البحث

التفاصيل

الخطاب التصحيحي الجديد للفكر الإسلامي

صدرت مؤخراً دعوات تصحيح فكري للوعي الإسلامي المعاصر، من أبرزها دعوة العالم المغربي المميز د. أحمد الريسوني، وحديثه عن إشكالية تأثر خطاب الدعوة الإسلامية، بنماذج تدين صنعتها الظروف والقالب المذهبي للمؤسسة الرسمية في الخليج العربي، وربما لغة خطاب د. الريسوني، لها أهمية خاصة، فله قدم راسخة، في صناعة تأسيس جديد لفكر الوعي الإسلامي في المغرب، وخاصة بعد أن غادرت مجموعته المغاربية، التأثيرات الفكرية السلبية للسلفية المتشددة.

لكن مقاله (الإسلام السعودي من الازدهار إلى الاندحار) بسبب ظروف زمن النشر وقالب الحدث، لم يأتي في سياق التفكيك العلمي المطلوب، والمحتاج له اليوم في بحث التأثير السياسي والجغرافية التاريخية على الدعوات المذهبية، ويحتاج تناول مثل هذا التداخل، إلى تقسيم تاريخي وسياسي، وربطه بدورات الانحراف أو التصحيح، الذي تعرض لها تاريخ التشريع الإسلامي.

وإنما نُدب إلى التجديد وجوباً فيما ورد عن رسول الله، لتصحيح ما يُمكن أن تنحرف به المذاهب والجماعات والشخصيات، عبر التسييس أو الانحراف الذاتي، عن مقاصد الرسالة الإسلامية، ومعالم الشريعة التي تُفهم مهمتها في كل دورة بشرية، لتتحول إلى عمران الأرض وإصلاح أخلاق الإنسان، لكن يبقى فكر د.الريسوني كأحد شخصيات مدرسة المقاصد الإسلامية المعاصرة من هذه الظاهرة المؤثرة، مفصل مهم لخطاب التصحيح الإسلامي.

 

وقد اعتنينا هنا بطرح عناوين رئيسية في مأزق الانحراف، وبإشكالية فتح الباب لهذه الثقافة من خارج أرضها، وهو ما ساهم في ضعف فرص التدافع التصحيحي معها، وحماية الثقافة الإسلامية الوسطية الحقيقية، التي تقوم على منهج مقاصدي وليس متطلب استبدادي أو استعماري.

 

ود.الريسوني بادر منذ فترة بإعلانات صريحة لنقد ظاهرة انتشار السلفية الطائفية، التي استفادت وتمكنت في المشرق، بل مهجر المسلمين عبر الدعم الرسمي، وأضحى لها عدة مسارات تأثرت بها أو ردة فعل عليها، أخطرها قضية الإحباط في منظومة الإيمان وقناعة المسلم المعاصر، ومساهمتها في الانهيار الفكري لوعي بعض الشباب العربي، الذين يواجهون كوارث عديدة، من حرب سوريا إلى تركة العراق إلى تجربة مصر الدامية، وحرب اليمن الأهلية.

وقد تزامن هذا الإحباط المتزايد، مع هجوم فكري واسع يستهدف الإسلام، عبر إسلاموفوبيا متوحشة، تتخذ منابرها داخل وخارج أرض الشرق المسلم، وترفض الاعتراف أو السماح بشرح مفاهيم الإسلام، وعلاقته بالحياة المدنية والعدالة الاجتماعية والقانون الدستوري، الذي يُمكن أن تُحرر عليه شراكة فلسفية عميقة، وتُنظم علاقات الأوطان والجماعات عبره، في ظلال تؤمن بكرامة الفرد، ومساحة حريته الشخصية.

 دون أن تُسقَط أخلاقيات الروح وإيمانيات التعبد، التي حافظ عليها الإسلام بين خطاب الأرض ووعد السماء، الذي تنطق به روحه كل ثانية، ولا يُمكن للضمير البشري أن تستوي عدالة نهجه على الأرض، وإقامة الأسرة الاجتماعية والإنسانية، في حياة السعادة والقيم، دون مراعاة هذا الحس الوجودي القطعي.

    هذا التجديد الفكري الإسلامي اليوم، محاصر من قوى الاستبداد العربي وفلسفات الانحياز، التي يًسيطر عليها الغرب الرسمي أو منظماته الوظيفية، أو ساهم في دعمها، دون السماح لمعايير الانصاف، لتقديم رؤيتها للرأي العام، وهنا أتت التطورات الأخيرة في الخليج العربي، لتصدم مئات الآلاف من الشاب الذين عُلّقوا بها كنموذج للإسلام الصحيح، بعد قرار السلطات الرسمية استهداف هذه البنية.

 

ولقد حاولت شخصيات وطنية سعودية، ذات عمق إسلامي وعروبي، تواصلت مع مؤسسات الدولة في مراحل متعددة بعد أزمة الخليج الأولى 1990، اقناع السلطات بتنظيم فكرة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، في سياق يجعلها مدرسة تراجع وتصحح رؤاها المتشددة، تحت منهج أهل السنة مقاصديا ومذهبيا، وتفرز فترات الحروب والتاريخ الدامي، كإرث تاريخي، ينظر إليه بحسب حلقات الصراع السياسي في تاريخ الجزيرة العربية، وليس المفاصلة الدينية والسياسية لكل من خالف مذهب الشيخ، فيُفصل الإرث الصراعي عن مواطنة وإنسان اليوم.

 

ثم تُطلق صناعة الدولة الحديثة ببعد إسلامي مدني، يُحافظ على روح الإيمان للشعب والدستور، ويُصحح سلوك الغلظة والشدة، وقصور الوعي في الحياة المدنية، ببرامج منهجية، ضمن مهمة دستورية للدولة ومشاركة شعبية، وإصلاح ثقافي وسياسي.

لكن السلطات رفضت هذا الطرح، والمفاجأة الأخرى أن قوى مؤثرة من التيار الإسلامي، اتحدت معها في رفض هذا التصحيح والتنظيم المنهجي، الذي هدف إلى فتح أبواب الدولة المدنية المسلمة المعاصرة بهدوء، ومراعاة لمجتمعها العربي الإسلامي والفكر الشرعي الصحيح، وليس بناءً على أولويات نزوات لبرالية غربية مصممة للشرق، ومثقفين لائكيين رافضين لأي قيم إسلامية أو أخلاقية، بات يبشر بها منذ تولي أمارة ابوظبي هذا المشروع في تقاطع واضح دولي وإسرائيلي.

فمشروع الإصلاح الديني أو الفكر الإسلامي المعاصر كان يُمكن أن يُهذب، ويُصحح الكثير من إشكاليات الوعي الديني في الخليج، لكن صفقات التحالف السياسية، أسقطت مثل هذا الخطاب، ونشير هنا لأبرز شخصيات الاعتدال الإسلامي الذين أنجبتهم منطقة الجزيرة والخليج العربي، وهو من بريدة في القصيم السعودية، الشيخ سلمان العودة، وهو رهين الاعتقال اليوم، وقد كان ولا يزال بوابة تاريخية للتصحيح الفكري السعودي، ومع ذلك طواه السجن وطوى معه آمالاً واسعة لأنصار الاعتدال الإسلامي السعوديين والعالميين.

 
ولا يُمكن أبداً أن تكون هذه المقالة كافية، لقضية تاريخية تحتاج كتباً، خاصة في توقعات آثار نقض البنية الدينية للمجتمع السعودي، وتأثيراته على مستقبل وجودها واستقرارها الاجتماعي والسياسي، وملفات ضخمة كل منها يستغرق كتاباً، ولذلك نؤكد على أن هذه المقدمة، إنما تسجل كمدخل أولي فقط، لفهم موضوع هذا المقال، بعد أن ارتبطت دعوة د. الريسوني، بقضية النموذج السعودي في الدين، وتصديره ثم هدمه بقرار رسمي.

ومن الإنصاف أن نعرض الآن لمقولة د. الريسوني في هذه القضية، فيما يتعلق بالموضوع الفكري الذي يهمنا هنا، لإعادة بناء خطاب الفكر الإسلامي، وهي قوله إن هذا (التدين السلفي المتشدد) أفسد الحركات الإسلامية (البعض منهم بالطبع، فليس الجميع تأثر بهذا المذهبية)، ضمن قائمة عدّدها الشيخ الريسوني لآثار ثقافة السلفية الطائفية، على المجتمع العربي، وهنا لم يجامل د.الريسوني الحركيين الإسلاميين، وهو موقف يسجل له في مصارحاته النقدية للحركة الإسلامية مبكراً، فأين المشكلة الكبرى في هذا المأزق ومستقبل الفكر الإسلامي معه؟

إنه مع الأسف الشديد أن مذهب السلفية الطائفية الذي لا نعني به، رؤى فكرية وتصحيحات علمية للفكر السلفي العلمي، نراها مهمة لتحقيق التوازن بين المدارس الإسلامية، خاصة في الإفراط في الطقوس وتعظيم الأفراد الصالحين، أو تهميش الاجتهاد في نصوص التشريع.

 

أو دور البعد السلفي بالتذكير بأنه لا قداسة لرأي الرجال، وبقية مسائل السلفية المقبولة في مساحات الاعتدال وحتى المحافظة منها، لا الغلاة السلفيون من حمل السلاح ومن لم يحمله، فهذه الرسالة العلمية شريك إيجابي في الفكر الإسلامي، وقد تأثر بها إيجابيا من هم خارج الدائرة السلفية أيضاً.

إنما الإشكال الأخطر أن قوى وشخصيات وأفراد مؤثرون، من نسيج الحركة الإسلامية أو مؤسساتها أو مشاريعها، سمحوا أو شجعوا أو داهنوا حتى هذا اليوم، مفاهيم السلفية الطائفية، المدمرة لفكرة الإنسان والمجتمع، والتي تؤسس لمنظومة شرسة من التفاصل العنفي بين المسلمين أنفسهم وبينهم وبين غير المسلمين، بل بين المدراس السنية ذاتها.

وهو الخطاب الذي بُشر به خلال 4 عقود وبقوة وكثافة، باتهام الفكر المعتدل أو المتعدد، أكان مذهبيا أو فكريا أو مقاصديا بالضلال الشامل، وعملت مشاريع من داخل هذه المؤسسات التي ذكرناها لتطويق الاعتدال، الذي اعتنى به تحالف إسلامي واسع من السيد جمال الدين حتى الشيخ محمد الغزالي.

بل إن بعض هذه الشخصيات المحسوبة على الحركات الإسلامية، اعتنق كلياً هذه السلفية الطائفية، وكان له دوراً سلبياً كبيراً، بعد أن دعمته مصالح مادية رسمية، خلال فترة الربيع لوجود مصالح مع هذه القوى المتنفذة في السعودية، وبلدان أخرى من الخليج العربي.

وبناء على ذلك عاش المشرق العربي، وخطاب الفكر الإسلامي، تحت ضغط ثلاثية مدمرة لنسيجه الفكري، نُشرت في أوساط الشباب كلياً أو نسبياً وهي:

1- أن التاريخ التشريعي للأمة، من بعد الصدر الأول الذي يُنتخب بمعيار خاص للسلفية الطائفية، هو غالباً محض ضلال وأن سلسلة العلم أو الشخصيات التي تُعتمد، هم الشيخ محمد بن عبد الوهاب ثم الإمام ابن القيم والإمام ابن تيمية (الذي يُنتقى ويجتزأ فقهه، بحسب متطلبات السلفية الطائفية، وليس بحسب منهجه الشامل).

وصولاً للإمام أحمد ابن حنبل المتفق على عدالته، (لكن هذا الانتساب للإمام أحمد، لم يكن وفق منهجه المذهبي، ولا الأخلاقي السلوكي) وإنما كان ضمن التكييف المذهبي الجديد، وأن المعركة الأولى والأكثر أهمية، هي بين اتباع هذا التسلسل وبين بقية العالم السني مدارس ومسالك، ثم المذاهب والطوائف الأخرى.

2- اعتقادهم أن رسالة المسلم هو في عودة الأمة لصحيح الدين بحسب معتقد السلفية الطائفية، وليس بحسب جمهور الأمة أو مجدديها، وبالتالي الرسالة بين هذا المسلم المحدد معاييره، المعتمد من السلفية الطائفية، وليس كل مسلم، وأن الأصل في تراث خطاب الفقه والفكر السُني وخاصة مسار التجديد المقاصدي، أنهم قوم ضالون لا صحة لعقائدهم، ولا قبول لأفكارهم ولا لتجديدهم، من المتقدمين ومن المتأخرين.

3- سيطرة هذه الفكرة بمساهمة مهمة من أوساط حركية إسلامية، ومُكنت أو لم يتم الرد عليها، فتعمقت فكرة الصراع داخل المجتمعات المسلمة، بين ملتزمين وغير ملتزمين، وتعززت فكرة مفاصلة الجماعة المؤمنة.

وهي الفكرة التي أخطأ عبرها أ. سيد قطب رحمه الله، ثم لُبست لباسا سلفيا، ساهم أيضا في أزمة التحزب الحركي، وأسوء منه تحزب جماعات الغلو، وكل هذا لا يبرر مطلقاً، جرائم الأنظمة، ضد الحريات، بل ساهمت إجراءات الاستبداد في منع فرص التجديد الراشد.

هذه البيئة الثقافية الخانقة، حاربت التعدد الفقهي والفكري، وضيّقت على المرأة بما لم يلزم به الشرع، وعظمّت التشدد، فعززت ردود الفعل المتمردة على قمع الحريات الشخصية، التي أسقطت البعض في تطرف آخر، اكتنز في نفسه وكتمه.

 

فكان من الطبيعي أن تزدهر فيها ثقافة الواعظ المشحون بمذهبيته، أو الضعيف في أخلاقياته، أو ضيق الأفق في فهم رسالته، وارتباطه بقوى الدعم يجعله يقفز في شؤون الأمة، بحسب مصالح صاحب القرار أو الداعم، فضلاً عن روح التخندق والأمّية السياسية والحضارية التي يعيشها، فيتعزز تأثيره السلبي.

 

وحُجبت عن المجتمع رؤى التنوير والنهضة المقاصدية الإسلامية، وحوار الأخلاق والشراكة من داخل الأوطان، أو المفاهيم النهضوية للتيارات، ومُنع الشباب من تدريج التعرف حتى على زوايا خصومهم الفكريين، في قضايا مشتركة بين العلماني والإسلامي، وفي قضايا مختلفة تسعها المساحة المدنية الواسعة في الإسلام، وكان الشباب المخلص من جمهور هذا الواعظ، طينة مرنة في بلدان المشرق العربي، فاستُخدموا لمقاومة فكرة الإصلاح الديمقراطي والإصلاح الديني والاجتماعي.

ورُفض الفكر الذي يقوم على معادلة المقاصد الإسلامية وليس نقضها، فبات أبناؤنا ضحية فكرية، عُلقوا بالتاريخ عاطفياً، دون تمحيص، فيما رُصّت عقائدهم، خارج الوعي الفكري الراشد المتدبر، فأصبحوا على صدمات عنيفة، حين نقضت عقائدهم باسم من عمّدهم، لأنهم ربطوا الإسلام به ولم يربطوا الإسلام بقانون الحق وبلاغه.

إننا هنا لا نوزع صكوك مسؤوليات، لكن نقول إن الحركة الإسلامية ووفقاً لرصد دقيق مباشر، ورحلات ميدانية ولقاءات وقراءات واسعة، لا تجحد دور الحركة الإسلامية الإيجابي وبعده التربوي، وكل واعظ أمين له شراكة محمودة، ولا تنكر مساهمات الحركة الإسلامية القيمية.

 لكن تؤكد على محطة كبرى تدعو لها بقوة، بأن تبدأ هذه الحركة إعلان مشروع إصلاح فكري عميق، تحيي بها سنة التجديد والتمحيص، التي أكدت عليه السُنة، لفهم الفكر الإسلامي وعلاقته بالدولة المدنية الحديثة، وبأفكار النهضة الإنسانية.

هذه المعادلة كان من الممكن أن تُساهم في خلق تفكير سياسي يدفع الضرر الأكبر، وفق التعامل مع السنن الكونية، التي هي من شريعة الله أيضا، وحماية الشباب من استغلالهم عبر منصات السوشيال ميديا المخابراتية لضعف وعيهم، والتي تلاعبت بعدد ضخم منهم وورطت شخصيات في حروب مذهبية وصراعات فكرية، خضعت لمواسم سياسية، ثم نُقضت لصالح دول الاستبداد، ونختم مذكرين بالمسؤولية الفكرية على الخطاب الإسلامي، أمام هذه الجموع الحائرة من الشباب.

حيث أن معركة البناء الفكري تسبق العمل السياسي، كما أن فترة السقوط السياسي المرير، تحتاج إلى استثمار موسمها كبنية ثقافية عميقة، لا تسمح بأن يُكرر إحباط الغلو والفوضى والتوجيه الوظيفي مستقبل الأمة وأقطارها، كما أسقط تجربة الحرية السورية وغيرها، بعد كل هذه الدماء، ليفتح بوابة الجحيم للمشروع الدولي الكبير، بعد أن استثمر ورطة الشباب باسم الغيرة على الدين، التي قد يوجهها ضابط مخابرات في ثوب واعظ أجير.

فمتى تبدأ المهمة ليكون العقل المسلم المعاصر في أوساط الشباب، واعياً لحياة التحدي الفكري الجديد، وأوله استقلال ذات الانسان المسلم من الاحتلال الثقافي المستبد والتطرف البغيض، فحرية العقل أول خطوة لحرية القرار.


: الأوسمة



التالي
أحكام جديدة بالإعدام في مصر! ثم ماذا بعد؟
السابق
عن مظاهرات إريتريا

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع