البحث

التفاصيل

روايات التعذيب في لبنان: علمتَ شيئاً وغابت عنك أشياء

عاش اللبنانيون على وقع فضيحة سجن رومية (السجن المركزي والأكبر في لبنان) لأيام. فأتت مشاهد تعذيب المساجين لتغلق الكثير من الملفات السياسية والأمنية وتضع اللبنانيين في سجال جديد انقسموا حوله كما هي العادة. وأمام هول المشاهد التي تم تسريبها، التقت "العربي الجديد" عدداً من المساجين السابقين في رومية وغيرها من الفروع الأمنية والسجون العسكرية للوقوف مجدداً أمام واقع السجون وأحوالها وأحوال من فيها. بعض هؤلاء خرج منذ سنوات وآخرون منذ أسابيع، إلا أنّ رواياتهم تتشابه ببشاعتها وظروفها كما لو أنّ الضرب والتنكيل هو النهج المعتمد في سجون لبنان. تفتح شهادات أربعة من المساجين "الإسلاميين"، الذين أطلق سراحهم، أبواب أقبية الحبس حيث كل شيء مباح، وتكشف عن الكثير من المستور فيه. ولأنّ تهمة "الإرهاب" جاهزة ولها سوقها في الدولة اللبنانية تماشياً مع "الحرب الكونية على الإرهاب"، فإنّ لـ"إرهابيي" رومية وغيره من السجون ما يحكونه ويشيرون إليه من آثار التعذيب التي لم تمحها السنوات والأشهر المنصرمة.

شهد الشاب أبو بكر (اسم وهمي أحبّ إطلاقه على نفسه)، على ما حصل في رومية خلال شهر أبريل/نيسان الماضي. يقول إنّ "ما تم تسريبه لا يعدو شيئاً مقارنة بحقيقة ما حصل"، مضيفاً أن "ثمة أشرطة أخرى تُظهر الكثير من التجاوزات والممارسات". الجميع كُبّلت أيديهم خلف ظهورهم وقُسموا إلى مجموعات وتناوبت عليهم عناصر من القوّة الضاربة التابعة لقوى الأمن الداخلي، "ضرباً بالعصي". يضيف أبو بكر أنّ "زياد علوكي وسعد المصري (اثنين من قادة المجموعات المسلحة في باب التبانة في طرابلس) كان لهما النصيب الأكبر من الضرب والذلّ والتعذيب". يحكي الكثير بصوت مرتجف كما لو أنه عاد إلى داخل أسوار رومية. حُكم عليه بالسجن سنة كاملة لاتهامه بالمشاركة بـ"أحداث طرابلس (شمالي لبنان، معارك بين مجموعات مسلحة داعمة ومعادية للنظام في سورية)".

أما تحسين (اسم افتراضي)، فقادر على إعطاء تفاصيل أكثر باعتباره شهد انتفاضتي رومية (أعمال الشغب التي شهدها السجن احتجاجاً على سوء إدارته وللمطالبة بتحسين واقع المساجين)، عامي 2014 و2015. عاش الشاب تفاصيل الانتفاضتين، حيث "دخلت القوّة الضاربة مستخدمة الرصاص المطاطي والقنابل الدخانية، فأصيب برصاصتين في رجله". ويؤكّد زميل له أنّ الرصاص المطاطي كان يُصوّب إلى الرؤوس والأرجل على حدّ سواء، فأصيب عدد من المساجين في رؤوسهم ومُنعوا لأسابيع من المعاينات الطبية، ففقد سجين عيناً وآخر خسر السمع في إحدى إذنيه. استخدم المقتحمون العصي البلاستيكية والكهربائية، "قيّدونا وطرحونا أرضاً وتمت معاملتنا بهذا الشكل لأيام". وبعد أول موجة من الضرب، "تدخل قوة أخرى من العناصر كانت مهمتها إطلاق الشتائم والسباب ونتف لحانا، يحملوننا منها ويطرحوننا أرضاً".

لكن لأبي علي (اسم افتراضي أيضاً) تفاصيل إضافية يرويها عن رومية. أُودع الرجل السجن عام 2007 بتهمة المشاركة في أحداث نهر البارد (معارك الجيش اللبناني ومجموعة فتح الإسلام في مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين، شمالي لبنان). يتحدث الرجل عن حفل الاستقبال الذي تُعدّه القوى الأمنية، "حيث تم استقبالنا بالضرب والدوس علينا وتكويمنا فوق بعضنا. ملؤوا "كوريدور" (الممر بين المهاجع) السجن بدمنا". استمرّ الاحتفال لثلاثة أيام متتالية تكررت فيها هذه الممارسات، والمحصلة كانت كسر ضلع وكتف ورجل أبي علي.

ويضيف الأخير أنّ بعض السجناء كانوا يشاركون في التعذيب أيضاً، "أحدهم من عملاء لحد (عملاء الجيش الإسرائيلي في جنوبي لبنان سابقاً) وعلى يده وشم نجمة داود". خلال أيام الاستقبال، يصطفّ السجّانون يميناً ويساراً على طول الممرّ في أحد طوابق السجن، ويجبرون المساجين الجدد على الركض على طول "الكوريدور" تحت ضربات الأسواط والعصي والجنازير. يرشّون الماء على القادمين الجدد لتنهال الضربات عليهم وتزيد الآلام والأورام وآثار الكدمات. أهلاً بكم في رومية.

لا تختلف الأمور كثيراً بين هذا السجن المركزي التابع لإدارة وزارة الداخلية وغيره من مراكز التوقيف والتحقيق والسجون التابعة للجيش اللبناني واستخباراته. أبو أحمد (اسم افتراضي) زار أكثر من فرع وسجن في لبنان في العام الماضي. طلبته استخبارات الجيش إلى أحد فروعها في الشمال، فذهب برجليه بحسب ما يقول، ليتمّ توقيفه وسوقه إلى سجن وزارة الدفاع (التابع لاستخبارات الجيش اللبناني). أمضى شهراً كاملاً من التعذيب في هذا السجن. يقول إنه "شيء لا يوصف"، ليضيف آخر أنّه "يتم استخدام "البالانكو" (رفع السجين مقيداً من يديه) أو رفعه مصلوباً من رجليه أو تركه بوضعية الجنين مكبل اليدين بالرجلين". بالإضافة إلى الضرب بالعصي وبأدوات حادة، والركل بالأرجل والجزمات العسكرية.

من الوزارة انتقل أبو أحمد إلى سجن الريحانية (التابع للشرطة العسكرية في الجيش اللبناني)، حيث تمنى لو بقي بيد استخبارات الجيش، بحسب ما يقول. تكرّرت الممارسات نفسها والذلّ نفسه، وكل هذا بلا تحقيق ولا قضاء ولا استماع لإفادته. فالتهمة جاهزة وحاضرة. انتهى حفل الاستقبال في فرعي الجيش ليتم نقل السجين إلى رومية حيث حفل استقبال آخر. لكن الأغرب في تجربة أبي أحمد أنه بعد مضي 11 شهراً في السجن وبعد كل هذه المعاناة وهذه الممارسات، "طلبوني إلى إدارة السجن وقالوا لي لا تؤاخذنا، نعتذر، فخرجت بريئاً". تكرر الأمر نفسه مع أبي علي الذي أمضى عامين في رومية وصدر حكم بحقه لعام واحد، الأمر الذي يدفعه إلى القول إنّ "99 في المئة من الموجودين في رومية بتهم الإرهاب أبرياء وأغلبيتهم الساحقة لم يتم التحقيق معهم حتى اللحظة وتعرضوا للتنكيل والضرب والحرمان".

تحوّلت السجون اللبنانية إلى نسخة أخرى من السجون العربية التي تكدّست الكتب والروايات عنها والتجارب فيها في المكتبات. من سجن العقرب (مصر) إلى المزة وتدمر وفرع فلسطين (سورية). كل هذا يدفع المساجين في لبنان إلى قول عبارات قهر وذلّ، "نحن بشر ولسنا حيوانات، كأن للحيوانات قيمة أكثر من البشر"، أو "إذا تم سجن كلب في غرفة وفي هذه الظروف سوف ينتفض ويعضّ". كانت مطالب السجناء بسيطة، بالحصول على مياه الاستحمام والشفة، على برادات وسخانات، على جهاز تلفزة، والحق بالتنزه ورؤية النور والشمس، بالإضافة إلى استعادة حق زيارة الأهل. كل هذه الأمور قد تكون الدولة اللبنانية تعتبرها من الكماليات لا تليق بالسجناء.

توضح هذه الشهادات أنّ التعذيب فعل مكرّس في السجون اللبنانية، التابعة للجيش اللبناني واستخباراته وللشرطة وقوى الأمن الداخلي أيضاً. كما تؤكد هذه المقابلات أنّ هذه الانتهاكات موجودة منذ زمن داخل السجون اللبنانية. من بين السجناء مرتكبون ومجرمون فعليون، منهم المتورّط بأحداث أمنية وبالانتماء لمجموعات مسلّحة ومتشددة، وآخرون يبيّن سير المحاكمات أن لا علاقة لهم بالملفات الأمنية التي يُحاكَمون على أساسها. فيطلق سراحهم بعد أشهر أو سنوات من توقيفهم.

في هذا الإطار لا بد من العودة إلى التقرير الذي أعدّه المدير العام السابق لقوى الأمن الداخلي، وزير العدل اليوم أشرف ريفي (في العام 2009)، والذي أشار فيه إلى أنّ "نسبة السجناء الموقوفين في السجون اللبنانية هي ثلثا مجموع السجناء، وهم الذين لديهم ملفات عالقة لدى القضاء اللبناني لفترة طويلة ولم يتم بت مصيرهم وإصدار الاحكام بحقهم". في حين أنّ النسبة الطبيعية، بحسب التقرير نفسه، تتوزع بين ثلثين للمحكومين وثلث للموقوفين.

فضيحة التعذيب، تضاهي أيضاً فضائح الأرقام في سجن رومية المفترض أن يستقبل 1050 سجيناً فقط، مودع فيه اليوم أكثر من 3200 سجين، أي أنّ مساحة كل سجين يستخدمها ثلاثة مساجين. وفي هذا الإطار قد يكون شافياً ما صدر عن منظمة "هيومن رايتس ووتش" بخصوص واقع السجون في لبنان لعام 2014، والتي أشارت إلى إن "رجال الأمن ضربوا المساجين باللكمات وبالعصي والكابلات في بعض الأحيان"، مشيرة إلى وفاة أحد المساجين (وهم فعلياً اثنان) بالإضافة إلى محاكمة أربعة عناصر وضابط من القوى الأمنية. فيخلص تقرير المنظمة الدولية إلى أنّ لبنان "أخفق في التصدي للانتهاكات القائمة". مع تأكيد تقارير جمعيات أهلية، منها جمعية حقوق الإنسان والحق الإنساني، على الحالة السيئة لجهة الاكتظاظ والتمييز، بالإضافة إلى سوء معاملة أكبر يعاني منها المساجين الأجانب في السجون اللبنانية.

تحاول الدولة اللبنانية إنكار هذا الواقع والقول إنّ ما حصل في رومية قبل أشهر مجرّد حادث عابر وتصرّف فردي. لكن الجميع يرى أنّ التعذيب بات مكرّساً في السجون وهو ما سبق أن أكدته لجنة مناهضة التعذيب في الأمم المتحدة، في تقريرها نهاية 2014، والتي أشارت في خلاصاته إلى أنّ "التعذيب ممارسة متفشية في لبنان تلجأ إليها القوات المسلحة والأجهزة لإنفاذ القانون لأغراض التحقيق". بات التعذيب جزءاً من السجون اللبنانية بمختلف فروعها وإداراتها.


: الأوسمة



السابق
روايات التعذيب في لبنان: علمتَ شيئاً وغابت عنك أشياء

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع