البحث

التفاصيل

كتاب : الدعوة الإسلامية في القرن الحالي فضيلة : الشيخ محمد الغزالي الحلقة [ 9 ] الفصل السادس : أسباب انهيار الحضارة الإسلامية

( 3 ) موقف المسلمين من الدنيا:

الذى أبدع هذا العالم الكبير يعرف أنه أبدع شيئاً يبهر ويعجب، وعندما يلفت النظر إلى أسرار جماله، ووساقة بنائه، فهو يرجعنا إلى الشعور بعظمته، ويثير في أنفسنا الخضوع والإعزاز لقدرته وحكمته ..!!

أحيانا أفكر فى هذا الهواء الرقيق المنتشر في الجو، إنه بلطافته يثير الأبخرة فتتصاعد سحباً ومع ذلك فهو يضغط داخل أطر السيارة فإذا الهواء المضغوط يحمل فوقه عصابة من الرجال وكتلاً من الأثقال..

إن صانع هذا الهواء يقسم به في أطواره المختلفة.. (والذاريات ذروا * فالحاملات وقرا * فالجاريات يسرا * فالمقسمات أمرا * إنما توعدون لصادق)

ما معنى هذا القسم؟ إنه لفت نظر لما في هذه الحياة من آيات تدل على الرب المبدع، وليس غريباً أن يقول لك المهندس العبقري الذي صنع سيارة جيدة: انظر السرعة الفائقة، انظر الآلات الدقيقة، انظر الكراسي الوثيرة، انظر المصابيح الكاشفة..

إنه يُلفت إلى ما صنع لك، ولكنه ـ قبل ذلك وبعده ـ يلفتك إلى عبقريته ومهارته.!

ولقد كان جديراً بالمسلمين أن يفكروا في الكون، وينتهزوا فرصة حياتهم على الأرض ليعرفوا عظمة رب العالمين، بدراسة خواص المادة والقوانين السارية بين شتى العناصر..

إن الله لا يعرف بدراسة ذاته فهذا مستحيل، وإنما يعرف بدراسة ملكوته الضخم، واستجلاء الآيات الدالة عليه هنا وهناك، لا بأسلوب شعري هائم، ولكن بأسلوب علمي صارم.. وذلك هو منهج القرآن الكريم.

وقد ولدت الملاحظة والتجربة في البيئة الإسلامية، وكان يمكن أن تترعرع وتؤتى ثمارها إلى آخر مدى لولا الذى أصاب العقل الإسلامي بالتقعر فيما وراء المادة، ولولا انطلاق بعض المخربين يصرفون الناس عن الدنيا، ويضعون على حواسهم حجبا، فلا يدركون من قوتها ولا من جمالها شيئاً..

ويستحيل مع الجهل بالحياة وقوانينها أن يقوى الإيمان ويستوي على الطريق.

والثقافات الإسلامية المبتدعة والمنحرفة سر هذا العوج، وفي مقدمتها التصوف الدخيل، إن الله جل شأنه لما خلق البشر خلق لهم كل ما في الأرض ليستمتعوا به ما داموا على ظهرها أحياء، ومعنى ذلك أن يعرفوا ما هيأ لهم معرفة شاملة. فمن الغباوة أن يأكل المسلمون ويزرع غيرهم، أو يستهلكون وينتج غيرهم..

إن العلم بالحياة الدنيا وارتفاقها والاستمكان منها معان إنسانية عامة فطر الناس عليها، ولا يعد التنبيه إليها مثار دهشة، بل الدهشة أن يتقلب الناس في جنبات الأرض دون قدرة على إثارتها..

وكما ينتفع الناس بالحياة الدنيا لذواتهم ينتفعون بها في دعم أفكارهم وتأييد مبادئهم وقيمهم، فالكف العزلاء تخذل الحق، والسلاح التافه يجر الهزيمة..!!

وقد استطاع ناس كثيرون أن يعرفوا من دراسات الأرض والسماء ما جعل أيديهم باطشة وأسلحتهم فاتكة، فأين منزلة المسلمين من هؤلاء..

عندما كنت أقرأ الهجوم الفرنسي على مصر في القرن الثالث عشر للهجرة كنت أحسن طنيناً في دماغي لغزارة ما سفك من دمائنا دون جدوى، كان الفرسان الشجعان يذوبون أمام المدافع الحديثة والذخائر الخبيثة، وكانت خبرة الفرنسيين بالحياة وعلومها وكشوفها تساعدهم على التوغل بقدرة وترغم الأحرار على الفرار أو الموت الرخيص..

لماذا جهلنا الحياة وبحوثها على هذا النحو؟!.

إن الأرض الإسلامية كلها استبيحت نتيجة هذا الجهل الغليظ، مع أن العلم بها لا يقل عن العلم بأركان الصلاة، فإن بقاء الإيمان في الأرض، وصحة الجهاد دونه، لا يتمان إلا بهذا العلم الدنيوي..

العلم الواسع بالدنيا، والقدرة التامة عليها، كانت أمورا بديهية عند أسلافنا. وقد نصروا الحق بهذا الإدراك السديد، ثم خلف من بعدهم من نفض يديه من شئون الدنيا فخذل نفسه ودينه على سواء..

وقد قال المربون الأذكياء : املك الدنيا بغير حدود، ولكن اجعلها في يديك لا في قلبك. اجعلها في يدك لتنزل عنها فداء دينك وشرفك عند أول نداء. ولا تجعلها فى قلبك فتستبعدك، وتكون كاليهود الذين ذمهم الوحي لشرهم فقال: ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة)

لقد كان من أسباب انهيار الحضارة الإسلامية سوء الموقف من الدنيا وعلومها وبناء التربية الدينية على أفكار غيبية شاعت بين فريق من المتصوفة والزُهَّاد والفقهاء الصغار.

ولنفرق بين النوعين من التذكر والتفكر.. فإن الشائع بين جماهير العابدين الذكر العددي وهو ذكر تافه لا يفتح أغلاق القلب ولا يوسع آفاق النظر.

وصورته أن يردد اللسان اسما من أسماء الله الحسنى عشرات أو مئات أو ألوف المرات.. وقد تضاحك الظرفاء لأن الذاكر الذي يصيح " يا لطيف " أعداداً متتابعة تتحول الكلمة على لسانه " فلطى فلطى " وهي كلمة تشبه بغام الدواب ولا تعنى شيئا..

إن هذا الذكر قليل الغناء، وقد استحسنه العباد من عند أنفسهم لا من عند الله فإن الفكر الإنساني المتعرف على ربه أشرف من ذلك وأجل...

إذا قال الله تعالى: (انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون ) فهل هذا الأمر يعني النظر الحاكم؟ أو النظر القاصر؟ أو النظر العقيم؟ وهل تكرار هذا النظر التافه، يفيد يقظة، أو ثقافة، أو يفتق أمام العقل منفذا يصله بعظمة الله وآياته؟؟

والواقع أنه ما يوجد كتاب دين أمر بالنظر في الكون كالقرآن الكريم، وما يوجد ناس في قرونهم الأخيرة، غضوا عن النظر في الكون كجمهور المسلمين.

ونشأ عن ذلك أن الأقمار الصناعية تنم عن أحوالهم وهم يلعبون في بلادهم، وأن غيرهم يغزو الفضاء ويتلمس الكواكب، وهم لا يحسنون التنقل على الأرض إلا إذا صنع لهم غيرهم سيارة يركبها أو طائرة يقلها !!

إن الإسلام برئ من هذه البلادة.. وقد كان المسلمون حتى عهد محمد الفاتح متفوقين على خصومهم حضاريا ومدنيا وعسكريا، ثم غلبهم الضعف العلمي والعجز النفسي فأخذوا يتهاوون حتى ذهب ريحهم تماماً أول هذا القرن..

وقضية الغنى والفقر تحتاج إلى بيان صحيح، فإن جمهور المسلمين كان يفضل الفقر على الغنى، ولا تزال كتبنا المتأخرة ترى أن الفقير الصابر أفضل عند الله من الغني الشاكر!

وقد يجرى على لسان المسلم في ذم الثراء وأهله قوله تعالى: ( فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون )

وهذا خطأ فاحش، فالآية في الأغنياء الذين سخروا ثرواتهم في نصرة الباطل وضرب الإيمان، وهل هزم هؤلاء إلا أغنياء سخروا أموالهم في نصرة الحق وكسر الطغيان؟ إنه لأمر ما أحصى الله العشرة المبشرين بالجنة، فكانوا جميعا من هؤلاء الأغنياء الذين باعوا أنفسهم وأموالهم لله..

إن المال قوة هائلة، والقدرة على مساندة الدين به عمل صالح راجح.. ونسأل: كيف نبني مدرسة أو قلعة، وتزود هذه وتلك بالمعلمين والمقاتلين ما لم يكن وراءها مال موفور؟ وكيف تنشأ أجهزة الحرب والسلام وهي الآن فنون باهظة الكلفة ما لم يكن وراءها مال ممدود، وثراء عريض.؟!

إن ترجيح البأساء والضراء على النعمة والعطاء تفكير بالغ السخف. والمال كما قال القرآن الكريم في أثره أساس الحياة: ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا )

ونحن لا نعرف مصير كل فرد، ولا دخيلة نفسه، ولا حقيقة نيته، ولا تزال أنصبة الناس من الفقر والغنى مجهولة السبب..

ففي البلاد الشيوعية فقر حقيقي وغنى حقيقي، والتمتع الذي يباح للوزير أو مهندس الفضاء، غير ما يتاح للساعي أو الجندي...

وفي البلاد الأخرى فقر وغنى كذلك وقد اعتبر القرآن الكريم أن كلا الحالين ابتلاء، يحكم الله فيه يوم اللقاء...

وليس ذلك إلينا، وإنما الذي نستطيع تقريره بقوة أن الصعلكة لا تساند قيمة ما، وأن الغنى مطلوب لتربية الفرد وتقوية المجتمع.

ويظهر أن هناك خلطاً بين الغني والإسراف والترف، وأن هناك خلطاً كذلك بين الفقر والقصد والاستعفاف. وهذا الخلط مرفوض بدءا أو نهاية، فلكل معنى حكمه.

والذي نريد توكيده أن على المسلمين امتلاك الدنيا، وحسن بذلها لله، فإن الفقر العام شان حضارتهم في القرون الأخيرة وجعل أيديهم السفلى في أكثر من ميدان..!!


: الأوسمة



التالي
الأصول الشرعية لاهتمام الإسلام بالبيئة
السابق
الثقة بالله تعالى

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع