البحث

التفاصيل

مقال الإمام محمد الغزالي

عندما كان موسى عليه السلام يكافح لتحرير قومه من ظلم الفراعنة : واجَهَ متاعب جديرة بالتأمل، وجُل هذه المتاعب كان من قومه أنفسهم !

إنَّ الشعوب التي بَرِحَتْ بها العللُ : لا يمكن أن تَبْرَأ مِن سِقَامِها بين عَشِيةٍ وضحاها، إنها تحتاج إلى مراحل متتابعة وسنين متطاولة من العلاج المتأنى الصبور حتى تَنْقَهَ مِن بلائها.

ولهذا، فالزمنُ جزءٌ من العلاج.

إن الأفراد المدمنين للمخدرات يحتاجون إلى مستشفيات [تَضْعُفُ] فيها عاداتهم السيئة، وتُحْيَا فيها عاداتٌ جديدة تصح بها أجسامهم وأعصابهم، فكيف بأمم تواضعت على تقاليد رديئة وأعراف فاسدة ؟!

إن هذه الأمم محتاجة إلى جو جديد تتنفس فيه هواء أنقى [..]

والأمة الإسلامية منذ بضعة قرون تتدحرج إلى أدنى، وقد فَقَدَتْ فى أثناء هذا التدحرج أمرين جليلين :

أولهما : الشمائل الإسلامية التي اختصت بها الرسالة الخاتمة.

والآخَر : المَلَكات الإنسانية التي تتمتع بها الشعوب الراقية، والتي تجعلها سباقة في ميادين الحياة - المادية والأدبية-.

إنَّ عللَ الأمم لا تُدَاوَى بالارتجال السريع، والرغبة النَّزِقَة [..]

والشباب الذي يظن أنَّ الإسلام يمكن أن يقومَ بعد انقلاب عسكري أو ثورة عامة : لن يقيموا إسلاماً إذا نجحوا؛ فإنَّ الدولةَ المحترمة وليدٌ طبيعيٌّ لمجتمع محترم، والحكومةَ الصالحة نتيجةٌ طبيعيةٌ لأمةٍ صالحة !

أما حيث تتكون شعوب، ماجنة وضيعة، فسيتولى الأمر فيها حكام من المعدن نفسه.

اتجهوا إلى الجماهير : لتزكية الأخلاق، وإنشاء تقاليد شريفة، وإقامة شواخص ماجدة ترنو إليها البصائر، وللتغلغل في الأسواق والميادين والمنظمات والنقابات لإحياء سلوكيات الإسلام وقيمه وأخلاقياته.

وذلك كله كان خَطَّ وطريقَ الأنبياء وحوارييهم ومن نهج نهجهم، وهو ـ وإن طال المدىـ أقصرُ الطرق إلى الوصول، وأولاها برعاية الله، وأبعدها عن الأطماع والشبهات.

ولا تحسبن هذا الخطَّ أَبْعَدَ عن المخاطر وأقرب إلى السلامة؛ إنه صعبُ التكاليف، ثقيلُ الأعباء، وقد رأيت أعداء الإسلام يَرْقُبُونَ هذا الخطَّ بحذرٍ، ويَرَوْنَ أصحابَه الأعداءَ الحقيقيين لهم.

إنَّ قصةَ خدمةِ الإسلام عن طريق الانقلابات والثورات : راودت أناساً "لهم إخلاص" و"ليست لهم تجربة"، ولم تنجح - من سنين طويلة- هذه المحاولات، ورأيى أنها لو نجحت : فإلى حين، ثم يبدأ الجهادُ/ العملُ لتنظيفِ الشعوب من أَقْذَائِها، وإحداثِ تغيير جذرى في أخلاقها وعاداتها.

أى إننا سنرجع إلى الإصلاح الشعبي عن طريق الشعب نفسه، لا عن طريق الأوامر الرسمية.

لستُ أنكرُ قيمةَ السلطةِ في اختصار المسافة [..]، [ولكنه] لا يلغى ولا يوهن عمل الأمة نفسها :

في إعلاء سلطان الضمير وتتبع مسارب السلوك الخفية والجلية،

وفى فرض رقابة دقيقة على أجهزة الحكم، وإبطال شرعيتها إن هى نسيت وظيفتها أو جاوزت حدودها.

إن الدولة/ السلطة : صورةٌ ظاهرةٌ لباطن الأمة، وهي [إحدى أذرعها] التي تحقق بها الأمةُ [بعضَ] ما تبغيه، [وإحدى أقدامها] التي تسعى بها إلى [بعض] ما تريد.

بَيْدَ أنَّ ضراوةَ الطباع البشرية السافلة : قلبت هذا كله رأسا على عقب، وأمكنت ناساً من "عبيد ذواتهم" أنْ يَفهموا الحُكم على نحو آخر، إنهم :

لم يفهموه "عبادةً لله"، بل "سيادةً على الآخَرين"،

ولم يفهموه "أمانةً ثقيلةَ العبء"، بل فهموه "مَغْنَمَاً لذيذَ الطَّعْمِ"،

وتطاولت هذه الحال على الأمة المنكوبة فأصابها من الضياع ما أصابها [..]

ولن يَصِلَ إلى كرسي الحُكم مَن يفهمه على أنه "عبادةٌ لله"، لا "سيادة على الآخرين" :

حتى [تَضْمَحِلَّ] بيننا أوهامٌ كثيرةٌ في "فهم معنى السلطة"،

وحتى تَرْقَى أمتنا مادياً ومعنوياً.

وحينها، سيكون [كرسي الحُكم] مُسَخراً - [في كثيرٍ من مناحيه على أقل تقدير]- لخيرِ الجماهير، لا مُسخراً لإرضاء فرد مغرور [وحاشيته] !

إنَّ فَنَّ الحُكم في العالَم المعاصر قد ارتقى إلى أوجٍ بعيدٍ، ففي انجلترا - مثلاً- يستطيع عاملٌ في أحد المناجم أنْ يُجَابِهَ الحكومة، دون أن تُخَالِجَهُ ذَرةٌ مِن قلق ! وقد ينتصر أو ينهزم، فلا يُزِيدُهُ نصرٌ، ولا تُنْقِصُهُ هزيمةٌ.

ولو وقع ذلك في بعض الدول [المسماة بـ] الإسلامية :

لأمَرَ الحاكِمُ بقطع عُنُقه،

ولَمَرَّت الدهماءُ على جسده المُلْقَى يقولون : ما دَخْلُكَ يا صعلوك، في سياسة الملوك ؟!

إنَّ الشعبَ والسلطةَ معاً : دون مستوى الإسلام الذى ينتمون إليه، بل هم - والحق يقال- عارٌ عليه !

لقد اختفت القيم والأخلاقيات، وبقيت في العقل الباطن للدهماء - [مِن الشعب ومِن السلطة[ :

تقاليدُ السلاطين الذين هم ظل الله في الأرض،

وفتاوى العلماء الذين تَوَاصَوْا بقَبُولِ الأمر الواقع، أو بالتعبير الدقيق : تَوَاصَوْا بالخضوع لِمَن نالوا الحُكم بالغَلَبة والقهر ! [..]

والأمرُ يحتاجُ إلى تغيير جذري - كما قلنا- في كيان الأمة وعقلها وضميرها؛ حتى لا تمر هذه المهازل أبداً [..]

وصِلَةُ الاقتصاد بالسياسة وثيقةٌ، ومراقبةُ سَيْرِ المالِ لابد منها، وتحديدُ موقف السلطة مِن المال العام شَارَةُ كلِّ دولةٍ محترمةٍ [..]

إنَّ الحالمين بانقلاب عسكرى : يجب أن يستيقظوا، وإلا كانوا هم أنفسهم قِسْمَاً مِن المَرْضَى !

لقد تَدَبَّرْتُ أحوالَ دولٍ ما تزال شعوبها تَعْبُدُ الأصنامَ، فوجَدتُّها :

وَصلت إلى حد الاكتفاء الزراعى،

وقفزت إلى الصناعات الإلكترونية،

وفجرت القنبلة الذرية،

واستقرت فيها الأنظمة الديمقراطية.

ورَجَعْتُ البصرَ إلى أمتي : فوجدتها دون ذلك كله، فازداد اقتناعي بخطورة ما انتهينا إليه ! [..]

إنَّ الدينَ - كما دَرَسْتُهُ في كتابِ ربي- : "إيمانٌ" و"إصلاحٌ"، لا "نفاقٌ" و"إفسادٌ"؛ [تدبر] قولَه تعالى : "وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون" [..]

إنَّ غَيْرَنَا أَقْرَبُ إلى تعاليم الإسلام في مجال الحُكم، وإنْ كان بعيداً عنه في مجال الإيمان !

يَعْلَمُ الناسُ أن "مستر تشرشل" هو بطل انجلترا، وكاسب النصر لها في الحرب العالمية الثانية، وحقه على قومه كبير، ولكنَّ قَوْمَه رأوا غيرَه أَقْدَرَ منه في أيام السلام، وأجدر بالوزارة، فأَبْعَدُوه دون حرج، وذهب الرجل إلى بيته دون ضجة.

وكذلك "الجنرال ديجول" الذى مسح العار عن وطنه في أيام كالحات، وقاد - في المنفى- حَرْبَ مقاوَمَةٍ انتهت بالنصر. لقد قال له الفرنسيون يوما : جنرال، لَمْلِمْ أوراقَكَ، واترك منصبك؛ فكان الرجلُ أسرعَ مِن البرق في جمع أوراقه والانطلاق إلى قريته.

ولو فَكَّرَ أحدُهُما في الخروج على مَشِيئَةِ أمته : لَمَا وَجَدَ خادماً يقدم له الطعام، بل أيضاً لَمَا وَجَدَ مَن يبيعه الخبزَ، ذاك لو بقى حياً !

أما على امتداد البلاد التي يعيش فيها مليار مسلم، فلـ "الوثنية السياسية" منطق آخر ! [..]

"قادَةُ النصر" في الغرب : تَسْتَبْدِلُ بهم شعوبُهُم مَن تراه أفضل لها،

و"قادة الهزيمة" هنا : يبقون جاثمين على صدر الأمة حتى يُورِدُوها القبور ! [..]

ومازلت أؤكد، وسوف أظل، أنَّ العملَ الصعب هو تغييرُ الشعوب، أما تغييرُ الحكومات فإنه يقع تلقائيا عندما تريد الشعوب ذلك ! [..]

إنَّ التغييرَ الحاسِمَ لا يتم ارتجالاً، ولا يتم بين عشية وضحاها،

ويجب أن يتجرد له رجال لا يخافون في الله لومة لائم، ولا تخلع قلوبهم رهبة أو رغبة، يمشون فى الطريق الطويل الذى سار فيه الأنبياء، ولا يفكرون في انقلابات عسكرية أو ثورات مسلحة، إنما يفكرون فى الإصلاح المتأني.

هناك مَن يطلب السلطة لتكون بين يديه أداةَ التغييرِ المنشود.

وأَكْرَهُ أنْ أتهمَ نيةَ هؤلاء أو نَهْجَهم، فقد عِشْتُ معهم وبينهم، [ولكني] أدعو هنا إلى "سياسةٍ جديدةٍ" فى خدمة الإسلام وبناء أمته التي تتواثب حولها شياطين الإنس والجن، ودعوتى أساسُها :

الاستفادةُ مِن التجارب الطويلة،

والنظرُ الدقيق في الأسلوب الذى سار عليه رسل الله، وخاتمهم العظيم محمد بن عبد الله.

الشيخ محمد الغزالي


: الأوسمة



التالي
القره داغي ينظّم دورة في الصيرفة والاقتصاد الإسلامي في الهند
السابق
العلامة ابن باديس.. لطائفه التربوية ومنهجه القرآني (2)

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع