البحث

التفاصيل

من هم الربانيون من العلماء؟

 
هم الذين يبلغون رسالات الله ويصدعون بالحق دون خشية إلا من الله.
 أما الذين يركنون إلى الظلم ويميلون مع أهواء السلطة فليسوا ربانيين، وإنما هم فتنة، وأدوات ظلم، ابتغاء المال والجاه.

الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وعلماؤه  ليسوا ضد الحكام والملوك والأمراء وإنما هم ضد الظلم والطغيان


أ . د . علي محيي الدين القره داغي 
الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين 
ونائب رئيس المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله الطيّبين وصحبه الغر الميامين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. 
وبعد
     كانت الأديان السابقة قبل الإسلام إذا حاول أهلها الانحراف عن الصراط المستقيم، واتجه أحبارها نحو التحريف في النصوص جاءت أنبياء ورسل تترى برسالات تجدد الدين، وتبين الصراط المستقيم، وتقود الأمة نحو الحق فقال تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ۗ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ۗ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )سورة الحج الآية 52-54.
ولكن الله تعالى قضى أن يكون القرآن الكريم آخر الرسالات وخاتمتها الجامعة  الشاملة الكاملة، وأن رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، ولذلك تعهد بحفظه وتكفل بحمايته فقال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) سورة الحجر الآية9.
ومع هذه الكفالة بالحفظ  كلف الأمة بصورة عامة والعلماء بصورة خاصة بالقيام بواجبهم في التبليغ والدعوة إلى الله، والقيام بواجب الأنبياء - فيما عدا خصائص الرسول والنبي - فقال صلى الله عليه وسلم "العلماء ورثة الأنبياء".(1)
(1)رواه أبو داوود(3641) والترمذي (2682) وابن حبان في صحيحه 88 وقد صححه ابن الملقن في البدر المنير(7/587)وقال علي قاري في الأسرار المرفوعة 232 وقال العيني في عمدة القارئ (2/60) روى بأسانيد صالحة

بل تدل أدلة أخرى على أنهم حواريو رسول الله وأمناء على الأرض، بل جعلهم الله تعالى شهداء مع ذاته العلية والملائكة فقال تعالى:(شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)سورة آل عمران الآية 18.
لذلك فواجبهم قول الحق وبيان الحق والوقوف مع الحق والتضحية بكل شيء في سبيل الله، وفي سبيل بيان حقيقة الإسلام دون تحريف ولا تبديل، والحفاظ على جماله وعزته ورحمته دون إفراط ولا تفريط فقال صلى الله عليه وسلم"يحمل هذا العلم كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتأويل الغالين".(2)
وقد أمر الله تعالى العلماء بأن يكونوا ربانيين منتسبين إلى الله رب العالمين وحده، ولا ينتسبون إلى غيره من مغريات الدنيا، فقال تعالى: (وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ)سورة آل عمران الآية79.
ويقول الإمام الطبري في تفسيره جامع البيان (5/530)، "الرباني هو المنسوب إلى من كان بالصفة التي وصفت، وكان العالم بالفقه والحكمة من المصلحين، يرب أمور الناس بتعليمهم إياه الخير، ودعائهم لما فيه مصلحتهم، وكان كذلك الحكيم التقي لله والوالي الذي يلبي أمور الناس على المنهاج الذي ورد به المقسطون من المصلحين...".
وقال الحافظ ابن حجر:" وقد فسر ابن عباس (الرباني)  بأنه الحكيم الفقيه ووافقه ابن مسعود... بإسناد صحيح" وقال ابن الأعرابي:" لا يقال للعالم رباني حتى يكون عالما معلما عاملا".
 فالعالم الرباني هو الذي يسير على مناهج الأنبياء والمرسلين فيقوم بالدعوة والتبليغ وقول الحق ولا يخاف في الله لومة لائم ولا سطوة حاكم، ولا تهديد السلطان له بقطع الرزق أو السجن يقول الإمام ابن القيم: "هم ورثة الرسل، وخلفاؤهم في أممهم، وهذه أفضل مراتب الخلق بعد الرسالة والنبوة، وهؤلاء هم الربانيون، وهم الراسخون في العلم،وهم الوسطاء بين الرسول وأمته، فهم خلفاؤه وأولياؤه وحزبه وخاصته، وحملة دينه".
   أهم صفات العالم الرباني:
1- أن يحمل هم أمته في حالتي الأمن والخوف، فيسعى بكل جهده وعلمه وخبرته وطاقته أن يكون ناصحا أمينا، ومعلما الناس الخير، ومبينا الحقائق بدقة، ومبشرا ومنذرا،  ومرجعا أمينا محققا لهم الخير ومصالحهم الدينية والدنيوية فقال تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) سورة النساء الآية 85.
فهذه الآية تدل على عدة قضايا مهمة منها:
 (2) قال الحافظ الذهبي في تاريخ دمشق(7/39) وفي لسان الميزان (1/312)حديث صحيح، وقال ابن القيم في الطرق الحكمية(140):"حديث معروف"، وذكر ابن الوزير في العواصم والقواصم(1/308) أن الحديث صحيح روي عن أبي هريرة وعلي ابن أبي طالب، وعبد الله ابن عمرو، وعبد الله ابن عمر، وأبي أمامة، وجابر ابن سمرة.


أ‌- أن مرجعية الأمة في حالتي الأمن والخوف تكون إلى أولي أمر المسلمين ولكنهم عليهم أن يرجعوا إلى أهل العلم القادرين على الاستنباط والتحليل ومعرفة الواقع والتوقع وفقه المآلات.
ب‌- إن هؤلاء العلماء الذين هم مرجعية للأمة - يجب أن يكونوا في مستوى المسؤولية وحمل الأمانة  علما وخلقا وعملا، والقدرة على الصدع بالحق مهما كان الثمن - فلا يجوز لهم أن يغشوهم أو يخدعوهم أو يكتموا الحق أو النتيجة بل يجب عليهم أن يكونوا أمناء صادقين أدلاء وأن يكونوا من أهل الذكر والخبراء.
فهذا الصديق العالم الرباني أبو بكر (رضي الله عنه) لما رأى حال الصحابة كاد أن يضطرب بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى أن عمر ينفي موته تصدى لهذه الحالة بصدق وحزم وأعادهم إلى الأمن المنشود فقال: "أما بعد، فمن كان منكم يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت"، قال الله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)سورة آل عمران الآية 144.(3)
قال ابن عباس (وهو حاضر): " والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر فتلقاها منه الناس كلهم فما أسمع بشرا من الناس إلا يتلوها".

2- أن يكون في محل القدوة من حيث الاستمساك بمناهج النبوة وسنتها وطريقتها، ومطابقة فعله لما يقوله للناس، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)سورة الصف الآيتان 2-3.
         وقال تعالى موبخا بعض أهل الكتاب (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ            
       وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)سورة البقرة الآية44، وقال صلى الله عليه     
         وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضو 
        عليها بالنواجذ.."(4).

(3)"مراجع صحح البخاري في هذه القصة (4/1618) الحديث (4187)".
(4)رواه أبو داوود بسند صحيح الحديث (4946).

         والمراد بالسنة هنا الطريقة والمنهج الذي كان يسير عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وخلفاؤه الراشدون وهي سنة الوسط والاعتدال دون إفراط ولا تفريط، ولا غلو فقال صلى الله عليه وسلم:"فمن رغب عن سنتي فليس مني" رواه البخاري (5063) ومسلم  
        الحديث (40).
3- أن يكون رحيما ومشفقا بالأمة يريد التيسير عليهم في حدود الأدلة، ورفع الحرج عنهم هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إن الله حصر رسالته في الرحمة للعالمين فقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)سورة الأنبياء الآية107  .
ولذلك فالعلماء الذين يضيقون على الناس فيحرمون دون أدلة معتبره، والذين   يريدون الشدة والتعسير على الناس أو أنهم يكفرونهم فليسوا من الربانيين، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا"، رواه مسلم الحديث (1732).
وكذلك الذين يحللون ما حرم الله تعالى فليسوا من الربانيين، والآيات الكريمة والأحاديث الشريفة في منع الغلو والتشدد، وبيان أن الدين يسر متفق مع الفطرة السليمة أكثر من أن تحصى.
القيام بواجب الدعوة إلى الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبيان الحق والصدع به وعدم كتمانه فقال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) سورة آل عمران الآية187، وقال تعالى(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ۙ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)سورة البقرة الآية159.
وأما الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فأكثر من أن تحصى في هذه العجالة.
4- الخشية من الله تعالى فقال تعالى:( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا)سورة الأحزاب الآية39، وقال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) سورة فاطر الآية28، وقال تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا)سورة الإسراء الآية107، وقال تعالى: (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا)سورة الإسراء الآية109.
5- الصبر على الأذى والابتلاءات  التي تصيبه بسبب الدعوة إلى الحق، ولذلك لا نكاد نرى آية تتحدث عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا ويأتي بعدها الحديث عن الصبر غالبا فقال تعالى: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر)سورة العصر الآية3، وقال تعالى: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)سورة لقمان الآية17، وقال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا)سورة السجدة الآية24، حيث اشترط في الأئمة الذين يهدون بأمر الله تعالى أن يكونوا صابرين.
6- الدعوة بالحكمة، والموعظة الحسنة، والحوار والجدال بالتي هي أحسن فقال تعالى: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)سورة النحل الآية125.
فمع أن العالم يجب أن يكون قوالا بالحق قائما بالقسط جريئا لا يخاف في الله لومة لائم، ومع ذلك يجب عليه أيضا أن لا يكون متهورا وإنما يجب عليه أن يكون حكيما في أقواله وأفعاله وتصرفاته وتعامله مع الناس وفي الدعوة إلى الله تعالى، وهذه الآية تجمع مجامع الخير والتأثير حيث تشمل الاعتماد على العقل والتجارب الناجحة والقدرات الصالحة، وعلى العاطفة والرفق واللين والقصص المؤثرة، وعلى قوة المنطق في الجواب التي تتحقق بالعلم والقراءة والتعرف على تجارب الآخرين في الحوار والجدال والتأثير من خلال الأساليب الشيقة والمؤثرة، والاستفادة من جميع الأدوات المؤثرة المشروعة في عصرنا الحاضر.
كما أن هذه الآية تدل على أن العالم الرباني يجب أن يكون هاديا هادئا هادفا: "هاديا" أي له العلم والبصيرة، "هادئا" لا يغضب إلا عندما تنتهك محارم الله، وعندئذ يعالجها أيضا بالحكمة، "هادفا" أي يضع لدعوته الأهداف المرحلية  والأهداف الإستراتيجية، ويخطط فيضع لنفسه الأهداف المرحلية، والأدوات والموارد المتاحة، ويلاحظ التحديات فيعالجها الخ...

7- التعليم والتزكية،  فقال تعالى في وصف رسوله: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) سورة الجمعة الآية2.
فواجب العلماء أن يركزوا على الارتقاء بالروح الإنسانية لتسمو إلى الخلق الراقي من خلال تلاوة القرآن والذكر، وعلى تزكية القلوب لتصبح سليمة، والنفوس لتصبح مطمئنة راضية مرضية، وأن يعلموا الناس الكتاب والحكمة، أي الوحي الصحيح وموجبات العقل السليم والفطر المستقيمة.
8- بيان حكم الله، والإفتاء في ضوء كتاب الله وسنة رسوله والإجماع، ثم الأدلة الأخرى، وذلك بالتشاور مع بقية أهل العلم إن احتاج الأمر إلى ذلك، لقوله تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم ومن يقتدي به: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) سورة آل عمران الآية159.
9- إبداء النصيحة للعامة والخاصة، لأولي الأمر وعامة الشعب فقد قال صلى الله عليه وسلم: "إن الدين النصيحة ثلاث مرات" قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ورسوله، وأئمة المسلمين وعامتهم" وفي رواية " وأئمة المؤمنين"(الحديث رواه أصحاب السنن وغيرهم بسند صحيح).
10- دحض حجج جميع المخالفين للإسلام الذي أنزله الله تعالى من أهل الزيغ والضلال والمفرطين والمفرطين، والغلاة وأهل العنف والمكفرين والعلمانيين ونحوهم.
وهذا واجب العلماء، حيث إن مسؤولياتهم الشرعية تقتضي أمرين:
        الأمر الأول: بيان الإسلام كما انزله الله تعالى بشموله وكماله، وجماله، وجلاله، وعزته ورحمته فقال تعالى: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)سورة الحجر الآية94  وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) سورة المائدة الآية67.
وجاء في تفسير ابن كثير:"يقول مخاطبا عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم باسم الرسالة، وآمرا له بإبلاغ جميع ما أرسله الله به وقد امتثل صلى الله عليه وسلم لذلك وقام به أتم القيام، قال البخاري عند تفسير هذه الآية، بسنده إلى عائشة قالت:من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم شيئا مما أنزل عليه فقد كذب، الله يقول: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ)سورة المائدة الآية67.
هكذا رواه مختصرا، وقد أخرجه في مواضع من صحيحه مطولا، وكذا رواه مسلم في كتاب الإيمان، والترمذي والنسائي في كتاب التفسير من سننهما من طرف...وفي الصحيحين عنها أيضا قالت: لو كان محمد  صلى الله عليه وسلم كاتما من القرآن شيئا لكتم هذه الآية:( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ)سورة الأحزاب الآية37.
     الأمر الثاني: بيان سبل المجرمين، وكشف طرق المنحرفين، وفضح أعداء الدين، والقيام بدحض جميع حجج المخالفين للمنهج النبوي الشريف وإبطال شبهاتهم قال تعالى: (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ)سورة الأنعام الآية55، فقد روى مسلم في صحيحه الحديث 118 عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله قال: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ".
وبناء على ما سبق فليس من العلماء الربانيين هؤلاء الذين " يقولون مالا يفعلون، ويفعلون مالا يؤمرون" وينافقون، أو يتملقون أو يكونون أدوات بين أيدي الطواغيت والظلمة، أو يميلون مع السلاطين أينما مالوا، أو أنهم يفتون بتحليل ما حرم الله تعالى من الأنفس والأعراض والأموال ونحوها، أو بتحريم ما أحل الله تعالى، خوفا على فوات مصالحهم أو ابتغاء المال والجاه.
فقد رأينا خلال السنوات الأربع الأخيرة من الفتاوى الغريبة والعجيبة ما يشيب لها الولدان، فقد رأينا وسمعنا بعض المفتين أفتوا بقتل المسالمين في مظاهرات سلمية (الضرب في المليان) وحل إباحة أموال المسلمين، ورأينا بعضهم  رئيس انقلاب غير شرعي ووزير داخليته الذي أمر بقتل المسالمين رسولين، وقال إن الله تعالى أرسلهما كما أرسل موسى وهارون لإنقاذ شعب مصر من فرعون، وسمعنا من أفتى بجواز زواج المسلمة من غير المسلم،والمساواة الكاملة في الميراث، ورأينا حزب النور السلفي كيف يقف مع البابا تواضروس مع الانقلاب على الشرعية، ورأينا أن جماعة منتسبة غلى الإسلام تقف ضد مشروع ناهض في تركيا، والأدهى والأمر سمعنا بعض من كانوا يعلمون الناس على البراء من الكافر يدعون لرأس الكافرين بأن يوفقه لتحقيق الخير والرفاهية في بلاد المسلمين، ورأينا وسمعنا من يفتي بأن المقاومة الشرعية في فلسطين إرهاب وأنه تجب حماية المحتلين وو...
عصر اضطربت فيه ثوابت الأمة والفتاوى، وانقلبت فيه الأحكام الشرعية رأسا على عقب  وتحول فيه الحكم وتغير بنسبة 180 درجة، فتحول الحرام القطعي في السابق إلى الجائز المشروع بل المطلوب مادام ولي الأمر يرى ذلك.
معاذ الله من سوء العاقبة
وحقا فإن معظم علماء السلطة والرسميين قد سقطوا مع الأسف الشديد فلم يقوموا بواجبهم من بيان الحق، أو على الأقل السكوت، بل ركنوا مع الظلمة وقد قال تعالى: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ) سورة هود الآية113 ، ورأينا معظم هؤلاء العلماء الرسميين لم يقوموا بواجبهم  في قضايا الأمة والظلم والاستبداد والانقلاب غير الشرعي، وفي دماء وأعراض المسلمين من الصدع بالحق، أو الدعوة إلى الصلح بل وقفوا مع أولي أمرهم، بينما "الدين النصيحة" كما سبق.
أمام هذه الأوضاع المأساوية وتساقط هؤلاء الرسميين في الطريق واحدا تلو الآخر يصيح معظم الشباب حائرين، إذ فقدوا القدوة الصادقة والعلماء الربانيين في هؤلاء الرسميين الذين كان لبعضهم هيبة واحترام وتلامذة ومريدون يظنون أنهم لا يخافون في الله لومة لائم.
صمود الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ووقوفه مع الحق أينما كان:
     ومن فضل الله تعالى بل من وعده الحق بوجود طائفة ظاهرة على الحق لا يضرهم من خالفهم أنه أكرم هذه الأمة بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي يضم معظم علماء الأمة نحسبهم  أنهم ربانيون ولا نزكي على الله أحدا، حيث وقف الاتحاد مع الحق والشرعية على الرغم من التحديات والتهديدات،  ويصدع بالحق أينما كان دون ازدواجية في المعايير فقد قال الاتحاد كلمته حول قضايا الأمة، وحول الانقلابات غير الشرعية فقال: إنها غير شرعية ما دامت ضد سلطة  شرعية في مصر واليمن وفي غيرهما، وقال إن الشعوب المسلمة لها الحق في التعبير عن رأيها واختيار قادتها وتقرير مصيرها، وفي محاسبة الفاسدين المفسدين تحت أي غطاء كان، وأن على الحاكم المسلم أن  يستشير من يمثلها من أهل الحل والعقد، وما يسمى اليوم بالبرلمان، وأن الواجب عند الاختلاف هو الحوار، وأنه لا يجوز التفريط بقضايا الأمة التي تقع قضية فلسطين والقدس المحتلة على رأسها، وأنه تجب نصرة المظلومين أينما كانوا، ومنع الظلمة من ظلمهم بجميع الوسائل المتاحة شرعا، وكذلك أصدروا وثيقة لثوابت الإسلام لا يجوز النيل منها. 
وأثبت الاتحاد بالأدلة القاطعة أن الإسلام ضد الظلم والطغيان والاستبداد والديكتاتورية، والفساد المالي والفساد الإداري والفساد الاجتماعي وأن كل ذلك سماها الله تعالى بمحاربة الله تعالى فقال تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)سورة المائدة الآية33. 
كما أثبت الاتحاد بأن تأويلات بعض العلماء لتبرير الظلم والاستبداد والدكتاتورية تحت أي غطاء كان إنما هو - كما قال الشيخ محمد عبده - "نزعات الشياطين، وشهوات السلاطين".
نحن لسنا ضد الحكام والملوك:
      وأود أن أبين حقيقة في هذا المقام، وهي أن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وعلماؤه  ليسوا ضد الحكام والملوك والأمراء وإنما هم ضد الظلم والطغيان، وأن الواجب هو بيان الحق بالحكمة والموعظة الحسنة، والنصيحة الصادقة المخلصة وعدم الوقوف مع الظلم والطغيان والاستبداد والفساد، بل إنهم يقولون: لو كانت لنا دعوة مستجابة لدعونا بها لإصلاح أولي الأمر، لأن في صلاحهم خيرا كثيرا بل إن صلاحهم صلاح الأمة.
فواجب العلماء هو الإصلاح والتغيير والنصيحة الخالصة لأئمة المسلمين وعامتهم وإرشاد الجميع إلى الصراط المستقيم، فوظيفتهم هي أداء رسالات الأنبياء، وأن يقفوا مع المستضعفين والمظلومين مدافعين عن حقوقهم، وأن لا يقفوا مع الظلمة الفاسدين الطغاة وإلا أساؤوا إلى دينهم العظيم الذي أنزله الله تعالى عدلا ورحمة للمؤمنين، ونارا للطغاة المستبدين، كما أن هؤلاء المنتسبين إلى العلم بوقوفهم مع الظلمة الطغاة ضد الشعوب المظلومة الثائرة يكتسبون غضب الله تعالى، فقال تعالى: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ)سورة هود الآية113 ،كما أنهم ينطبق عليهم ما فعله بعض علماء الأديان الأخرى من شراء دنياهم أو دنيا غيرهم بدينهم فقال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ)سورة آل عمران الآية 187، وقال تعالى: (فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ)سورة المائدة الآية 44، ولذلك يستحقون غضب هؤلاء الشعوب المطحونة، ويكون حالهم حال رجال الكنيسة الذين وقفوا في القرون الوسطى مع الإقطاعيين والرأسماليين ضد طبقات العمال والمزارعين، وضد العلم والتقدم والحرية وحينما قامت الثورة في فرنسا قال الثوار "اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس".
فعلى علماء المسلمين أن يكونوا مقتدين بالأنبياء والمرسلين فقال تعالى: (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)سورة الأنعام الآية 90 ، وبالعلماء الصالحين من السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان أمثال العز بن عبد السلام، والنووي،  وابن تيمية،  وغيرهم حيث وقفوا مع الحق، فخلدهم التاريخ بمواقفهم المشرفة.
ونحن اليوم أمام فتن كقطع الليل المظلم من ضعف وتمزق لأمتنا الإسلامية لم يشهد التاريخ مثله - حسب علمنا- فإذا لم يقف العلماء ضد هذه الفتن ببيان الحق والسنن، فمن يقف؟ فالبيان عن الحق، وكشف سبل المجرمين فريضة شرعية، وضرورة واقعية، ومسؤولية تاريخية سيسأل عنها الجميع، ولكن واجب العلماء وهم ورثة الأنبياء أكبر و مسؤولياتهم أشد.
ونحن و نحن أيضا مطمئنون واثقون ثقة مطلقة لا يشوبها أدنى ريب في أن الله تعالى يحفظ دينه وكتابه قال تعالى "(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) سورة الحجر الآية 9"، وانه تعالى ينصر أولياءه المتقين قال تعالى"(وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) سورة الحج الآية 40".
ولكن فليكن لعلماء الأمة اليوم ولرجالاتها المخلصين في جميع المجالات شرف المشاركة والمساهمة، وأداء واجب الحق والرسالة وإلا فكما قال مستشار السلطان ألب أرسلان  له " إن قافلة الدعوة والجهاد في سيبل الله تسير بك وبغيرك فليكن لك شرف المشاركة فيهما، وأرجو أن يكون الله قد كتب باسمك هذا النصر".
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ"آل عمران الآية8".
رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ"سورة الممتحنة الآية5".
رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ"سورة آل عمران الآية53"
آمين يا رب العالمين

 


: الأوسمة



التالي
وازداد الشوق رسول الله
السابق
الحقيقة المغيّبة في جريمة اغتيال عرفات (الحلقة الأولى)

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع