البحث

التفاصيل

كتاب : الدعوة الإسلامية في القرن الحالي الحلقة [ 3 ] الفصل الثانى : شبهة مردودة

الرابط المختصر :

إذا ذكرت دولة الخلافة ذكرت الحروب الهائلة التي دارت بينها وبين فارس والروم، وهما الدولتان الأوليان في العالم يومئذ.

ونريد أن نؤكد حقيقة علمية وتاريخية يحاول البعض المراء فيها، وهي أن الدعوة الإسلامية تقوم على الإقناع الحر، ولا مجال فيها للإكراه والرغم.

إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا ) ، ( ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا ) ، ( فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر ) ، ( نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ) ..

وهناك نحو مائة آية في هذا المعنى تجعل الإيمان نتيجة فكر مختار ومشيئة مطلقة...

سيقول البعض: كان ذلك في إبان ضعف المسلمين بمكة، فلما تبدلت الحال، وتماسك في أيديهم السيف، حاكموا الناس إليه، إذ نقول: بيننا وبينكم ما نزل من القرآن في المدينة، إنه يسير في ذات الاتجاه المكي، ويرفض الإكراه طريقا لنشر الدعوة ويؤكد مسئولية الإرادة البشرية فيما تأخذ وتدع.

وما من سورة نزلت في المدينة إلا أبرزت هذه الحقيقة إبرازا ساطعا.

في سورة آل عمران بعد ما قال: ( إن الدين عند الله الإسلام) قال: (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد )

وفي سورة المائدة:( ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون)

ولا نطيل بسرد الشواهد فهي كثيرة يقوي بعضها بعضا ويؤكده.

إن المجتمع الذي بنته الرسالة الخاتمة كان بدعا من مجتمعات العالم كله في احترامه لحرية التدين وتوقيره الأمان لمن يخالف في الدين . نعم كان بدعا لم تعرف الدنيا نظيرا له …‍!

وأين كان أو يكون المجتمع الذى يعتبر المخالف في الدين مضمونا في " الذمة " يُسأل كل مسلم عن حفظه ورعايته وهو الذي لم يصدق محمداً صلى الله عليه وسلم أو يدخل فى رسالته؟

ومع ذلك فإن فيضاً من مشاعر الخسة والعقوق ملأ آلاف الناس ضد هذا الدين حتى كأن السماحة جريمة والشرف ذنب !!

من توفير حرية التدين، واستبقاء المخالفين في الدين ما شاءوا قول الله تعالى لنبيه فى مكة (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين )

وقوله : ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين )

وقوله فى المدينة جل شأنه ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم )

وأسلوب الإسلام في عرض نفسه سائغ قريب، إنه يقول لك: عقائدي ومعالمي كذا وكذا.. فهل تؤمن بها ؟ فإن قبلت كنت من أتباعه وأخاً لكل مسلم، وإن رفضت قال لك: هل ستعترض طريقي وأنا أعرض نفسي؟ أو هل ستعترض طريق من آمن بي فترده عني؟

فإن قلت: لا علاقة لي بك ولست مهتما بمن دخل فيك أو صد عنك قال: أنت حر في كفرك ولن أطلبك بشيء وإن كنت أتمنى لك الهدى..

أما إذا قلت: لن أسمح لك بالكلام، ولن أترك من صدقك يتبعك، فهنا يقول لك الإسلام: لقد لقحت الحرب بيني وبينك .

إنها حرب من جهة الإسلام شريفة عادلة لأنها حرب ضد الطغيان، واستغلال القوة للصد عن سبيل الله، ومن الذي يلوم الإسلام على هذا الموقف؟

اعتماد الإسلام الأول على قوته العقلية ونفاسته الروحية، وهو واثق من أن النفوس ستنساق إليه انسياقا بدوافع من فطرتها السليمة، فما مكان العصا حيث تنهض الرغبة الطبيعية بكل شيء..؟

ولنفرض أن بعض الناس يتردد اليوم أو غدا في قبول الإسلام، إنه سيؤثره غدا أو بعد غد ما دامت الحرية موطدة الأركان، وما دامت الفتنة مقطوعة ممنوعة.

إن كل قارئ للقرآن يشعر أن التوحيد خير من الإلحاد أو الشرك. وماذا بعد الإيمان بالله الواحد؟ الصلاح.

( فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون )

هل الفسق خير من الصلاح؟ إنه في أية بيئة طبيعية يتجه الناس إلى الخير ويفضلون التقوى على الفجور، والصلاح على الطلاح، ولا حاجة إلى العصابتة..

كل ما يطلبه الإسلام بيئة طبيعية خالية من الجبروت والظلم. وإذا كان الظلم والجبروت لا يزولان إلا بالسيف فمرحبا به...

ومع وضوح المنهج الإسلامي في الدعوة فإن دخاناً كثيفا انطلق في جوه ، وما نلوم المبشرين والمستشرقين فيما اختلقوا من إفك، وإنما نلوم نفرا من الناس لبس أزياء العلماء وهم سوقة، وانطلق في عصبية طائشة يزعم أن الإسلام يمهد لحرب الهجوم وينشر دعوته بالسيف...!

وتتبعت كلام هؤلاء فإذا أحدهم يكتب تدليلا على وجهة نظره أن الإسلام حارب في بدر معتديا، وأنه شن الهجوم على قافلة المشركين، لأنهم مشركون مستباحون!!

قلت: هذا هو كلام الإسرائيليين في شتم الفدائيين الفلسطينيين، لقد اعتبر الوجود اليهودي مشروعا، واعتبر تشريد العرب أمرا لا شائبة فيه، واعتبرت مناوشات المحروبين المطرودين من وطنهم ودورهم عدوانا وهجوما !!

كيف يصف عاقل اعتراض المسلمين أهل مكة بأنه حرب هجومية، ويسكت بغباء عن أن مكة حظرت الإسلام في أرضها، وطردت أهله، واعتقلت بعد ذلك كل من يدخل فيه، هل حرب هؤلاء عدوان؟!

وكتب مسكين آخر يقول: إن الحرب عندنا هجومية، وإن الرسول صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون أي باغتهم دون دعوة، ودون انتظار إيمان، ودون إتاحة أية فرصة للنجاة. !!

وهذا كذب قبيح، وجهل غليظ، فإن الرسول الكريم حارب القوم بعد ما أعدوا له وتهيأوا للنيل منه..

وكتب مغفل آخر يزعم أن الحرب ضد هوازن وثقيف كانت هجومية، وما فكر في قراءة الجموع التي حشدها زعيم المشركين، والقوى التي دبرها لضرب الإسلام بعد فتح مكة.

إن هناك ناساً يغلب عليهم القصور العقلي، ولكن لديهم جراءة على إرسال الأحكام البلهاء بثقة العباقرة وقد أصاب الإسلامَ شرٌ كبير من هؤلاء المنتسبين إليه الجاهلين به وبتاريخه، فقد جروا عليه تهما منكرة، وصدق فيهم قول القائل:

ما يبلغ الأعداء من جاهل .. ما يبلغ الجاهل من نفسه.

وشيء آخر له أثره العميق، أنهم شلوا أجهزة الدعوة الصحيحة، وتكاسلوا عن إبراز محاسن الإسلام للأمم التي تجهل الدعوة، وتحيا في نطاق مواريثها الخرافية، وقد تفاحش هذا الأثر على مر العصور...

إننا عندما كتبنا " فقه السيرة " اجتهدنا في كشف العلل القريبة والبعيدة للجهاد الدامي الذي فرض على سلفنا الصالح، خصوصا ما اتصل بمقاتلة الروم النصارى، فإن دولتهم العجوز مكرت بالإسلام، وكادت لدعاته شمالي الجزيرة وفتكت ببعض رسله، حتى كاد إرهابها السياسي والعسكري يقف سيره.. فلم يجد النبي صلى الله عليه وسلم بدا من مواجهة التحدي، وكانت معارك مؤتة وذات السلاسل، وتبوك، وكان إعداد جيش أسامة..

إن هذا القتال لم يكن هجوماً على الغير، بل كان تأمينا للدعوة والمستجيبين لها، ومنعا لإمبراطورية مردت على الفتنة من أن تستغل تفوقها العسكري في إخراس الآخرين، ومنع تقدمهم الفكري.

والنصرانية دين يفصل العقيدة عن المنطق العقلي ، ويعد العلم والإيمان خصمين متشاكسين. وقد راع الدولة التي تحمي النصرانية، وتمثلها على الصعيد الدولي، أن الإسلام انتشر بسرعة مذهلة، وأن الوثنية واليهودية تهاوتا أمامه، وأن النصرانية فى الجنوب هادنته وقبلت مصالحته... فماذا تصنع حتى تهد هذا الكيان الناشئ؟

لجأت إلى السيف ، فلم يجبن المسلمون عن امتشاقه دفاعا عن إيمانهم وحقه في البقاء، وحق الشعوب أن تدخله وافرة مطمئنة. هدف القتال كان كسر السلطات المستبدة وتقليم أظافرها.

وما صنعه السلف مع النصارى الروم هو ما صنعوه مع دولة الفرس.. لقد وصل إلى كسرى كتاب يدعوه إلى الإسلام، فمزقه، وبلغ به الصلف أن أصدر أمرأ بالقبض على النبى الذي أرسله فهل هذا مسلك رجل يؤمن بالحرية الدينية ويفتح لها أبواب البلاد؟ وأين مجال المنطق مع مثل هذا المغرور؟

إن الناس ينسون ـ وما أكثر ما ينسون ـ ضراوة القوى التي توارثت أكل الشعوب واحتقار رغباتها.

في عصرنا هذا استقرت نظم تقول: " لا إله، والحياة مادة " كيف استقرت؟ إن حمامات الدم هى التي أرست قواعدها، كلما نشأت معارضة عولجت بالاستئصال.

والغريب أن ذلك كله يتم باسم الشعوب حتى أيقنا أنه كلما تردد هذا الاسم بكثرة عرفنا أنه عنوان لتسلط فرد آثم أو عصابة كذوب.. لماذا يكون لهذه الأنظمة وقار؟ وكيف يوجد من يبكي عليها إذا سقطت في صراع؟

لكن المستشرقين والمبشرين يتباكون على هزائم الروم والفرس قديما، ويحاولون كيل التهم السمجة للرجال الكبار الذين أسدوا هذا المعروف للإنسانية..!!

لقد كان العمل الأهم لدولة الخلافة هو توفير البيئة الطبيعية للدعوة، فاشتبكت بداهة مع الاستعمار العالمي الماثل في دولتي الروم والفرس، وعندما سقط هذا الاستعمار وانحسرت ظلاله أخذت الشعوب المغلوبة على أمرها تدخل في الإسلام زرافات ووحداناً، وانعقد وفاؤها للدين الذي اختارته، فهي بعد أربعة عشر قرنا تستمسك به، وتقاوم الفتن الخبيثة التي تبغي صرفها عنه.

ماذا كان سيقع لو أن حفنة من الدعاة تسللت إلى وادي النيل ونشرت التوحيد كانت الدولة ستحصد هذه الجماعة المؤمنة ثم تستقر الأوضاع كما استقرت عندما تمرد المجريون على الجهاز الأحمر الحاكم فتولت الدبابات الروسية حل الإشكال، واستقرت الأوضاع على أشلاء ألوف من المعارضين المدحورين !

لم يكن هناك خيار أمام دولة الخلافة في مهاجمة السلطات الرومية والفارسية، حتى إذا أجهزت عليها تركت للجماهير حرية البقاء على مواريثها، أو الدخول دون قلق في الدين الجديد.

لا تقطعن ذنب الأفعى وتتركها .. إن كنت شهما فأتبع رأسها الذنبا

وهناك شبهة خفيفة ولكن الإجابة عنها مهمة جدا، فقد ذكر البعض حديث: " أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ".

وظاهر الحديث أن الإسلام دين هجوم لنشر التوحيد. ونقول: هذا الظاهر باطل، وسبب الخطأ في فهم الحديث كلمة " الناس " التي وردت فيه، إنها لأول وهلة تعني العالم أجمع، أي أمرت أن أقاتل أهل الأرض حتى يوحدوا الله..

ولم يقل بذلك مسلم في الأولين والآخرين.. فقد أجمع المفسرون على أن أهل الكتاب ـ اليهود والنصارى ـ لا تعنيهم كلمة " الناس " هنا.. لماذا؟

لأن القرآن الكريم جعل للقتال مع أهل الكتاب الذين وقعوا معه فى حرب، غاية أخرى غير النطق بكلمة التوحيد، قال تعالى: ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون )

الغاية هنا إعطاء الجزية مع بقائهم على دينهم، ونلاحظ هنا من ترادف الأوصاف التي سبقت في ذم أهل الكتاب أنهم كتابيون خداعون أشرار، صلتهم بالله مزورة وعلاقتهم بالحرام مقررة، وعدوانهم على الإسلام محذور فوجب حسم مكرهم، وإبطال كيدهم.

واكتفى الإسلام منهم أن يتجردوا من السلاح، وأن يؤدوا بعد ضريبة الدفاع عنهم مع توفير الحرية الدينية لهم. ومعنى هذا يقينا أنهم لا صلة لهم بحديث: " أمرتُ أن أقاتل الناس " وأن كلمة " الناس " في الحديث تعني الوثنيين العرب وحدهم..

ويبقى الاعتراض قائما في دائرة أضيق، لماذا يقاتل الإسلام عبدة الأصنام حتى يؤمنوا؟.. فأين حرية التدين؟

والجواب: أن عبدة الأصنام وغيرهم لا يمكن حرمانهم من حرية التدين، وقد قال الله تعالى لهؤلاء الوثنيين ـ وهم أول من واجه الدعوة ـ ( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) ، ( قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ )

أما الحديث فهو يتناول ناسا معينين، نقضوا كل عهد، ورفضوا كل حرية، وكرسوا جهودهم وثرواتهم للقضاء على الإسلام ورجاله. أعطاهم الإسلام حق الحياة ولم يعطوه إلا حق الموت.

وكم بقوا على ذلك؟ اثنين وعشرين عاما استغلوا فيها قواهم المادية والأدبية لضرب الإسلام وإرهاب أهله، حتى نزل قوله تعالى في سورة براءة: ( فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين * وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله )

فبعد اثنتين وعشرين سنة من بدء الدعوة، وإصرار هؤلاء على العدوان والكيد، أعطوا مهلة أربعة أشهر يرون فيها رأيهم، فإما تركوا البلاد بكفرهم، وإما بقوا مسلمين..

وهذا التخيير هو للمشركين المعروفين بالغدر والخيانة، أما المشركون الذين يحترمون كلمتهم فلا عدوان عليهم ولا تضييق. " إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين "

ومن هذا البيان يتضح أن حديث: " أمرت أن أقاتل الناس.. " هو من قبيل العموم الذي أريد به الخصوص، وأنه في طائفة انتهت مع التاريخ الأول، لأن عبدة الأصنام من غير جزيرة العرب يمكن أن يعاملوا كاليهود والنصارى، وذلك ما حدث فعلا مع مجوس فارس إذ جاء في الحديث: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب.. "

إن الرسول العربي المحمد أوتى جوامع الكلم وروائع البيان، كما أوتي من الرحمة والحكمة ما يؤلف النافر ويلين القساة.

وحزنه على الشاردين والعصاة حزن الأب على أولاده الذين هبطوا وهو يود لهم العلا، أو زاغوا وهو يناشدهم كى يلزموا الصراط المستقيم.

وهو أبعد داع في الأولين والأخرين عن الاستنثار والاستكثار، ما يريد إلا الخير للناس: ( قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد )

فإذا انصرف الناس عنه بعد ذلك فما يصنع إلا أن يرثى لهم؟ فإذا ارتدوا إليه يريدون وأد دعوته، وفض أتباعه، فما يصنع إلا أن يحاربهم؟ وهى أعدل حرب في العالمين.

فإذا انتصر عليهم، وهادنهم ، واستبقى لهم حق الحياة فوجدهم يلتوون به ويبيتون له، ويأتمرون به ليقتلوه، ومن معه، فماذا يصنع إلا أن يقول لهم: ابتعدوا بشروركم عن هذه الأرض، فمن بقى فليس أمامه إلا القتل، أو يؤمن بالله ويترك الأصنام بحق لا بخداع .

إنه نبي المرحمة ونبي الملحمة، والقتال بعد هذا كله لا يصفه بأنه قتال هجوم إلا كذوب..

في هذا الجو الذي وصفته سورة براءة، ومع قوم لا يستحقون ذزة من عطف، ومع أمثالهم من الجبارين والغدارين إلى يوم القيامة جاء الحديث: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " وجاء كذلك الحديث: " بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمرى... ".

إن حديث السيف هذا وآية السيف في سورة براءة ليسا لبيان المنهج فى عرض الدعوة، فإن هذا العرض شرح في مئات أخرى من الآيات والأحاديث.. إنما هما لبيان المنهج في تأمين الدعوة عندما يريد الطغاة إطفاء منارها وتعطيل مسارها.

قالوا: غزوت ورسل الله ما بعثوا .. بقتل نفس ولا جاءوا بسفك دم

جهل وتضليل، أحلام وسفسطة .. غزوت بالسيف بعد الغزو بالقلم

والجهل إن تلقه بالحلم ضقت به .. ذرعا وإن تلقه بالجهل ينحسم

***

• الأوضاع الداخلية على عهد الحلافة الراشدة :

للأوضاع الداخلية أثر بعيد في نجاح الدعوة واجتذاب الآخرين، ويمكن القول بإطلاق أن السلف الأول كانوا أجدر أهل الأرض بالتمكين في الأرض، واعتلاء مكان الصدارة.

كانت " المدينة " ـ عاصمة الإسلام ـ تصدر المثل الرفيعة لأقطار الدنيا، على حين كانت الجماهير في روما أو المدائن لا تعي شيئا.

والسر في ذلك استقرار الثقافة القرآنية الهادية، وهى ثقافة تفتق الأذهان، وتنضج الملكات، وتنمى الفضائل، وتضبط السلوك، ثم هى تحترم العقل ومنطقه، وتستضيء به في تجاربها وأحكامها..

وعندما برزت هذه الثقافة أخذت الوثنيات تذبل والجاهليات تتقهقر، وما كانت التثاليث لتثبت أمام بداهة التوحيد، وما كان تراث يونان في الإلهيات ليذكر في مجال الإيمان الجاد.

إن أساطير العشق بين أعضاء الأسرة الإلهية فى جبل " أوليمب " كانت شيئا حقير أحقا.

ثم إن حقوق الأفراد والشعوب كانت دروسا تلقي وتطبق حيث استقر الإسلام، وما كانت القسطنطينية ولا المدن التي انتظمت في فلكها تدري من ذلك قليلا ولا كثيرا..

إن الرجال الذين حملوا الإسلام لشعوب العالم لم يحملوا إليها خيالات وأماني، بل كانوا من حيث جاءوا وإلى حيث ذهبوا نماذج حية لرسالتهم..

وكانت دولة الخلافة في المدينة المنورة المدد الموصل لهذا التيار المتجدد في النظم والأخلاق والقيم الشامخة.

وما أحسب الدنيا عرفت من قبل ولا من بعد أعدل ولا أنبل ولا أشرف من الرجال الأربعة الذين حكموا الأمة الإسلامية في هذه الدولة القصيرة الأمد- دولة الخلافة الراشدة.

وهناك ملاحظات يقف أمامها مؤرخ الدعوة طويلا ليستفيد منها عبرا بالغة:

( 1 ) لم يقدر رجال الدولة شرور الأحزاب المدحورة والجبهات المنتهية بل مضوا في طريقهم يدعون، ويحكمون، دون محاذرة.

نعم كانت هناك غفلة عما يمكن أن تصنعه فلول اليهودية والمجوسية بعد انهيار دولتهما. ومقتل الخلفاء الثلاثة ـ عمر، وعثمان، وعلى ـ شاهد صدق على أن مؤامرات الأعداء تمت فى جو غريب من الاسترسال والأمان.

إن المعارضين للإسلام كثيرا ما يتركون الميدان المكشوف الواضح، ويلجأون إلى الخفاء ليدبروا من وراء ستار أفعالا هائلة، وعلى الأمة الإسلامية أن تغلغل البصر في مواقف أعدائها، فقد لدغت من هذا الجحر مرة بعد أخرى.

( 2 ) إن الحريات الفضفاضة التي مرحت فيها الجماهير ـ على عهد الخلافة ـ كانت فوق المستوى العام للناس، أو بتعبير آخر لم تلق التقدير المناسب، ففي ظل الفراعنة والقياصرة كان بحسب الفرد أن يظفر بحقه المادي والأدبي ـ إن ظفر به ـ ويحمد الظروف على ذلك.

لكن العامة مع الخلفاء الراشدين كانوا ينقدون ويراجعون، ولا حرج في ذلك مع التزام الحدود المعقولة، أما أن تجيء وفود مع الرعاع لتقتل الخليفة الثالث، وهو لم يفعل شيئا يهدر به دمه، أو أن يقصد فَدْمٌ – عيي ثقيل الفهم - إلى الخليفة الرابع ليقتله، وهو خارج ليصلي الفجر ، فهذا وذاك شيء يغلب كل منطق .

ومهما كفل الإسلام للناس من حرية النقد، فإن توفير الحاكم العادل دين، والحفاظ عليه حفاظ على الأمة نفسها.. وقد دفعت الجماهير ثمن ذلك فى العهد الأموي على ما سنشرح.

( 3 ) الخلاف في تحديد حقيقة، أو تقدير مصلحة، أمر عادي، ولا ينبغي التطير منه لكن هذا الخلاف يتحول إلى شيء آخر عندما تنضم إليه عصبية قبلية أو مصلحة فردية.

والدم العربي معروف بحدته، ونزعته القبلية، وقد ثارت في آخريات عهد الخلافة فتن من هذا النوع كان لها أثر وخيم على الإسلام ودولته الأولى.

وعلى أية حال.. فإن دولة الخلافة الراشدة نجحت نجاحا تاما في إسقاط الطواغيت التي كانت تسوس العالم، واستطاعت أن تُقيم للإسلام حكومة مهيبة، تعد من الناحية السياسية الحكومة الأولى في العالم يومئذ.

لقد لحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى والإسلام لم يتخط حدود الجزيرة العربية، بيد أن الرجال الذين رباهم، والذين يعرفون عالمية الدعوة، شرقوا بها وغربوا وذللوا عقبات كان البصر العادي يحكم باستحالة تذليلها..

ذهبت دولة الفرس وشرع المسلمون يتحسسون ما وراءها شرقا.. وسقطت راية الروم عن آسيا الصغرى ووادى النيل، ولكن أملاك الروم ممتدة حتى شواطئ الأطلسي غربا، ولها فى الشمال أعماق لابد من سبرها....

وإذا كانت المجوسية قد أمحت مع غروب شمس الأكاسرة فإن الصليبية لها جذور غائرة في بقاع شتى، وأباطرتها في القسطنطينية لا تنقطع لهم حركة. وقد آل إلى الدولة الأموية هذا الميراث كله فماذا صنعت به؟

محمد_الغزالى


: الأوسمة



التالي
الإغاظة في مزج السياسة بالرياضة
السابق
المسلم مقيد بشرع الله في كل حياته

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع