البحث

التفاصيل

الحقيقة المغيّبة في جريمة اغتيال عرفات (الحلقة الأولى)

الرابط المختصر :

تمر هذا الشهر الذكرى الثالثة عشرة لاستشهاد الرئيس ياسر عرفات رحمه الله، وعلى الرغم من مرور هذه السنوات الطويلة، وعلى الرغم من تشكيل عدة لجان وطنية وفنية للتحقيق فيها؛ إلاَّ أن الغموض ما زال يحيط بهذه الجريمة التي استهدفت قائد الشعب الفلسطيني ومفجر ثورته، هذا الرمز الذي ناضل في سبيل قضيته وتمسك بثوابتها، وشارك أبناء شعبه آلامهم وجراحهم ومآسيهم، وعانى معهم التضييق والحصار فصمد وصبر.

     فبعد انضمام دولة فلسطين إلى مؤسسات وهيئات الأمم المتحدة وفي مقدمتها محكمة الجنايات الدولية، ولأنه أصبح الآن بمقدور دولة فلسطين التقدم رسمياً إلى هيئة الأمم المتحدة بتشكيل محكمة خاصة للتحقيق في هذه الجريمة على غرار المحكمة التي تم تشكيلها للتحقيق في اغتيال الشهيد رفيق الحريري، أو اللجوء إلى محكمة الجنايات الدولية، فمن حق الشعب الفلسطيني أن يعرف المسؤول عن ارتكاب هذه الجريمة وتقديمه إلى المحاكمة، لأنها استهدفت نضاله وتضحياته واستهدفت تصفية قضيته العادلة، فقد أردت أن أكتب مشاهداتي في الأيام الأخيرة للرئيس الشهيد نظراً لقربي منه حتى تضاف إلى ملفات التحقيق.

     فقبل ثلاثة عشر عاماً، وفي العاشر من رمضان سنة 2004 زرته في مقره في المقاطعة برام الله، قبل الدخول عليه أبلغني الطاقم الطبي التونسي بخطورة الحالة الصحية للرئيس أبو عمار وبأن لديه تكسر في الصفائح الدموية، وطلبوا مني إقناعه بالإفطار وإيقاف صيامه، فلما دخلت عليه بينت له الحكم الشرعي والأحاديث النبوية التي تبيح الإفطار للمريض، لكنه رفض وأصر على الصيام بقوله [أتريد مني أن أفطر رمضان وعمري خمسة وسبعين سنة؟] بعدها طلب مني البقاء معه لتناول طعام الإفطار فبقيت. بعد الإفطار أدينا الصلاة وجلسنا، وحضرت بعض الشخصيات أذكر منهم جميل الطريفي وروحي فتوح، وبدأ يتحدث كعادته عن بعض ذكرياته، ثم استأذنت الرئيس؛ حيث كانت لي زيارة لدولة الإمارات العربية المتحدة، فقال لي [أوصيك بدفني في القدس].

     وفي طريقي إلى الإمارات عرَّجْتُ على القاهرة، وهناك علمت بأن صحة الرئيس قد ساءت فعدت فوراً إلى رام الله وتوجهت إلى المقاطعة للاطمئنان على صحته، كان الفريق الطبي المصري قد حضر، وعرض بالإجماع ضرورة نقله من المقاطعة إلى مستشفى ليتمكنوا من تشخيص حالته بشكل أفضل ولإجراء الفحوصات الطبية والتحاليل المخبرية، لاستحالة إجرائها داخل المقاطعة بسبب الحصار المفروض عليه من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، فتم نقله إلى باريس وأدخل مستشفى بيرسي العسكري، وكنت ككل الفلسطينيين أتابع حالته من خلال ما ينشر عبر وسائل الإعلام.

     وبعد أيام بدأت تنتشر الأخبار حول تدهور صحته، وتحديداً في السادس والعشرين من شهر رمضان المبارك التقيتُ الدكتور حسن أبو لبدة أمين عام مجلس الوزراء في مقر مجلس الوزراء في رام الله، فأخبرني بأن حالة الرئيس سيئة وصعبة، فقلت له: يفترض أن يذهب إليه أحد رجال الدين المسلمين ليكون إلى جواره في هذه اللحظات الحرجة، فرد بأن هذا الأمر لم يخطر لنا على بال، ثم توجهت إلى الإذاعة للتحدث في برنامج اذاعي حول فضائل ليلة القدر، وبعد مغادرتي الإذاعة علمت أن مكتب حسن أبو لبدة اتصل بسائقي الخاص وطلب مني مقابلته، فأخبرني بأن أبو مازن وأبو علاء رحَّبا بذهابي إلى باريس وقال: الليلة سنؤمّن لك السفر، وطلب مني ألاَّ أتحدث لأحد عن توجهي إلى باريس.

     بعد المغرب توجهت إلى معبر الكرامة ثم إلى المطار، وكانت الرحلة الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل إلى كوبنهاجن ومنها إلى باريس، وقبل وصولي عمان اتصل بي أحد الأصدقاء يسألني: أين أنت؟ أجبته أنا في المسجد الأقصى المبارك أحيي ليلة القدر، فقال لي: بل أنت ذاهب إلى باريس! سألته من أخبرك؟ فقال: إن موقع صحيفة “يديعوت احرونوت” ذكر أن الشيخ التميمي ذاهب إلى باريس ليفتي برفع الأجهزة الطبية عن الرئيس ياسر عرفات، قلت في نفسي هذه مصيبة، فالإعلام الصهيوني يزور الحقائق كعادته، ولما وصلت عمان علمتُ بأن قناة الحرة الأميركية ذكرت أنني متّجه إلى باريس حاملاً كفن الرئيس عرفات، وفي الطائرة صادفتُ طاهر المصري رئيس وزراء الأردن الأسبق، والدكتور حنا ناصر رئيس جامعة بير زيت فسألاني ما الأمر؟ قلت لهما أن الوفاء لأبي عمار يقتضيني أن أكون بجانبه في هذه اللحظات الحرجة، فقالا: الإعلام يتحدث أنك ذاهب للإفتاء برفع الأجهزة الطبية عن الرئيس.

     وصلت باريس الساعة الثانية من فجر اليوم التالي، وكان بانتظاري في المطار الدكتور ناصر القدوة والسفيرة ليلى شهيد، ذهبتُ معهما فلما وصلنا رفضت النزول قائلاً: هذا ليس المستشفى، فقالا بل هو! قلت إنني شاهدت المستشفى مراراً على شاشات التلفزة وهذا ليس هو! فأكدا أن هذا هو المستشفى ولكننا سندخل من الباب الخلفي لنتجنب الإعلام، فقلت لهما: أنا أريد التحدث إلى الإعلام لأن إسرائيل زعمت أنني قادم لأفتي برفع الأجهزة عن الرئيس، ولا بد من التوضيح، فطلب مني الدكتور القدوة إهمال الأمر وأنه سيعالجه في لقاءاته مع الإعلام، فقلت له بل أنا سأبيّن الحقيقة لأن ما يروجه الإعلام الإسرائيلي أكاذيب، واتهام لي بأنني أريد ارتكاب جريمة الإفتاء برفع الأجهزة الطبية عن الرئيس.

     تحدثتُ لوسائل الإعلام على مدخل المستشفى وقبل أن أرى الرئيس عرفات، وقلت بصراحة: إن رفع الأجهزة الطبية عن أي مريض محرم شرعاً في كل الأديان مادامت مظاهر الحياة موجودة وهي الحرارة والحركة، ثم دخلت المستشفى فأبلغوني بأن الجنرال مدير المستشفى يريد مقابلتي، فأبلغني اعتذاره عن عدم السماح لي بالزيارة، سألته لماذا؟ قال لأنك رجل دين ونحن دولة علمانية، وعلمنا أنك ستؤدي طقوساً دينية وهذا يتنافى مع مبادئنا العلمانية، فقلت هذا أمر مستغرب منك، ففي باريس مساجد وكنائس، وأفراد كثيرون يؤدون الطقوس الدينية، وهذا من حقوق الرئيس عرفات كإنسان، لكنه ظل رافضاً، قلت له بأنني سأبلغ مندوبي وسائل الإعلام بأن فرنسا منعتني رؤية الرئيس ياسر عرفات بسسب مبادئها العلمانية، وغادرت مكتب الجنرال فلحق بي هو والدكتور ناصر القدوة الذي ترجم لي قول الجنرال بأنه يريد التحدث مع المصادر العليا في قصر الأليزيه في أمر زيارتي للرئيس، بعد نصف ساعة جاءني الجنرال وأخبرني بالسماح لي برؤية الرئيس لعدة دقائق، فأجبته بل سأظل إلى جواره حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، وكان هذا بعد الظهر تقريباً.

     وفي طريقنا إلى الرئيس في غرفة العناية الحثيثة سألني الدكتور رمزي خوري مدير مكتب الرئيس في حينه: كيف قوة أعصابك؟ أجبته قوية والحمد لله، فنحن ندفن كل يوم شهداء ونلملم أشلاء الذين تقتلهم قوات الاحتلال، فقال لي إن حالة الرئيس عرفات مفزعة، فالأخ أحمد قريع حين دخل إلى الرئيس وقع على الأرض مغشيا عليه، وبالفعل كانت حالته مفزعة، فرأسه منتفخ ومتورم وأصبح حجمه تقريباً ثلاثة أضعاف حجمه الطبيعي، والدم ينزف من مختلف أنحاء رأسه ووجهه ومن مسامات جلده وأذنيه ومحيط عينيه ومن كل مكان. لم أتمالك نفسي وكدت أن أقع مغشياً علي، لولا أنني أغمضت عيني وتلمست الطريق حتى وصلت المقعد الذي بجواره، كان وجهه محتقناً، أما ملامحه فقد كانت كما هي.

     جلست بجواره أتلو القرآن، بعد فترة نظرت إلى كتفه الأيمن الذي كان مكشوفاً، فإذا به يتحرك ويرتعش لثلاث مرات، وهذا شجعني أن ألمس جسده، لمسته من كتفه الذي ارتعش فوجدته دافئاً، وهنا خرجتُ للإعلام وقلت إن الرئيس حي يرزق، ومظاهر الحياة من حركة ودفء ما زالت موجودة لكن وضعه صعب، ثم عدت مرة أخرى ومكثتُ أتلو القرآن إلى ما قبل المغرب، فغادرتُ إلى الفندق لأفطر، بعد عودتي وجدت بعض التحسن، ولكن يبدو أنها صحوة الموت، فبعد منتصف الليل طرأ تدهور حاد على صحته وأسلم الروح الساعة الثالثة والنصف فجراً ، قمنا أنا ومجموعة من مشايخ مسجد باريس بتغسيله وتكفينه والصلاة عليه، وتم وضعه في تابوت، فأغلقته ووضعت مفتاحه في جيبي.

     عدتُ إلى رام الله لتحضير القبر، منتظراً إحضار جثمانه من الجنازة العسكرية التي أقيمت له في القاهرة بعد الجنازة العسكرية التي أقيمت في باريس، وبالواقع من المستحيل تنفيذ وصيته بدفنه في مدينة القدس المحتلة لأن سلطات الاحتلال الإسرائيلية رفضت ذلك، فأرسلتُ من أحضر تراباً من المسجد الأقصى المبارك، وتم بناء القبر بطريقة يمكن معها نقله في المستقبل إلى القدس، ولما وصل جثمانه كان من الصعب إجراء جنازة عسكرية له كما كان مقرراً بسبب تدافع الجموع الهائلة التي حضرت من كل مكان في فلسطين والتي قدرت بما يزيد عن مائة ألف شخص، متحدية إغلاق سلطات الاحتلال مدينة رام الله وتشديداتها على الحواجز العسكرية، ولم نتمكن من إنزاله من الطائرة بسهولة، وسَرَتْ شائعات بأن كتائب الأقصى ستقوم بخطفه ودفنه في القدس.

     وبصعوبة بالغة أوصلنا التابوت إلى القبر وأنزلناه فيه، فأمرتُ بإغلاق القبر على التابوت، فاحتج بعض الحاضرين وقالوا كيف دفنته بالتابوت؟ فقلت لهم أنا المسئول، وبعد منتصف الليل نبشتُ القبر أنا ومجموعة من حرس الرئيس، وأخرجتُ التابوت، ولما كشفتُ عن وجهه وجدت حجم رأسه طبيعياً، والابتسامة على شفتيه ووجهه أبيض مائل إلى الصفرة أضاء القبر، دفنا جثمان الرئيس حسب أحكام الشريعة الإسلامية، وصلينا عليه ونثرنا عليه تراب المسجد الأقصى المبارك، وتم الاحتفاظ بالتابوت في المقاطعة حيث يراه الناس والقادمون للعزاء، وبالأخص أن محافظ رام الله قال أن هناك شائعة بأنك دفنت جثمان الرئيس بالتابوت، فقلت له: التابوت موجود في المقاطعة لمن أراد أن يتأكد.


: الأوسمة



التالي
من هم الربانيون من العلماء؟
السابق
حزب العدالة والتنمية المغربي.. أين الخلل؟

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع