين. أى يرجعوا إلى الإسلام..

والإسلام الذى نطلب من هؤلاء أن يعودوا إليه إسلام نظرى، تصوره أقلام الكتاب وأفواه الخطباء الذين أحسنوا فهمه من ينابيعه النقية.

أما أمتنا المترامية الأطراف بين المحيطين الكبيرين فهى فى غرف المحافل الدولية مجموعات من العالم الثالث، العالم المتخلف الفقير إلى عون أصحاب الحضارات المتقدمة..

إن هذه الأمة ليست ما صنع الإسلام الحق، لأن الإسلام الحق صنع خير أمة أخرجت للناس، أى صنع الأمة الأولى فى العالم، لا أمة الدرجة الثالثة أو الثانية..

وقد أسمع كلام أشخاص يتحدثون عن عودة إلى الإسلام الحق فأتشاءم من أصواتهم، وكأنها نعيب البوم..! لماذا؟ لأن المسلمين لو استجابوا لهم ما ازدادوا إلا خبالا، ربما عادوا إلى حياة تشبه حياة الترك أو المماليك فى أيامهم العجاف،.. وهى حياة لم تقدم خيرا لا للمسلمين ولا للعالمين..!

***

• دعاة فتانون:

مع أن أعداء الإسلام فى هذا العصر أقوياء، ومع استمتاعهم بمقادير كبيرة من العلم والدهاء، ومع أنهم أحرزوا ضدنا انتصارات كبيرة فى أكثر من ميدان، مع هذا كله فلست أخافهم على ديننا قدر ما أخاف على هذا الدين من متحدث جاهل، أو منافق عليم اللسان، أو سياسى يتخذ إلهه هواه .

ولأتناول الآن المتحدثين الجهال فإن قصورهم فتح علينا أبواب شرور كثيرة.

إن قصة الغرانيق لم يخترعها مبشر كذوب، وإنما روجها متحدث أحمق من جلدتنا يتكلم بلغتنا.

وفرية عشق الرسول لـ زينب بنت جحش لم يختلقها عدو كاشح، وإنما ألفها متعالم من عندنا، خفيف العقل والحكم..

وقد اضطرب السلوك الإسلامي في بناء الأسرة لأن حديثا موضوعا ينهي عن تعليم النساء الكتابة، وعن إسكانهن الغرف، شاع بين الناس..

وآفة بعض المتحدثين في الإسلام أنهم يستقبلون المرويات التافهة وأذهانهم خالية أو فقيرة من الوعي بتوجيهات القرآن الكريم وهو دستور الإسلام الأول.

ولا يجوز لفقيه أن يتناول السنن الصحاح وهو جاهل بالقرآن نفسه فكيف بما هو دون الصحيح من تلك المرويات؟

إن الصورة المتكاملة والجميلة للإسلام تؤخذ من الكتاب والسنة، الكتاب أولا ثم السنة بعد ذلك.

والسنة أساسها ما تواتر ثم ما صح أما المرويات الضعيفة ـ وما أكثرها ـ فلها شأن آخر يعرفه الراسخون في العلم...

وقد وقع في يدي كتاب يوزع في بعض العواصم الإسلامية، ويتأثر به الكثيرون، وجدت على غلافه ثلاثة أسماء " لعلماء " لهم مناصب مهمة، وطالعت الكتاب فاستغربت ما حوى من صور رديئة للإسلام وتعاليمه في قضية اجتماعية كبيرة الشأن.

هل صحيح أن البيت المسلم سجن، وأن الزوجة داخله متهمة إلى الأبد، وأن أنواع الحيطة تتخذ لمنعها من الإثم ؟؟

كذلك يقول الكتاب فقد جاءت هذه العبارات به تحت عنوان " نظام سليم لحياة المرأة يتجلى في الحجاب".

قال على رضي الله عنه: ألا تستحون، ألا تغارون؟ يترك أحدكم امرأته تخرج بين الرجال تنظر إليهم وينظرون إليها وكان الصحابة رضي الله عنهم يسدون النوافذ وثقوب الجدران لئلا تطلع منها النساء على الرجال أو الرجال على النساء. وقد رأى معاذ بن جبل زوجته تطلع في كوة فضربها، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم وكان على رضي الله عنه يقول: أكفف أبصارهن بالحجاب (!) فإن شدة الحجاب عليهن خير من الارتياب.. فإن استعطت ألا يعرفن غيرك فافعل ! فالحجاب حصن حصين للمرأة يمنع عنها الشكوك والأوهام، ولزومها بيتها خير وأسلم عاقبة..".

نقول: هذا الكلام كله هراء، ولا تصح نسبته لا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إلى أصحابه، والمرويات التي يعتمد عليها هذا الكتاب ظاهرة المخالفة لما تواتر من خروج النساء إلى المسجد النبوى من الفجر إلى العشاء يرين الرجال ويراهن الرجال ولكن مع غض البصر كما أمر الله ورسوله، إن الإسلام لم يأمر بعدم النظر وإنما أمر بغض البصر.

وقد تصورت المشرفين على هذا الكتاب في مواقف تستحق الدراسة، لقد روى البخارى أن صحابية أحبت أن تكون مع المجاهدين في البحر، تركب الأسطول، وتقاتل في سبيل الله، وطلبت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله بذلك، فأجابها وطمأنها وبشرها..

لو كان مؤلف الكتاب حاضراً لقال لها: مالك يا امرأة وهذا العمل؟ وما تكلفك أمراً لا تحسنينه؟ امكثي في بيتك ولا تكوني من العصاة.

وتصورت أن المؤلف مع بنت شعيب وهى تقول لأبيها في شأن موسى: ( قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين )

إنه سيضربها على فمها ويقول لها: اخرسى.. ما أدراك أنه قوى؟ لعلك نظرت إليه وفكرت فيه يا...

إن هذا النوع من المتحدثين عن الإسلام يقف من سيرة الإسلام، ويصد عن سبيل الله، وقد عرفت أنهم يقلدون مذهب ابن حنبل رضي الله عنه، وأحمد بن حنبل بريء من هذا المسلك، وهو لا يقول إن وجه المرأة عورة، ذكر ذلك المغنى لابن قدامة، وكذلك رأى أئمة المذاهب المتبوعة، أبو حنيفة ومالك...

قال ابن قدامة ( ص 431 من الجزء الأول ): قال مالك والأوزاعي والشافعي: " جميع المرأة عورة إلا وجهها وكفيها، وما سوى ذلك يجب ستره في الصلاة لأن ابن عباس قال في قوله تعالى: ( ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) قال: الوجه والكفين، ولأن النبي نهى المرأة المحرمة عن لبس القفازين والنقاب، ولو كان الوجه والكفان عورة لما حرم سترهما، ولأن الحاجة تدعو إلى كشف الوجه للبيع والشراء، والكفين للأخذ والعطاء، وقال بعض أصحابنا: المرأة كلها عورة لأنه قد روى في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "المرأة عورة ". ولكن رخص لها في كشف وجهها وكفيها لما في تغطيته من المشقة. إلى أن قال (ص 432): ويكره أن تتنقب المرأة وهى تصلي...

وأجمعوا على أن المرأة، تكشف وجهها في الصلاة والإحرام. نقول: وذلك كتحريم تغطية الرأس على الرجال عند الإحرام، والرأس ليس بعورة ـ بالنسبة لهم ـ وإلا ما وجب كشفه وكذلك الوجه والكفان بالنسبة إلى المرأة، ونحن نعلم أن هناك متطيرين يرون أظافرها عورة، وهؤلاء لا وزن لا لرأيهم ولا لروايتهم.

وجاء في الجزء السابع من المغنى والشرح الكبير مزيد من الإيضاح لهذه القضية...

إذا أراد امرؤ الزواج فخطب إحدى النساء فماذا يفعل ليستريح إلى الزواج منها: يقول الحنابلة: يكفيه ما يرى عادة، ولا ينبغي له أكثر من ذلك.

قال صاحب المغنى: " لا خلاف بين أهل العلم في إباحة النظر إلى وجهها، وذلك لأنه ليس بعورة وهو مجمع المحاسن وموضع النظر، ولا يباح له النظر إلى ما لا يظهر عادة".

وقد رويت أقوال أخرى فيما يرى سوى الوجه والكفين لا مكان لذكرها هنا. قال صاحب المغنى: " وللشاهد النظر إلى وجه المشهود عليها لتكون الشهادة واقعة على عينها، قال أحمد: لا يشهد على امرأته إلا أن يكون قد عرفها بعينها، وإن عامل امرأة في بيع أو إجارة فله النظر إلى وجهها ليعلمها بعينها فيرجع إليها بالدرك ".

نقول: وأدب الإسلام العام هو غض النظر، فلا يجوز التفرس والحملقة، وإنما أباح الحنابلة النظر فيما ذكرنا لطبيعة التعامل والتقاضي، وقد نقل ابن قدامة عن القاضي أبي يعلى أنه يحرم عليه النظر إلى ما عدا الوجه لأنه عورة ـ أي ما عدا الوجه..

قال صاحب المغنى: " فأما نظر المرأة إلى الرجل ففيه روايتان: إحداهما: لها النظر إلى ما ليس بعورة، والأخرى: لا يجوز لها النظر من الرجل إلا إلى مثل ما ينظر إليه منها ".

نقول: يعني الوجه والكفين، وقد رد ابن قدامة حديث: " أفعمياوتان أنتما "؟ وهو حديث مرفوض عند جمهرة العلماء بل مخالف لما صح بالنسبة إلى البيت النبوي الكريم، وبالنسبة إلى جمهور الأمة.

فأما بالنسبة إلى البيت النبوي فقد قالت عائشة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترنى بردائه وأنا أنظر الحبشة يلعبون في المسجد " (متفق عليه)

وأما بالنسبة إلى جمهور الأمة فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ فاطمة بنت قيس:" اعتدى في بيت ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك فلا يراك ". (متفق عليه أيضا).

إنه غريب ألا يعرف الحنابلة مذهبهم، أليس الجهل عيباً؟ قد يقولون: نحن نعرف المذهب ولكنا نرى الميل إلى وجهة نظر أخرى! نقول: ليكن لكم ذلك على أن لا تعيبوا من يردد فقه إمامكم ويأخذ به، فليس ابن حنبل متهماً في نُصحه للأمة وإخلاصه للدين. فكيف إذا كان فقهه في هذه القضية فقه جمهرة العلماء!

فقه السنة لا يلزم، وفقه المذاهب لا يلزم، إذن ما الذي يلزم..؟ تفكير المتشائمين وهواة جمع التوافه ؟

وينقل الكتاب الذي بين أيدينا كلاماً عن حكم السماع، سماع الغناء والموسيقى، فيذكر هذه العبارات: قال صلى الله عليه وسلم " إن الله بعثني هدى ورحمة للمؤمنين، وأمرنى بمحق المعازف والمزامير والأوتار والصليب وأمر الجاهلية "..

وقال صلى الله عليه وسلم أيضا: " أمرت بهدم الطبل والمزامير "! وقال بعض العلماء: إن استماع الملاهي والتلذذ بها معصية توجب الفسق، وترد به الشهادة!

وأبلغ من ذلك في الزجر قول أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله: " إن السماع فسق والتلذذ به كفر ".

نقول: هذه المرويات كلها مرفوضة، فالأحاديث لا نصيب لها من الصحة، وتفسيق المسلمين أو تكفيرهم لسماع مزمار ونحوه كلام فارغ..

وما رواه البخارى يفيد إباحة السماع والتلذذ في مناسبات معينة كالأعياد والأعراس.. وإرسال الأحكام الشرعية بهذه الطريقة يضر الإسلام ولا ينفعه، وقبل ذلك هو جور على الحقيقة الدينية..

والغريب.. أني كنت في مجلس يضم نفراً من كبار أهل العلم، وكنا بحاجة إلى أن نسمع نشرة الأخبار، وجيء بالراديو، وشرعنا نسمع فإذا النشرة ـ على العادة ـ تبدأ باللحن الموسيقي المميز، وتعالت الأصوات مذعورة: أغلق الراديو.. أقفل الراديو.. أطفئ الراديو. وخرس الصوت ثم فتح الراديو بعد دقيقة ليسمع الحاضرون الأخبار بعد ما تنزهت الآذان عن سماع الموسيقى الملعونة...

لقد ملكتني الدهشة أول الأمر، فلم أكن أدري طول حياتي أن هذا الصوت حرام، ثم أخذت أضحك وأهز رأسي، وقال لي أحد الذين لاحظوني: كأنك تحب السماع؟ قلت: نعم! فرمقني بنظرة نارية أطفأتها أنا بدعابة سريعة.. وانتهت القضية..

ما على هؤلاء الاخوة لو درسوا النصوص الواردة، وميزوا صحيحها من سقيمها، واستوعبوا وجهات النظر في فقهها؟

إن القول بأن شيئاً ما منكر يحتاج إلى نصوص قاطعة، فإذا انعدم القاطع ورويت آثار محتملة الدلالة، وتشعبت وجهات النظر في الفهم فقد أصبح الأمر قضية فقهية عادية، وأصبح الميل مع وجهة ما مذهبا من مذاهب الإسلام...

والذي يزعم أن رأيه هو الدين، وأن رأى غيره خارج على الإسلام، رجل أحمق لا ينبغي أن يشتغل بالدعوة إلى الإسلام.

أظن وزارة الإعلام متعبة مع هؤلاء المتزمتين، إنهم لا يقولون للمسئولين: هذه أغنية هابطة فامنعوها، وتلك موسيقي خنثة فأسكتوها، كلا.. الغناء كله حرام، والموسيقى كلها حرام، لا تسمعوا الناس شيئا بتاتا. فإذا ذهبت تناقشهم لم تجد أكثر من إشاعات علمية في ميدان السنة أو أفهاما عائمة في بعض الآيات...

ولنترك هؤلاء المتزمتين إلى الصنف المقابل... إلى العلماء المنحلين الذين يبيعون دينهم بعرض من الدنيا، إن هؤلاء يرون المعاصي تقترف فيصادقون أصحابها، ويرون أحكام الإسلام ميتة فلا يحاولون إحياءها، ويرون أنصار الحق مستوحَشين ضعافا فلا يؤنسون وحشتهم ولا يدعمون جانبهم..

وما ظنك بعالم دين يقف ليصفق مع المصفقين، ويهتف باسم واحد من أولئك الذين يحيون على أنقاض الإسلام ورفات المكافحين، إن هذا الصنف المنحل الملق لا يصلح لشيء بل ما يصلح الدين إلا بزواله..

والدعوة الإسلامية منكوبة بالمتزمتين البله والمتملقين اللئام..

ولا تزيدنى الأيام إلا إحساسا بهذه الحقيقة: إن حاجة الإسلام إلى الذكاء لا تقل عن حاجته إلى الإخلاص، أو بتعبير القدامى: لا بد من الفقه الواسع إلى جوار النية الخالصة...

لو كان الأمر بيد المتزمتين لبقيت أسواق النخاسة في أرجاء الدنيا تبيع الأحرار على أنهم رقيق، ولو كان الأمر بيدهم ما فتحت مدرسة لتعليم البنات أبدا... أما حزب المنافق العليم اللسان، فهو وراء فساد المجتمع، وتجور الحكام، وضياع الجماهير..


: الأوسمة



التالي
منع حجاجنا من الفريضة لن يحرمهم الأجر
السابق
سهيل اليمن ومرارة الأفول

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع